نانسي بيلوسي.. ملهمة نساء أميركا

احتفلت مؤخرا بمرور ربع قرن عليها في الكونغرس.. وأول امرأة تعتلي ثالث أعلى المراتب السياسية في الولايات المتحدة

TT

ليست شخصية حديدية مثل مارغريت ثاتشر، أو شخصية عنيدة مثل هيلاري كلينتون، أو خاضت معارك سياسية شرسة مثل أنديرا غاندي، لكنها استطاعت حفر اسمها في التاريخ الأميركي بنعومة وهدوء وصبر لتكون أول امرأة تعتلي ثالثة أعلى المراتب السياسية في تاريخ الولايات المتحدة، وهو منصب رئيس مجلس النواب (بعد منصبي الرئيس ونائبه).

وهي تفخر بكونها أول امرأة تحتل هذا المنصب، وتضيف دائما «أول امرأة أميركية من أصل إيطالي». قال عنها الرئيس أوباما إنها قائدة غير عادية للشعب الأميركي. وقالت عنها مجلة «كريستيان ساينس مونيتور»: «لا نرتكب خطأ عندما نقول إن نانسي بيلوسي هي أقوى امرأة في السياسة الأميركية وأقوى رئيس لمجلس النواب مند نصف قرن». وتحل بيلوسي دائما ضيفة على قائمة مجلة «تايم» لأقوى الشخصيات السياسية تأثيرا.

البعض يصفها بالفراشة التي تزداد إشراقة خلال المعارك السياسية، ويظهر في عينها بريق التحدي عندما تحتدم المناقشات، وتحارب بضراوة من أجل تنفيذ أهداف حزبها. والبعض يدمن انتقادها وتوجيه أشد اللكمات السياسية إليها، لكن رغم ذلك تقف صامدة، سعيدة وفخورة بمشوارها الممتد إلى ربع قرن داخل الكونغرس.

في أحدث معاركها السياسية، دافعت نانسي بيلوسي عن قانون الرعاية الصحية بضراوة حتى قضت المحكمة العليا يوم الخميس الماضي بدستورية القانون الذي اقترحه أوباما عام 2010، والذي يقضي بأن يحظى كل أميركي بتأمين صحي، ويؤمن القانون ضمانا صحيا لنحو 32 مليون أميركي، بما يعني انتصارا دراميا وتاريخيا للرئيس أوباما وللحزب الديمقراطي قبل شهور قليلة من الانتخابات الرئاسية. وقالت بيلوسي إن القرار هو انتصار للشعب الأميركي، ومع هذا الحكم يستفيد الأميركيون من الرعاية الصحية مع خفض التكلفة على الطبقة المتوسطة، وبتمرير هدا القانون نحن نصنع التاريخ لأمتنا وللشعب الأميركي.

وقد احتفلت بيلوسي (72 عاما) الشهر الماضي بمرور خمسة عشرين عاما على عملها في مجلس النواب، واحتفى بها مجلس النواب باعتبارها مصدرا للإلهام لجميع النساء والفتيات في الولايات المتحدة وحول العالم. ووقف أعضاء مجلس النواب لتحيتها، وألقى زعيم الأقلية الديمقراطي ستيني هوبر كلمة للاحتفاء بها، وأشاد رئيس مجلس النواب الجمهوري جون بوينر بشخصيتها وتاريخها وبعلاقة العمل الطويلة التي تربط بينهما وقال «إنني أستمتع بقدرتنا على العمل معا».

