ومضات جزائرية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

أكتب هذه السطور بعد أن غادرت لتوّي دار الأوبرا المصرية بمناسبة الاحتفالات بالعيد القومي الخمسين للجزائر وتأبين ذكرى الفنانة العظيمة «وردة الجزائرية»، وقد وجدت نفسي وسط حشود المصريين والعرب ندمع ونحن نسمع فرقة المايسترو العظيم «سليم سحاب» تغني أغنيتها الشهيرة «على الربابة» التي اشتهرت بها أثناء حرب أكتوبر (تشرين الأول) المجيدة. ولقد كانت بالفعل لحظة مؤثرة شهدت دموعا اندفعت ومشاعر تأججت وأحزانا استشرت، فلقد ذكَّرت الحضور بدولة الجزائر العظيمة وما قدمته للتاريخ، فوجدت نفسي أستعرض في ذاكرتي ثورة التحرير الجزائرية، وأراجع الخطأ الشائع بأنها دولة المليون شهيد، بينما هي قدمت في الحقيقة أكثر من هذا الرقم.

وقد تذكرت كل هذا وأنا أستمع لأغاني وردة وأرى الدموع على وجناتنا أو في أعيننا جميعا، والحقيقة أن الأمر كان أكبر من وردة وأعمق من ثورة تحرير، فهو تاريخ شعب له مكانته في العروبة والإسلام، تاريخ شعب عريق حارب أسوأ أنواع الاستعمار ومحاولات الفرنسيين على مدار مائة واثنين وثلاثين عاما، قاوم خلالها عدوا لا طاقة له به ولم يستسلم، فحارب المستعمر وغزوه الثقافي بفكر قوي وثابت لأمثال «ابن باديس»، والذين أسهم فكرهم في المحافظة على الهوية الجزائرية أمام تيارات الفرنسة مستمسكين بعروبتهم ودينهم.

إن تاريخ الجزائر مليء بالمحطات العظيمة المضيئة، لكنني سأقتطف هنا بعض ثمرات شجرة تاريخه العريقة خارج نطاق المحطات شيوعا، وهي الومضات التي طفت إلى سطح الذاكرة في هذه اللحظات وأذكر بعضها على النحو التالي:

أولا: لعل أول ما يخطر على بال المرء عند الحديث عن الجزائر هو سيرة الأمير العظيم عبد القادر الجزائري، الرجل الذي بدأ رحلة كفاحه الشهيرة ضد المستعمر الفرنسي عقب احتلال بلاده مباشرة، فلقد آل إليه لواء الجهاد والوطنية بعد أن آثر والده ترك هذه المهمة، والذي كانت الظروف قد أهلته بالفعل لهذه المسؤولية الشاقة، فكان الرجل فقيها فيلسوفا، أي ينطبق عليه لفظ «رب السيف والفكر». وبالفعل بدأ الرجل ينظم المقاومة الجزائرية تنظيما دقيقا مقسما قواته إلى فرق مختلفة لكل واحدة منها دورها في المقاومة، كما استحدث تكتيكا جديدا وهو فكرة العاصمة المتنقلة حتى لا تسقط المقاومة بسقوط أي مدينة كبرى. وقد لجأ الأمير عبد القادر إلى استراتيجية المواجهة العسكرية في بادئ الأمر فلقن الجيش الفرنسي درسا قاسيا وهزمه شر هزيمة في عدد من المواقع، مما دفع القوات الفرنسية لإبرام الهدنة معه، لكن ليس لمدة طويلة، إذ سرعان ما أرسلت فرنسا المدد العسكري تلو الآخر، مما جعل لها ميزة نسبية قوية للغاية خاصة مع التفوق العسكري سواء في العدة أو التعداد، وهو ما دفع الأمير عبد القادر إلى اتباع سياسة حرب العصابات المعروفة بالـ«Fabian Tactics» لاستنزاف العدو، وهذا من جانبه دفع القائد الفرنسي الجديد «بيجو» لاستحداث سياسة حرق الأرض وممارسة كل أنواع القمع والوحشية بما جعل الأمير يدرك أن استمرار الحرب لا جدوى منه، وهو ما يذكرنا بسياسات عسكرية اتبعها جنرالات هتلر في صربيا وغيرها من الدول التي احتلها، وقد أدى هذا إلى تضاؤل فرص نجاح المقاومة واستمرارها مع تضييق الخناق عليه بسبب الضغط الفرنسي على المغرب لوقف مساعداتها له، إضافة إلى تقليب الاستعمار نفوس الكثير من زعماء القبائل ضده، ومع تكالب كل الظروف آثر الأمير الاستسلام فتم سجنه في فرنسا، حتى تولى نابليون الثالث سدة الحكم في البلاد فأكرم مثواه وحقق له رغبته بالنفي إلى الشام، حيث أقام في دمشق حتى مماته، وخلال هذه الفترة كان الرجل يُدرس في الجامع الأموي، كما كان مقصدا للكثير من المفكرين والسياسيين والثوريين، ويرصد له التاريخ أنه أوقف العديد من الفتن بين المسيحيين والمسلمين بالشام أثناء وجوده. وبعد وفاته، تم نقل رفاته إلى وطنه الحبيب الجزائر حيث يرقد فيها اليوم كرمز لبطل مقاومة.

