النفط.. ورقة الضغط الأخيرة

استخدمه المنتجون مرة فثار المستهلكون وطالبوا بتحييده.. والآن بات خيارهم لترويض النظام الإيراني

TT

ما بين 1954، والأول من يوليو (تموز) 2012، مسافة زمنية تقترب من 60 عاما، تغيرت فيها كثير من معالم السياسة والاقتصاد، ليس إيرانيا فقط بل عالميا. وخلال هذه الفترة تغيرت التحالفات بكل صورها وأشكالها، كما تغيرت مراكز القوى الإقليمية والعالمية.. تغير العالم كما لم يتغير من قبل، ولكن طيلة هذه المدة الزمنية الطويلة نسبيا، لا يزال النفط هو المادة الحيوية والمهمة للاقتصاد العالمي التي يطالب كبار المستهلكين دائما بتحييدها في الصراعات السياسية والعسكرية، لأنه سلاح ذو حدين.

في البداية، استخدم النفط كسلاح أشهره المستهلكون عام 1954، ثم عاد المنتجون فاستخدموه خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، فثارت الدنيا، وضغط المستهلكون بكل السبل من أجل تحييده.. لكن المستهلكين أنفسهم عادوا وأشهروه 3 مرات من أصل 4، آخرها الحظر الأوروبي على واردات النفط الإيرانية الذي دخل حيز التنفيذ الأول من يوليو الحالي.

يقول خبير نفطي تحدث لـ«الشرق الأوسط» إن الملاحظ على العقوبات النفطية على إيران هو حالة السعادة التي عكستها تصرفات الجميع سواء من أصدر العقوبات أو المستهلكون أو المنتجون، وحلفاء إيران، والوحيد غير السعيد بهذه العقوبات الخانقة هو نظام طهران.

وقبل معرفة أسباب هذه السعادة، لنعُد إلى تاريخ الحظر النفطي، ففي عام 1954 صدر قرار بالحظر على الخام الإيراني، وكان الحظر موجها ضد حكومة محمد مصدق لإسقاطها بعد أن أوقفت الشركات الغربية شراء النفط من ميناء عبادان الإيراني. وبعد عام 1991 وحتى عام 2003، تم حظر النفط العراقي، وبإجماع دولي، ضد نظام صدام حسين، وصدر حينها ما يسمى بقانون «النفط مقابل الغذاء»، وكان هذا الحظر هو الوحيد الذي صدر بقرار أممي من مجلس الأمن. وفي عام 2012 أصدرت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات ضد إيران بسبب ملف طهران النووي شملت فيما شملت حظر بيع نصف صادرات إيران من النفط.

المرة الوحيدة التي مارس فيها المنتج استخدام بضاعته كسلاح كانت في عام 1973 ضد الداعمين لإسرائيل، في تلك المحاولة استخدم العرب وحلفاؤهم السائل الأسود سلاحا للضغط على الدول الداعمة لإسرائيل حتى توقف إمدادها بالسلاح في حربها ضد العرب.

يقول كامل الحرمي الخبير النفطي الكويتي: «دائما ما تروج الدول الكبرى مقولة إن النفط مادة حيوية يجب ألا تستخدم كعقوبة دولية»، لكن الدول الغربية استخدمت النفط كسلاح وفي أكثر من مرة.

بدوره، يرى المفكر الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية أن استخدام الحظر النفطي كان آخر الحلول أمام الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بعدما فشلت سلسلة العقوبات في إثناء الإيرانيين عن توجهاتهم النووية.

ويبين الدكتور عبد الخالق عبد الله أن الدول الغربية تحاشت النفط طوال السنوات الماضية، ولم تضعه على قائمة العقوبات إلا بعد أن عجزت عن ترويض النظام الإيراني.

وبحسب عبد الله، فإن هذا العام هو الأسوأ بالنسبة للإيرانيين، منذ 10 سنوات؛ فطهران تمر بسنة صعبة من الناحية الاقتصادية، فقد تراجعت صادراتها النفطية نحو 30 في المائة باعتراف مسؤولين إيرانيين، على الرغم من أن وكالة الطاقة الذرية في فيينا تشير إلى تراجع الصادرات الإيرانية لنحو 40 في المائة، مما دعا طهران لاتخاذ إجراءات من بينها ادخار العملات الصعبة، حسب تأكيد مسؤوليها.