بدأت حياة بيلوسي السياسية عندما رشحها الحزب الديمقراطي عن المقاطعة الخامسة من ولاية كاليفورنيا عام 1987 ونجحت في الانتخابات، وأعيد انتخابها عشر مرات من دون أن تواجه منافسة حقيقية، وفازت في تلك المرات العشر بنسبة تفوق 75 في المائة من الأصوات. ورسخت بيلوسي قدميها بقوة داخل الكونغرس، ورأست عددا من اللجان المهمة بما في ذلك لجنة الاعتمادات والتعليم والموازنة ولجنة الاستخبارات. وتعد بيلوسي هي أول امرأة تأخذ منصب زعيمة الأقلية في مجلس النواب، وأول امرأة تقود الحزب الديمقراطي في المجلس، لتصبح بعد ذلك في عام 2007 أول امرأة ترأس مجلس النواب في تاريخ الولايات المتحدة وتحمل رقم 60، وظلت في هذا المنصب أربع سنوات. وفي أحد اللقاءات الصحافية سألها الصحافيون كيف تجد وظيفة رئيس مجلس النواب؟.. فأجابت بيلوسي بابتسامة عريضة «إنها رائعة.. حقا رائعة».

ويؤكد الباحث نورمان أورنستين، المتخصص في الدراسات التشريعية، أن الكونغرس رقم 111 تحت قيادة نانسي بيلوسي كان أكثر المجالس إنتاجية في التاريخ الأميركي. ومن إنجازاتها التشريعية قانون لحماية المرض وقانون إنعاش الاقتصاد الأميركي وإعادة الاستثمار وقانون الأعمال الصغيرة وقانون المسؤولية المالية، وإصلاح وول ستريت وقانون لمعالجة فيروس نقص المناعة الإيدز ومشروع حماية حاملي البطاقات الائتمانية.

ولنانسي مواقفها الصامدة في مجال الدفاع عن مواقف الحزب الديمقراطي في قضايا التعليم والعدالة الاقتصادية وتوفير الفرص لجميع الأميركيين والدفاع عن البيئة وبرنامج الرعاية الصحية وحماية حقوق الإنسان، إضافة إلى دعمها لإصلاح قوانين الهجرة ودعم المرأة وتنظيم الأسرة. والمعروف عنها دفاعها القوي عن الطبقة المتوسطة وزيادة الحد الأدنى للأجور وتقديم المساعدات المالية للطلاب. ودافعت بيلوسي عن قدامى المحاربين في حربي العراق وأفغانستان، وقادت الجهود المبذولة لمكافحة أمراض مثل الإيدز والسل والملاريا.

وتعد نانسي من الشخصيات المقربة للرئيس باراك أوباما والأكثر تأييدا لسياساته وأفكاره، وبعدما خسر الحزب الديمقراطي انتخابات التجديد النصفي، وانتزع الجمهوريين الأغلبية في مجلس النواب عام 2010، سرت تكهنات بأنها ستنسحب من زعامة الديمقراطيين، وربما تستقيل من الكونغرس بعد الانتصار الكاسح للجمهوريين، بما ينذر بعرقلة جدول أعمال أوباما الذي دعمته بيلوسي. لكن بيلوسي بقيت واستمرت وأعلنت أنها تنوي البقاء والكفاح من أجل حماية إنجازات الحزب الديمقراطي التشريعية.

وتخطط بيلوسي للتقاعد بعد عشر سنوات لتستمع بصحبة أحفادها. وتقول عن بداية عملها السياسي إنها منذ خمسة وعشرين عاما وخمسة أشهر، لم تكن تفكر في أنها سترشح نفسها لمجلس النواب، وجاءت الفرصة إليها بعد أن وعدت سارة بيرتون، إحدى عضوات الكونغرس في الثمانينات، بأن ترشح نفسها. وتروي «لقد تربيت في جو مشحون بالانتخابات في عائلتي في بالتيمور، وقلت لنفسي أنا أعرف كيف أربح الانتخابات، وعندما رشحت نفسي كانت هناك 20 امرأة في الكونغرس، والآن أصبحن 80 سيدة، لكن هذا العدد ليس كافيا وسوف يستغرق الأمر منا 200 عام حتى نصل إلى عدد متساو بين الرجال والنساء في عضوية الكونغرس».

