رحلة مع ثلاثة كتاب

د. محمد عبد الستار البدري

TT

في اعتقادي أن هناك قاسما مشتركا يربط بين ثلاثة كتاب هم «ابن إياس» و«هنري كيسنجر» و«ابن رشد»، وذلك على الرغم من أن ثلاثتهم لا تربطهم ببعضهم بعضا أي صلة تاريخية، بل إن كل واحد منهم عاش في أزمنة وأماكن مختلفة عن الآخر، لكن هناك قاسما أساسيا مشترك بالنسبة لي وهو أنني غالبا ما لم أستطع إنهاء بعض كتبهم للنهاية، وهذه مشكلة شخصية عندي وأنا أعترف بذلك. وعلى عكس ما قد يتوقعه البعض فهذه المقالة ليس هدفها نقد هؤلاء الكتاب الثلاثة، بل العكس هو الصحيح، فهم في تقديري من أهم من كتبوا في السياسة أو التاريخ أو الفلسفة، أو في كل هذه الموضوعات معا، لكني أدعو القارئ العزيز لقراءة هذه الكتب التي أشير إليها، واعتقادي أنه سيجد المشكلة نفسها التي عانيت منها، من عدم قدرته على عبور بوابات الفصول الأولى لبعض كتبهم.

لقد ظهرت هذه المشكلة بعدما توقفت عند بوابة الجزء الأول لكتاب العلامة التاريخي الشهير «ابن إياس» والمعنون «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، وهذا الجزء قرابة ستمائة صفحة يحكي فيها كتمهيد القرون المؤدية لبداية حكم دولة المماليك في مصر، وحقيقة الأمر فإنني قرأت هذا الجزء أكثر من أربع أو خمس مرات، وكل مرة أقرأه بنفس الشغف والسعادة، فهو يقدم ما أعتبره «الحامض النووي (DNA)» للتركيبة السياسية المصرية والعربية على مدار أربعة قرون مطولة يشرح فيها النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي لهذا البلد وبعض الأقطار المجاورة، خاصة ما يتعلق منه بالثقافة السياسية والسلوك السياسي للحكام والرعية على حد سواء. كما تلفت الانتباه الحكايات الخاصة بالخلفاء الشيعة مثل الحاكم بأمر الله والبذاءات المرتبطة بسلوكه وأبيات الشعر المرتبطة بحكمه والتي يستحي القلم نقلها، كما أنه يشرح كيف استطاع حكام مصر أن يبسطوا نفوذهم فيها كلٌ بطريقته متغلبا إما على المعارضة الداخلية أو الاحتلال الخارجي أو الاثنين معا.

لقد وصلت لقناعة شخصية، أغلب الظن أن هناك من وصل إليها من قبلي لكني كنت أجهلها، وهي أن الشعراء في هذا الزمن كانوا يلعبون دور الإعلاميين في زمننا نحن، فالكاتب لا يختلف عن سنة المؤرخين الإسلاميين، فكتابه مليء بالأشعار الجميلة والمعبرة، فنجد مثلا أحد الشعراء يمتدح صلاح الدين الأيوبي فيقول:

«رب كما ملكتها يوسف الصديق من أولاد يعقوب يملكها في عصرنا يوسف الصادق من أولاد أيوب» كذلك ينافق شاعر آخر أحد الخلفاء الفاطميين فيقول:

«ما زلزلت مصر من خوف يراد بها لكنها رقصت من عدله طربا»..

كما كان هناك أيضا شعر الهجاء، الذي كان كذلك إحدى الوسائل المرتبطة بالمعارضة السياسية للسلاطين، ومنه على سبيل المثال المتنبي الذي يقول في هجاء كافور:

«السيد ليس بحر صالح بأخ لو أنه في ثياب الحر مولود لا تشتري العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد»..

ولكل هذه الأسباب لم أستطع تخطي الجزء الأول من الكتاب، ولا يزال يبقى لي أن أقرأ الأجزاء المتبقية حول تاريخ الدولة المملوكية، لكنني أعترف بأنني كنت أقرأ كثيرا من هذه الأجزاء عندما كنت بحاجة للتعرف على دور بعض سلاطين المماليك في تاريخ المنطقة العربية، خاصة أن هذه الأجزاء تسير بشكل زمني، ويستعرض فيها الكتاب أحداث كل سنة على حدة، فمنها السنوات المهمة، ومنها سنوات نغوص خلالها في تفاصيل ليست ذات متعة للقارئ.