يقول الدكتور راشد أبا نمي، الخبير النفطي السعودي: «العقوبات النفطية كانت آخر ملاذ»، مشيرا إلى أن الدول الغربية لم تتنكر لفكرة «النفط مادة حيوية يجب ألا تستخدم في الصراعات السياسية.. ولكن إزاء التعنت الإيراني كان لا بد من اتخاذ إجراء مثل هذا».

ويضيف: «استخدام الحظر النفطي جاء بالتبعية لأنه يشكل ركيزة أساسية في الموارد الاقتصادية للنظام الإيراني، وكان آخر أهداف العقوبات، لذلك جاء في سياق عقوبات مالية واقتصادية شاملة هي الأقسى على نظام طهران». ويتابع: «الدليل على أن الهدف اقتصادي مالي من العقوبات، أنه لا يزال هناك 50 في المائة من الخام الإيراني يصدر ويباع في الأسواق ومستثنى من العقوبات».

ووفقا للإحصاءات الحكومة الإيرانية، ففي عام 2010، كانت الإيرادات النفطية تشكل نحو 35 في المائة من إجمالي الإيرادات الحكومية، بينما يقدر صندوق النقد الدولي العائدات النفطية بـ75 في المائة من إجمالي الإيرادات الحكومية. وهنا يقول تركي الحقيل، وهو خبير اقتصادي سعودي، إن «الفرق بين إحصاءات الحكومة الإيرانية وصندوق النقد الدولي، أن أرقام صندوق النقد الدولي تتضمن الإيرادات الناتجة من الصناديق السيادية التي تملكها طهران، وتم إنشاؤها من الإيرادات النفطية، في حين تشير أرقام الحكومة الإيرانية إلى الإيرادات التي يتم تحصيلها مباشرة من المبيعات النفطية».

وفي خضم الأحداث، نقلت وكالة «مهر» الإيرانية للأنباء عن محمود بهماني، محافظ البنك المركزي الإيراني، قوله: «نطبق برامج لمواجهة العقوبات، وسنواجه هذه السياسات الخبيثة»، وأضاف أن تأثير العقوبات كان قويا، لكن إيران تمكنت من ادخار 150 مليار دولار من النقد الأجنبي.

وفي إطار التحضير للعقوبات على الخام الإيراني، تم اتخاذ خطوة على قدر كبير من الأهمية، وهي طرد البنك المركزي الإيراني، ومعه نحو 37 بنكا إيرانيا من شبكة البنوك العالمية منذ منتصف مارس (آذار) الماضي، وهي المرة الأولى التي يتخذ فيها قرار بطرد بنك مركزي من النظام العالمي.

هذه الخطوة التي اتخذت قبل بدء سريان الحظر على الخام الإيراني أغلقت بشكل كبير تقريبا جميع القنوات المالية التي تمر عبرها الأموال الناتجة عن بيع الخام النفطي الذي يشكل الركيزة الأساسية للاقتصاد الإيراني، مما يجعل النظام المالي الإيراني خارج النظام العالمي.

أمام وضع اقتصادي يزداد ترديا هل يمكن إن يقدم النظام الإيراني على خطوة مثل محاولة إغلاق مضيق هرمز، التي هدد بها أخيرا؟! الخبراء النفطيين الذين تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» يستبعدون أن تقدم إيران على خطوة هكذا، ويعدون ذلك لعدة أسباب، منها (كما يؤكد الدكتور راشد أبا نمي) أن «التلويح فقط بإغلاق المضيق مكلف ماديا للدول المنتجة والدول المستهلكة، لأنه يرفع بوليصة التأمين على النفط الذي يمر عبر المضيق، والسبب الآخر (كما يقول كامل الحرمي) أن إيران تعرف أن المضيق يشكل أمن الطاقة العالمي ولن تجازف بعداء كل دول العالم، فلديها (كما يقول الحرمي) ما يكفي من الأعداء. ويمر نحو 45 في المائة من الإنتاج العالمي من النفط عبر مضيق هرمز.

المقاطعة (بحسب الدكتور أبا نمي) ستستمر لفترة طويلة، والدليل (كما يقول) أن التحضير لها استغرق وقتا، حيث بدأ الحديث عنها منذ عام تقريبا، وتم الإعلان عنها في شكلها النهائي منذ ستة أشهر، وستستمر لفترة أطول.