ثانيا: قد يتحمل محمد علي باشا والي مصر بعض المسؤولية عما آلت إليه الأمور في الجزائر من استعمارها من قبل فرنسا، فلقد جرت مفاوضات بعد أزمة ضرب القنصل الفرنسي بالمروحة، حيث كانت وزارة الملك «لوي فيليب» تبحث إمكانية قيام محمد علي بإرسال تجريدة إلى الجزائر تقوم برد الشرف الفرنسي، وذلك قبيل حسم فكرة الغزو الفرنسي واستعمار الجزائر بسبب الظروف السياسية الداخلية في البلاد، وقد رأت القيادة الفرنسية أنها ستضمن نوعا من الحكم الفرنسي بالوكالة من خلال مصر، وقد فاتح قنصل فرنسا في القاهرة الوالي في هذه الفكرة، لكن الرجل لم يتأخر كثيرا في الاعتذار عن عدم تلبيتها على الرغم من أن فرنسا كانت شريكته في مشروع النهضة العلمية والعسكرية والثقافية في مصر، لكن حقيقة الأمر أن الوالي المصري كانت له وجهة نظر أخرى، فلقد رأى أن في شرق مصر أمن البلاد، فلقد كان يستعد بالفعل للانقضاض على الشام بالجيش المصري وانتزاعها من السلطان العثماني لتكون قاعدة متميزة تسمح له بضم البلاد التي تتحدث العربية إلى حكمه وتزيد من ثقل مصر خاصة أن الشام كانت بلادا غنية، ومع ذلك فقد أوضح للقنصل الفرنسي أن إرسال جيش مصري إلى الجزائر كان أمرا محفوفا بالمخاطر، فالجزائر تبعد عنها آلاف الكيلومترات ولا يمكن ضمان الإمدادات على الرغم من الوعود الفرنسية بالمساعدة. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: ما الذي كان سيحدث لو أن محمد علي قبل دعوة فرنسا؟ تُرى كيف كان التاريخ سيتحول؟ وهو سؤال تصعب الإجابة عنه بكل تأكيد.

ثالثا: لا يمكن أن نتحدث عن الجزائر من دون أن نذكر أمير البحار «خير الدين بارباروسا» أو الذقن الحمراء كما كان يطلق عليها في المدن الأوروبية. وحقيقة الأمر أن هذا الرجل على الرغم من أنه يوناني المولد عثماني الهوية، فإن اشتغاله بالبحر والدفاع عن الدولة العثمانية ضمن عمارتها في مناسبات عديدة جعله من أبرز الشخصيات في تاريخ الجزائر، فقد ورث الرجل دور أخيه كوالٍ للجزائر نيابة عن الباب العالي، وقد جعل الرجل الجزائر مركزه لشن الغارات على السواحل الأوروبية، كما جعلها مركزا لأسطوله الكبير والقوي الذي هاجم من خلاله إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، حيث كانت الأخيرة في ذلك الوقت هي القوة العظمى في المنطقة بعدما اكتشفت القارة الأميركية. وقد كفل حُسن تقديره وقدرته على السيطرة على البحر المتوسط سيطرة الدولة العثمانية على الملاحة في أجزاء كثيرة من البحر المتوسط، وهي السيادة التي فقدتها الدولة العثمانية الإسلامية بمجرد أن مات «خير الدين» خاصة بعد معركة «ليبانتو» البحرية التي كانت محورية وفاصلة في ضياع السيادة البحرية للمسلمين على المتوسط، ولو أنه كان موجودا لكان يمكن للتاريخ أن يأخذ منعطفا مختلفا.

* كاتب مصري