يقول عنها المقربون إنها في سباق دائم مع الزمن لتحقيق تمكين للمرأة في المجال السياسي، وأن تحقق المساواة السياسية بين الرجل والمرأة. وتقول بيلوسي عن نفسها «أنا في حرب دائمة لزيادة عدد النساء في السياسة، لكني لا أعتقد أن هذا ممكن ما دامت اللعبة السياسية تقودها الأموال وليس الأفكار». وتشير بيلوسي إلى أن المرأة تواجه تحديات أكبر عند جمع الأموال للحملات الانتخابية لأنها تواجه وقتا عصيبا لكسب المصداقية لدى المتبرعين الأغنياء، ومعظمهم من الرجال.

دخلت بيلوسي معارك كثيرة مع الجمهوريين، وواجهت اتهامات كثيرة من معارضيها، والبعض وصفها بملكة الجنون عندما وصفت الحملة على وزير العدل إيريك هولدر مؤخرا بأنها جزء من مؤامرة يقودها الجمهوريون لتقويض كفاحه ضد قمع الناخبين. ورغم نجاحها السياسي وصعودها القوي، وتمتعها بحياة عائلية هادئة، فإن شعبية بيلوسي وسط الأميركيين متدنية ولا تتعدى 33 في المائة وفقا لتقرير مركز راسموسن الشهر الماضي.

ولا تتوقف الصحف ووسائل الإعلام المساندة للحزب الجمهوري عن مهاجمتها وإطلاق النكات عليها وإظهارها في رسومات كاريكاتورية ساخرة، بل إن منافسها جون دينيس أظهرها في إعلان ترويجي لحملته عام 2010 في دور الساحرة الشريرة. لكن الهجوم عليها أكسبها التعاطف أكثر من جانب الديمقراطيين وفتح بابا للسخرية والتندر من جانب الجمهوريين.

تقول إحدى النكات عن بيلوسي إن مساعدها ذهب إلى أسقف الكاتدرائية الكاثوليكية في واشنطن، وطلب منه أن يقول كلمات تظهر أن بيلوسي قديسة أثناء حضورها قداس اليوم التالي، فأجاب الكاردينال «أنا لا أحب هذه المرأة، وهناك قضايا خلافية بين الكنيسة وبينها»، فأعطاه مساعد بيلوسي شيكا بـ100 ألف دولار تبرعا للكنيسة، وفي المقابل وعده الكاردينال بأن يلبي طلبه. وفي اليوم التالي جلست بيلوسي في مكان بارز بالكنيسة، وقال الكاردينال للحاضرين «معنا اليوم السيدة بيلوسي، وهذا على الأرجح شرف للبعض، لكنها ليست شخصية مفضلة لي، وبعض آرائها تتنافى مع تعاليم الكنيسة، وهي شخصية تافهة، ومنافقة، وحمقاء وكاذبة، وسارقة ولا يمكن الوثوق بها». ثم أضاف الكاردينال «لكن إذا ما قورنت بالرئيس أوباما، فالسيدة بيلوسي قديسة».

تقول جيل لورانس، المحررة بجريدة «هاف بوست» السياسية، إن عددا كبيرا من الأميركيين الجمهوريين لا يحب بيلوسي، وهي تعد هدفا سهلا للانتقادات. وقد أثارت انتقادات عديدة عندما قالت إنها تملك القبض على كارل روف - المستشار السياسي للرئيس جورج بوش الابن ورئيس طاقم الموظفين - وسجنه في زنزانة بالكونغرس.

وعندما سألها الصحافيون عن إحساسها بعد ربع قرن من العمل في مجلس النواب منذ انتخابها في عام 1987، أشارت بيلوسي إلى أنها تعهدت منذ انتخابها بالعمل لمكافحة مرض الإيدز. وقالت «لم أكن أتخيل أن الوقت سيمضي من دون أن نجد علاج لهذا المرض، ويبدو أنه ما زال أمامنا الكثير من العمل».