ويقول الخبير إن «الاقتصاد الإيراني لن يصمد طويلا أمام هذه العقوبات الخانقة.. وكل طرق الاحتيال عليها ستكون بمثابة تأجيل مؤقت لنهاية محتومة». ويضيف: «العقوبات على الخام الإيراني خانقة تستهدف نقل النفط وشراءه وتحويل الأموال الناتجة عن مبيعاته.. كما أن الأنظمة المالية تتحكم فيها كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.. وهو ما يصعب الأمر أكثر فأكثر».

الأمر الآخر (كما يقول الخبير النفطي) أن الخدمات اللوجيستية التي تقوم عليها الصناعة النفطية تتحكم فيها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وأن 90 في المائة من شركات التأمين التي تقدم خدماتها على النفط هي شركات أوروبية وأميركية.

ويبقى أمام الإيرانيين عدة خيارات لا يوجد بينها خيار جيد، وهي إما اللجوء إلى التأمين على صادرات الخام الإيراني عبر شركات إيرانية محلية من الصعب قبولها لدى المستهلكين، وهذا إجراء بدأ فيه النظام الإيراني حيث اتحدت مجموعة من شركات التأمين لتشكيل تكتل مالي يمكن أن يوفر غطاء تأمينيا للنفط المصدر.

وهذه الخطوة (كما يقول الحقيل) تعني أن يتحمل المنتج (إيران) تكاليف نقل الإمدادات. أما الخيار الثاني، فهو المقايضة بالسلع، ولكن هذه الطريقة لن توفر العملة الصعبة التي يحتاجها الاقتصاد، وهناك خيار ثالث وهو بيع النفط في السوق السوداء لكن مردوده المالي سيكون ضعيف.

يقول الدكتور راشد أبا نمي إن الـ50 في المائة المعفاة من النفط الإيراني التي لا تشملها العقوبات حاليا، سيجري تخفيضها بشكل تدريجي، والدول التي تم استثناؤها لن يكون ذلك إلى ما لا نهاية، وإنما لفترة محددة حتى يتأقلم الاقتصاد العالمي مع الوضع، متوقعا أن تشمل العقوبات بنهاية العام الحالي 75 في المائة من الخام الإيراني، ولا يبقى إلا 25 في المائة تباع بشكل قانوني في الأسواق العالمية.

لكن ما النتيجة المرتقبة للعقوبات، أحد السيناريوهات التي يتوقعها الخبراء هو إفلاس إيران أو دفع الشارع لتغيير النظام أو الرضوخ للمطالب الدولية. يقول الدكتور أبا نمي إن العقوبات ستتوسع بشكل آلي وتدريجي وستضيف مزيدا من كميات الخام الإيراني لقانون العقوبات، وسيشتد الخناق على طهران، وستستمر طويلا حتى يحدث انهيار اقتصادي للنظام الإيراني، أو إن هذه العقوبات ستحرك الشارع الإيراني وتحدث فيه بعض القلاقل ويتحرك لتغيير النظام، أو أن تذعن إيران لمطالب المجتمع الدولي وتتخلى عن البرنامج النووي.

في التصور الآخر يقول الدكتور عبد الخالق عبد الله: «كل العقوبات الدولية التي تم فرضها وبجميع أشكالها العميقة والذكية لم تحقق، في 70 في المائة منها، الأثر الذي وضعت من أجله، فقط 30 في المائة هي التي كانت ذات جدوى وأحدثت أثرا، إما بالتراجع عن قرارات أو بالتغيير في السياسات».

ويضيف: «هذه العقوبات مهما كانت حدتها لن تجعل نظام طهران يتخلى عن برنامجه النووي، هذا الأمر مستبعد» كما يقول الدكتور عبد الخالق عبد الله، لكن العقوبات تقول فلتذهب إيران في برنامجها النووي إلى النهاية لكن هناك ثمن يجب على طهران أن تدفعه وسيكون الثمن مكلفا، ويضيف أن هذه العقوبات لطهران ولمن يريد أن يسلك طريق نظام طهران؛ بأن الثمن سيكون فوق التحمل.

ويتابع عبد الله أن إيران دولة خارجة عن القانون ولا تنفذ التزاماتها الدولية والهدف من العقوبات هو إيصال رسالة إلى إيران وقادتها بأن الذهاب بعيدا في البرنامج النووي سيكون له ثمن فوق الاحتمال.

