إسطنبول مرة أخرى

TT

لقد سعدت كثيرا عندما كنت أستقل الطائرة إلى مدينة إسطنبول العريقة في مهمة عمل، وهذه كانت الرحلة العشرين لي لهذه المدينة الجميلة والعظيمة والتاريخية في آن واحد، فها هي الطائرة تقترب إلى مدينة كانت في يوم من الأيام مركز الكون كله ومحط أنظار العالم حتى قرون قليلة مضت، فها هي أطراف المدينة المترامية في مرمى البصر من الطائرة، فترى فيها صناعة التاريخ، وتتأمل فيها حرفة الجغرافيا، وتستلهم منها أبعاد الجمال، فهي مدينة في أحضان خط التماس بين القارة الأوروبية والآسيوية، تربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة من خلال مضيق البوسفور المهم الذي يعد مضيقا استراتيجيا وتاريخيا مهما، وهذه المدينة تكاد تكون شاهدا على حلقات تعد من أهم حلقات التاريخ السياسي للإنسانية، فقد شهدت عظمة الإمبراطوريتين البيزنطية والعثمانية على حد سواء، كما أنها مثلت نقطة الصراع بين الدول الإسلامية المتعاقبة من ناحية والغرب من ناحية أخرى.

وأذكر أنني بدأت أتذكر تاريخ هذه المدينة العريقة، فإذ بي أتأمل أطروحتين لم تخطرا ببالي من قبل، فشاركتهما مع ثلاثة مثقفين كانوا يحضرون معي المؤتمر نفسه الذي كنت أحضره، فإذ بهم يمعنون التفكير لفترة غير قليلة يحاولون نفي أو إثبات الطرحين؛ تضمنت الأطروحة الأولى أن مدينة اسطنبول يمكن أن تكون أكثر المدن التي تسلطت عليها الأضواء الدولية لقرون ممتدة تصل لقرابة أربعة عشر قرنا من الزمان بشكل يكاد يكون متتاليا، فهي كانت «عروس السياسة الدولية»، فلم تغب عنها شمس السياسة الدولية طوال هذه المدة باستثناء عقود قليلة في بعض المراحل المضطربة، أما الأطروحة الثانية فهي أن هذه المدينة قد تكون الوحيدة التي لعبت دور العاصمة لعدد من الأقطاب الدوليين، فلا أذكر أن التاريخ يشير إلى مدينة أصبحت عاصمة دولة قطب ثم ورثتها الدولة القطب المتنافسة.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه المدينة وُضع أساسها في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت ذات طابع يوناني، لكن الرونق الحقيقي لهذه المدينة بناه الإمبراطور الروماني قسطنطين في عام 324م، وتغيرت تسميتها لتصبح على اسمه، ثم صارت هذه المدينة عاصمة الدولة البيزنطية بعد ذلك، لكن قوتها السياسية لم تعل عليها إلا قوتها الثقافية والدينية، فلقد أصبحت مركز الثقل للحضارة الغربية بعد سقوط دولة روما في القرن الخامس الميلادي، كما أنها كانت مركزا تجاريا مهما يربط بين الشرق والغرب، وكذلك بين الشمال والجنوب، فأصبحت هذه المدينة مركز الكون بعد ذلك لقرون قادمة، يقصدها الساسة والمثقفون والتجار والعلماء إلخ..

لقد تميزت هذه المدينة بكونها من أكثر المدن تحصينا، فقد سعت الإمبراطورية البيزنطية لضمان أمنها من خلال تحصينها بجدران شاهقة حالت دون اقتحامها، بل إنها استطاعت على مدار قرون ممتدة أن تستعصي على الدول الإسلامية المتعاقبة التي حاولت بسط سيطرتها عليها، وعلى الرغم من استعصائها على المسلمين فإنها خرت ضحية للحملات الصليبية شأنها شأن بعض المدن والأقليات الأوروبية التي شاء حظها العثر أن تكون في طريق هذه الحملات الهمجية في سبيلها للأراضي المقدسة بفلسطين، فكانت أغلبية هذه الحملات تمر عبر مدينة إسطنبول، وهو ما جعلها تسعى لأن تنأي بنفسها عن هذه الحملات الهمجية دون جدوى، ومع ذلك فقد فقدت قدرتها على الصمود أمام الغزو اللاتيني لها خاصة بعد الموجات اللاحقة للحملات الصليبية، لكنها عادت لتستقل من جديد.