بعض المحللين السياسيين والمؤرخين يجدون في بيلوسي مثالا لقصص النجاح والصعود خاصة أن قصة نجاحها تحمل مزيجا من دراما الأسرة المهاجرة إلى أرض الأحلام وكفاح المرأة من أجل الوصول إلى أرقى المناصب السياسية، فقد حصلت المرأة الأميركية على حق التصويت في عام 1929، لكنها كافحت طويلا حتى دخلت كعضو منتخب إلى الكونغرس في السبعينات من القرن الماضي، لكن بيلوسي تبرز كأول شخصية نسائية منتخبة، تمكنت من الوصول إلى ثالث أهم منصب في السياسة الأميركية بعد منصب الرئيس ونائبه وهو منصب رئيس مجلس النواب.

داخل مبنى الكونغرس، من السهل أن ترى بيلوسي في مجلس النواب تتنقل كالفراشة بين الردهات، وتلقي بتحيتها للصحافيين، وأحيانا تقف لتجيب عن بعض الأسئلة، وفي عينيها بريق دائم لا يخفت. وتعد بيلوسي واحدة من النساء اللاتي حققن نوعا من التوازن بين المظهر الأنثوي الأنيق والشخصية المؤثرة في الدوائر السياسية الأميركية وتميزت بتايورات أنيقة وإكسسوارات هادئة.

نشأت نانسي باتريشيا ديلانزانروا بيلوسي في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند، لعائلة إيطالية أميركية تنتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية. من مواليد 26 مارس (آذار) 1940. تولى والدها منصب رئيس بلدية مدينة بالتيمور وظل بالمنصب لمدة 12 عاما. واندمجت نانسي في العمل العام وخدمة المجتمع، وتزوجت من رجل الأعمال بول بيلوسي عام 1963 بعد أن أنهت دراستها في جامعة ترينيتي واشنطن، وأنجبت بنتين (ألكسندرا وكريستين) وابنا هو بول بيلوسي جونيور.

وفي عام 1981 انخرطت في العمل السياسي بانضمامها إلى الحزب الديمقراطي، ثم رشحها الحزب عن الدائرة الثامنة في سان فرانسيسكو عام 1987 ونجحت بأغلبية تصويت بلغت 80 في المائة. وتزعمت بيلوسي الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب عام 2003 لتصبح أول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تقود تكتلا حزبيا داخل الكونغرس. وانتخبت بيلوسي رئيسة لمجلس النواب بأغلبية 223 صوتا.

كان لبيلوسي موقف معارض للحرب على العراق، وكانت واحدة من بين 126 عضوا ديمقراطيا في مجلس النواب الذين صوتوا ضد استخدام القوة في العراق عام 2002، وقالت عنها «إنها كارثة أخلاقية كبيرة للبلاد»، لكنها عادت وصوتت لصالح تمويل الحرب بعد أن دخلت القوات الأميركية إلى العراق. وخلال عملها كرئيسة لمجلس النواب قامت بيلوسي بعدة زيارات لمنطقة الشرق الأوسط خاصة سوريا والعراق ومصر ولبنان.

وفي وقت تدنت فيه العلاقات السورية الأميركية إلى أدنى مستوياتها، قامت بيلوسي بزيارة لسوريا في عام 2007 مخترقة الحظر المفروض على الحوار مع سوريا، ومتحدية لسياسات الرئيس جورج بوش الذي رفض أي حوار مع سوريا. ودافعت عن زيارتها بقولها إنه لا بديل عن الحوار والتفاهم لتصويب علاقة واشنطن الخاطئة بدول المنطقة وقضاياها، وإنه من الضروري فتح باب الحوار الذي أغلقه المحافظون الجدد من خلال الاتصال بالأطراف المعنية مباشرة من دون الاعتماد على القنوات التقليدية.

ومثلما فاجأت الجميع بزيارة سوريا، قامت بيلوسي في سبتمبر (أيلول) بزيارة تاريخية إلى هيروشيما، وهو الموقع الياباني لضحايا القنبلة النووية الأميركية عام 1945، وانحنت بيلوسي أمام النصب التذكاري من أجل السلام ووضعت أمامه باقة من الزهور.