ومع بدء سريان العقوبات، أعلن وزير الخارجية البريطاني، ويليام هيغ في اليوم الأول من بدء سريان الحظر النفطي على الخام الإيراني، أن العقوبات ضد إيران التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من يوليو (تموز) تعتبر «الأقسى» التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي.

وأكد هيغ أن «عقوبات نفطية لا سابق لها دخلت حيز التنفيذ»، مضيفا أنها «الإجراءات الأقسى التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي حتى الآن ضد إيران، وتظهر تصميمنا الفعلي على تكثيف الضغط الدبلوماسي على الحكومة الإيرانية».

على الجانب الآخر، نقلت وكالات الأنباء غداة تطبيق العقوبات على طهران قول وزير النفط الإيراني رستم قاسمي إن العقوبات لا تطرح أي مشكلة، ولن يكون لها أي تأثير، وإن حكومة بلاده اتخذت القرارات اللازمة، وهي مستعدة تماما لمواجهتها.

وأكد قاسمي أن النفط الإيراني ما زال يباع في الأسواق الدولية وتوقف قسم من الصادرات إلى أوروبا فقط، مؤكدا أن إيران وجدت زبائن جددا.

إلا أن الأمور ليست كما قال الوزير الإيراني، فعلى الصعيد العملي سار الحظر النفطي بسلاسة، وفقدت إيران كثيرا من زبائنها؛ ففي يوم الأربعاء الماضي قال مسؤول رفيع في وزارة الطاقة الكينية إن كينيا ألغت اتفاقا لاستيراد أربعة ملايين طن من النفط الخام الإيراني سنويا بسبب العقوبات الدولية المفروضة على إيران.

وفي الواقع، وفي بحر أربعة أيام من بدء سريان العقوبات، نقلت «رويترز» عن باترك نيوكي، الوكيل الدائم لوزارة الطاقة قوله: «وقعنا مذكرة تفاهم لكن يجري إلغاؤها»، وأضاف: «يوجد حظر على النفط الإيراني، لا نريد أن نتورط في تعقيدات القضايا الدولية بين الحكومات».

كما أعلنت اليابان أنها لن تستورد أي كميات من النفط الإيراني في يوليو الحالي، في حين أحجم المشترون عن التعاقد على كميات من الخام الإيراني لتفادي مخاطر الوقوع تحت طائلة عقوبات الاتحاد الأوروبي التي تستهدف شركات التأمين، مما أضر بشكل حاد بإمدادات الخام الإيراني.

وستنضم اليابان إلى كوريا الجنوبية ضمن كبار المشترين الآسيويين في وقف جميع الواردات من النفط الإيراني هذا الشهر، نظرا للعقوبات التي فرضت يوم الأحد الماضي، التي تستهدف خفض صادرات الخام الإيراني، لإجبار طهران على وقف برنامجها النووي.

وفي ذات السياق، نقلت «رويترز» إعلان تركيا خفض مشترياتها من النفط الإيراني بنسبة 10 في المائة إضافية.

لكن لماذا قررت الدول المنتجة الالتزام بسد أي نقص قد يحدث في أسواق النفط العالمية؟ هنا يقول كامل الحرمي: «الملف النووي واحد من أسباب ترك إيران وحيدة أمام العقوبات، فمثلا تدخلات إيران في دول الخليج جعلت الأخيرة تتحالف مع المجتمع الدولي وتوفر كميات من النفط توازي حصة إيران، كما تعهدت هذه الدول بدعم الأسواق».

وفي ذات السياق، يقول الدكتور عبد الخالق عبد الله إن إيران تمارس دورا سلبيا في محيطها الإقليمي، لذلك تحالف الجميع ضدها، وبالعودة إلى الخبير النفطي كامل الحرمي يقول: «إن الملاحظ على هذه العقوبات حالة التماهي الدولي والتحالف بشكل أو بآخر ضد إيران فالكل سعيد بها؛ الهنود والصينيون واليابانيون سعداء لأنهم سيحصلون على نفط رخيص وفي بعض الأحيان بالمقايضة، وحلفاء إيران، مثل روسيا وفنزويلا سعداء، فهم لم يخفضوا إنتاجهم حتى يزيدوا الضغوط على المستهلكين بل يريدون أسعارا أعلى ومداخيل أكبر، ودول الخليج العربي تنتج بمستويات مرتفعة وسعيدة بذلك، والمستهلكون يحصلون على برميل نفط في حدود 100 دولار حاليا، والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي نفذت العقوبات ولم تتأثر أسعار النفط».