المماليك والعثمانيون في السياسة الدولية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

بحلول القرن العاشر بدأت الدولة العباسية تواجه بعملية تفتت ملحوظة وتنتقل السلطة من المركز إلى الأطراف، كما ووجه العالم الإسلامي بابتلاءين أساسيين خلال الزمن الذي تلا ذلك: الأول تمثل في حملات صليبية شبه متتالية وغير منقطعة لمدة تقرب من ثلاثة قرون، ثم هجمة مغولية شرسة من المشرق أطاحت بالشرعية الإسلامية السائدة ممثلة في الدولة العباسية، ووقعت مسؤولية إنقاذ العالم الإسلامي في أيدي دولة مصر في الأساس بمساعدة من سوريا والإمارات التركية المتناثرة والتي شكلت جميعها خط التماس في الصراع التقليدي على النظام الدولي، ولكن العبء الأكبر وقع على مصر، وكما أشرنا في المقال السابق فإن هذا الصراع الدولي خرج عن دائرة الصراع التقليدي بين الشرق والغرب ممثلا في ثنائية بغداد - القسطنطينية، ليصبح الآن موجات عاتية من الغزو الشمالي القادم من وسط أوروبا من ناحية ومن المغول شرقا من ناحية أخرى.

يلاحظ أيضا أن هذه الاختلافات صاحبها اختلاف أساسي آخر وهو التغير العرقي لتركيبة القوى المعنية بالصراع، فالطرف الأول ممثلا في الحملات الصليبية بالأساس خرج عن العباءة التقليدية للدولة البيزنطية فأصبح الطرف الفاعل في الصراع يتمثل في عرق جيرماني - فرانكي بالأساس انضمت له عناصر أنجلوساكسونية وغيرها، أما الدولة الإسلامية فوقعت مسؤولية الدفاع عنها على عاتق عرق غير عربي تماما وهم المماليك والأتراك ومن قبلهما عناصر كردية ممثلة في صلاح الدين الأيوبي ومن خلفهم جميعا الشعب المصري وشعوب الشام.

ليس مجالنا هنا سرد الحملات الصليبية الأساسية على الشام ومصر اعتبارا من نهاية القرن الحادي عشر، ولكن الثابت هو أن مصر لعبت الدور الدولي المحوري في الفترة التالية لهذا الغزو، وقد تكون المرة الأولى بعد عهد رمسيس الثاني التي تتبوأ فيها مصر مكانة أحد القطبين أو الثلاثة الدوليين وتكون في الوقت نفسه ممثلة للدولة الإسلامية برصيد معارك ضارية حماية للكيان الإسلامي، وعلى رأسها معركة «عين جالوت» عام 1258م والتي حالت دون المد المغولي، أما المعركة الثانية فتمثلت قبلها في «حطين» عام 1187م وما نتج عنها من كسر للزخم الصليبي في المنطقة.

هنا لعبت دولة المماليك دور القطب الثنائي في النظام الدولي، وقد تميز حكمها بمرحلة صراع في البداية أمكن بعده القضاء على بقايا الجيوب الصليبية وكسر المغول، ثم بدأت مرحلة من التعايش بينها وبين القوى الدولية المختلفة انتظارا لظهور المارد العثماني الجديد الذي قضى على هذه الدولة عام 1517 وورثها، كما استطاع كسر المد الشيعي المتمثل في الدولة الصفوية التي قامت في إيران والعراق والمناطق المتاخمة لهما.