أما الكاتب والمفكر والسياسي الأميركي الشهير هنري كيسنجر فقد كانت بداية عهدي به عندما قرأت له عددا من كتبه خاصة كتاب «سنوات البيت الأبيض»، الذي شرح فيه أوضاع العالم عندما كان وزيرا للخارجية، خاصة ما يتعلق منها بحرب 1973. وعلى الرغم من اختلافي مع مقاصده السياسية التي لا تتوازى ومصالحنا كعرب، فإن للرجل منطقا في التاريخ وأسلوبا في التحليل لا ينافسه فيه الكثير، وأكثر كتبه التي أثرت في كان كتابه «إعادة ترميم العالم: مترنيخ وكاسلري وقضايا السلام»، وهو في حقيقة الأمر رسالة الدكتوراه الخاصة به والتي حولها لكتاب في ما بعد، وفي تقديري أن هذا الكتاب يمثل سيمفونية سياسية وتحليلية لكيفية استعادة الساسة الأوروبيين النظام الأوروبي بعد انتهاء الحروب النابليونية عام 1814 عقب هزيمة فرنسا، وكيف وقعت مسؤولية صياغة هذا النظام على وزير خارجية دولة النمسا «مترنيخ» الذي أطلق عليه «رجل الدولة القاري»، ونظيره البريطاني «كاسلري» الذي أطلق عليه «رجل الدولة الجزيري» لأن بلاده كانت دولة جزيرية، وبالفعل استوقفني دائما أول فصلين من الكتاب حيث كان الرجل يقدم شرحا لدور الجغرافيا في صناعة السياسية الخارجية للدول، وكيف أن أولويات «كاسلري» اختلفت تماما عن «مترنيخ»، فالأول كان هدفه دائما ألا تتحد القارة الأوروبية حتى لا يتم ذلك على حساب مصالح دولته التي كان البحر يفصلها عن القارة، وبالتالي فقد لجأ دائما لتطبيق مبدأ توازن القوة لتفريق أي توحد أوروبي.. أما مترنيخ فكان يمثل فكر دولة قارية، ليست لها حدود بحرية فاصلة، بل كانت دولة محاصرة من كل الجهات، فكانت فرنسا القوية من الغرب تمثل خطرا كبيرا عليها، تماما مثل روسيا العملاقة في الشرق وبروسيا الصاعدة من الشمال، وكل هذه الأمور دفعت مترنيخ لأن يسعى لجمع الشمل الأوروبي للاتفاق حتى لا تتحول أوروبا إلى ساحة حرب مجددا.

ويقدم كيسنجر في هذين الفصلين أيضا لوحة متقنة لتوزيعات القوة الأوروبية الدقيقة والحرفية السياسية لرجلي الدولة في صناعة الفكر والسياسة الخارجية لبلدهما ومعهما القارة الأوروبية برمتها، وقد كان هذان الفصلان دائما ما يحبطان من عزيمتي على قراءة باقي الفصول التي أعترف بأنها لا تقل أهمية عنهما، لكني أعترف أيضا بأنني تغلبت على هذه المشكلة بعد برهة زمنية طويلة.

أما ابن رشد، فأذكر أنني درست فلسفته ومدرسته الفلسفية وآثارها على تطور الفكر الغربي أثناء الدراسة الجامعية، لكن أول عهدي بكتابه «تهافت التهافت» كان عندما كنت في زيارة لمكتب أحد زملائي، وكان عنده هذا الكتاب باللغة الإنجليزية، فقرأت أول صفحتين، ثم عدت لقراءتهما مرة ثانية، ثم قررت شراء الكتاب باللغة العربية، وعرفت خلفيته حيث كان العلامة يرد من خلاله على كتاب «تهافت الفلاسفة» للعلامة الكبير «الغزالي»، وقد سعى ابن رشد من خلال كتابه لشرح عظمة الفلسفة ودورها في حماية الدين وليس الوقوف ضده، وأن الفلسفة ليست أداة للضلالة والكفر، وحقيقة الأمر فإنني أذكر أنه في كل مرة كنت أبدأ فيها قراءة هذا الكتاب فإنني لم أكن أتخطى الصفحة الثامنة منه على أقصى تقدير، وانتهى بي الحال لأن أوقفت المحاولات ولجأت لكُتاب آخرين قدموا لي شرحا وافيا لما سعى لإبرازه هذا الفيلسوف حول العلاقة بين الفلسفة ممثلة في منهج العلية والإيمان، وتأكيده عدم وجود تضارب بينهما، وقد أخرني دائما عن التقدم في قراءة هذا الكتاب سعي ابن رشد الحثيث لشرح العلاقة بين الواقع كما تفرضه الخواص الفكرية من ناحية والميتافيزيقيا كما يستلهمها العقل بحواسه وأنماط فكره من ناحية أخرى (وهو ما يعني عمليا عزيزي القارئ أنني وجدت صعوبة في فهم الصفحات السبع الأولى لأعبر منها لما بعد الصفحة الثامنة).

* كاتب مصري