لقد شهد القرنان الرابع عشر والخامس عشر صمودا قويا لهذه المدينة أمام الموجات العثمانية المتتالية، لكن عام 1453 شهد سقوطها على أيدي السلطان محمد الفاتح، والغريب في الأمر هو أن المدينة ظلت مستعصية على الرغم من أن الدولة العثمانية كانت قد عبرت إلى القارة الأوروبية وسيطرت على أراض في البلقان وشرق أوروبا، فصمودها ظل قويا على الرغم من كونها محاصرة من القوة الإسلامية البازغة، لكنها استسلمت فجاء غزو هذه المدينة من الشمال والجنوب على حد سواء، بل إن كتب التاريخ ترسم صورة ملحمة فتح هذه المدينة والعبقرية العسكرية للسلطان محمد الفاتح الذي وضع اللمسات المهمة مستخدما سفنه وسلاح الحصار والتحرك السريع لفتح هذه المدينة من أضعف نقاطها.

لقد جعل العثمانيون مدينة القسطنطينية عاصمة لبلادهم بعد أن كانت مدينة بورصة أولى عواصمهم، وقد تم تغيير اسم المدينة في ما بعد للأستانة. وعلى الفور لجأ السلاطين العثمانيون إلى وضع بصمتهم على المدينة، فشيدوا الجوامع والقصور. وأذكر أنه خلال إحدى زيارتي السابقة لهذه المدينة قدم أحد المرشدين لنا شرحا للابتكارات المعمارية التي قادها كبير مهندسي الدولة «سنان» وعلى رأسها جامع السليمانية، وهو تحفة فنية ومعمارية في مدينة تحتوي على نماذج عديدة لمثل هذه الآثار وعلى رأسها «هجا أو آية صوفيا» التي كانت تعد أكبر كنيسة وتم تحويلها بعد الغزو إلى جامع، وحقيقة الأمر أن هذه المدينة هي متحف مفتوح لمثل هذه الأعمال.

لقد كانت إسطنبول مركزا للعالم الإسلامي ولحركة فكره، وقد شهدت هذه المدينة أوج قوة الدولة العثمانية، كما شهدت مراحل احتضار هذه الدولة ومعها الخلافة الإسلامية، غير أنها استسلمت لمصيرها السياسي المحتوم بعد أن أُلغيت الخلافة الإسلامية، ولجأت الجمهورية التركية الجديدة لنقل العاصمة من هناك إلى مدينة أنقرة التي عشت فيها أربع سنوات وأنا في مقتبل عمري، لكنها أبدا لم تحظ بنفس الدور الذي احتلته مدينة إسطنبول في أنفس الجميع بمن فيهم الأتراك ذاتهم، فأنقرة صارت العاصمة السياسية، بينما العاصمة التجارية والمالية والإعلامية والاجتماعية ظلت في إسطنبول.

لقد مر بي شريط الذكريات التاريخية وأنا في هذه المدينة التاريخية الجميلة، ومع انتهاء المؤتمر الذي كنت أشارك فيه قال لي أحد الأصدقاء الثلاثة ردا على الأطروحتين السابقتين إنه لم يستطع أن ينفيهما، وإنه يتجه لقبولهما على أنهما حقيقة تاريخية، فقلت له مبتسما إن هناك أطروحة ثالثة محتملة وهي أن إسطنبول هي المدينة والعاصمة الكبرى الوحيدة التي تقع بين قارتين.

* كاتب مصري