لقد مثلت الدولة العثمانية تغيرا مهما وكبيرا في معادلة القوة الدولية، فهي الدولة التي استطاعت القضاء على اللاعب البيزنطي التقليدي وكسر عقدة التمدد الإسلامي في أوروبا الشرقية بعدما أسقط محمد الفاتح مدينة القسطنطينية عام 1453 واتخذها عاصمة للدولة العثمانية الفتية كاسرا بذلك المعادلة الاستراتيجية الدولية من خلال فرض الدولة العثمانية باعتبارها قطبا شبه أحادي على الساحة الدولية، وسرعان ما وصلت الجيوش العثمانية إلى أعتاب فيينا عام 1529، ثم نافس الأسطول العثماني بدعم من خير الدين برباروسا على السيادة في المتوسط واستولت الدولة العثمانية على أراض ممتدة في أوروبا والبلقان وباتت فكرة بسط النفوذ العثماني على القارة مسألة وقت، وعلى الرغم من أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة لم تكن بالقوة الموازنة للدولة العثمانية الصاعدة، لكنها استطاعت أن تواجه هذا المد من خلال الحشد العسكري لها وللدويلات الأوروبية المختلفة في شمال المتوسط وفي وغرب ووسط أوروبا، وخاصة أن دولة فرنسا بدأت تشد عودها كما بدأت دولة إسبانيا تساهم في الجهد العسكري لمواجهة هذا الخطر المحدق القادم من الشرق.

لقد فشلت موجة الزحف الإسلامي على القارة الأوروبية مرة أخرى وكان آخرها الحصار الثاني لفيينا عام 1683، وبعد ذلك بدأت الدولة العثمانية تدخل مراحل الترهل السياسي والاقتصادي تدريجيا، كما أن بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها دولة الهابسبورغ (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) وروسيا بدأتا تضغطان على هذه الدولة وتستقطعان منها الأراضي تدريجيا، حتى جاءت اتفاقية «كوتشوك كاينارجي» بين روسيا والدولة العثمانية عام 1774 لتكون الإعلان الرسمي عن ضعف هذه الدولة مقارنة بالدول الأوروبية السائدة، وهذا التاريخ يضع حدا لأي فرصة أو محاولة إسلامية للعب الدور السياسي القوي والفاعل في النظام الدولي، فبنهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر أصبح النظام الدولي مفتتا ومبنيا على أساس فكرة توازن القوى بين كبار أطراف اللعبة السياسية ممثلة في روسيا وإنجلترا وفرنسا والنمسا (دولة الهابسبورغ)، ومن بعدهم دولة بروسيا، فلم تعد القوة في القارة الأوروبية موحدة في أيدي هيمنة دولة رومانية أو بيزنطية أو إمبراطورية رومانية مقدسة، وهي السمة الدولية التي فتحت المجال أمام توزيعات القوة داخل المجتمع، فلم تلعب هذه الدولة أي دور إيجابي يذكر، بل استمرت في حالة شيخوخة ممتدة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عندما وزع المنتصرون في الحرب أراضيها الأوروبية والشرق أوسطية إما باستقلال الدويلات وإما في إطار نظام الانتداب كما حدث مع مقاطعات سوريا وفلسطين والعراق.. إلخ.

ومع نهاية الخلافة العثمانية انفرط عقد التكتل الإسلامي والذي كان الظاهرة الملحوظة على امتداد فترة ثلاثة عشر قرنا من الزمان حتى وإن تخللها انتقال القوة من مركز إلى طرف داخل الدول الإسلامية كما رأينا، ولكن هذا كان متوقعا بالنظر لانتشار الفكر القومي كبديل للخلافة الإسلامية، وبالتالي فقد واجه العالم الإسلامي لأول مرة في العهد الحديث لحظة الفطام السياسي من دولة الخلافة الإسلامية بمزيج من القلق والتطلع للفكر القومي، وخاصة أن كثيرا من أراضيه كانت واقعة تحت الاحتلال الغربي، ولكن هذه كانت سمة السياسة الدولية، فعهد الدولة الكبرى المهيمنة كان قد انتهى.

لقد انهارت الخلافة الإسلامية بشكل كامل مع القضاء على الدولة العثمانية، ولكن في التقدير أن هناك عددا من العوامل الأساسية التي أثرت بشكل سلبي على دور الدولة الإسلامية على المسرح الدولي كقوة سياسية، ليس فقط على الدولة العثمانية بل الدولة العباسية ومن قبلها الأموية والخلافة الراشدة، وهي الأمور التي سنتناولها في المقال القادم بإذن الله.

*كاتب مصري