أجهزة الرعب السورية.. السلسلة تتفكك

حصدت «خبرة» في التعامل مع الناس.. وسمعتها الوحشية سلاحها الأول

الرئيس السوري بشار الأسد يتوسط مجموعة من القيادات العسكرية بينهم وزير الدفاع العماد داود راجحة في الذكرى الـ 38 للحرب العربية الإسرائيلية (أ.ف.ب)
TT

منذ وصوله إلى السلطة اعتمد الرئيس حافظ الأسد (الأب) على تدعيم سلطاته وركائز حكمه عبر الأجهزة الأمنية. وحسب الأصول الدولية كان من المفترض أن تخضع هذه الأجهزة الرقابية لرقابة مؤسسات الدولة وتنفذ رؤيتها في حماية الوطن من أي اختراق خارجي، لكنها في ظل النظام البعثي حولت سوريا إلى بلد أمني، تحصى فيه أنفاس المواطنين وتراقب سلوكياتهم.

فالأمن الذي من واجبه أن يبعث الطمأنينة في نفوس الناس تحول في سوريا إلى أداة مرعبة تعمل على تدجينهم وإسكات صوتهم. لكن الثورة التي اندلعت في 15 مارس (آذار) من العام الماضي، كسرت حاجز الصمت ومعه حاجز الخوف، وتحولت هراوات التعذيب في الأقبية إلى أسلحة بيد رجال الأمن يتصدون بها للمتظاهرين. ومع وقوع التفجير الذي وقع بمبنى الأمن الوطني وحصد أرواح عدد من أهم رجالات الأمن في البلاد، بينهم وزير الدفاع ونائبه، ووزير الداخلية، ومعاون أمني لنائب الرئيس.. بات واضحا أن أجهزة الرعب بدأت سلسلتها في التفكك.

كان اعتماد النظام في سوريا بشكل كامل على الأجهزة الأمنية لإيقاف المد الشعبي للحراك الثوري من محافظة إلى أخرى. في درعا كان الصدام الأول مع أجهزة الأمن عندما قام عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي وابن خالة الرئيس الأسد، بتوجيه إهانات إلى أهالي أطفال طالبوا بإطلاق سراح أبنائهم الصغار بعد كتابتهم لشعارات مناهضة للنظام على جدران مدارسهم. وخلال أيام وشهور الانتفاضة وجد السوريون المحتجون أنفسهم يتعرفون عبر الاعتقالات الأسبوعية أو اليومية أحيانا على مختلف فروع الأمن وأقبية التعذيب وأوكارها.

وقد عاش السوريون لعقود من الزمن خلال حكم البعث تحت وطأة 16 جهازا أمنيا يتدخلون بأبسط تفاصيل حياة المواطن العادي من حفلات الأعراس وتجمعات المقاهي، مرورا بافتتاح المطاعم ومحلات الألبسة. وشاركت الأجهزة الأمنية بفعالية في كل نواحي الحياة في سوريا من إعلام ودبلوماسية وسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية وسائر الفعاليات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد اكتسبت المخابرات السورية عبر تراكم معرفتها خلال مدة طويلة مهارات في التعامل مع الشعب السوري كأفراد وكعائلات وعشائر وطوائف وقوميات، بالإضافة إلى خبرتها في إدارة كل مؤسسات الدولة والمنظمات الوسيطة بين الدولة والمجتمع بطرق غير مباشرة.

ومن أبرز هذه الأجهزة وأكثرها نفوذا وقوة، المخابرات العسكرية (الأمن العسكري) التي كان لها دور كبير من ملاحقة المنشقين عن الجيش السوري النظامي وتصفيتهم، ويتبع لهذا الجهاز «فرع فلسطين 235» السيئ السمعة. هذا كان من المفترض أن يتولى مهمة مكافحة التجسس الإسرائيلي، إلا أنه وفقا لناشطين في الحراك الثوري فإنه تفرغ لقمع الثورة وتعذيب المتظاهرين واشتهر بتسليم أكبر عدد من جثث المعتقلين إلى أهاليهم بعد قتلهم تحت التعذيب. كما يتبع لهذا الجهاز فرع أمن الضباط و«فرع 211» المتخصص بقضايا الإنترنت والاتصالات، إضافة إلى فرع الدوريات الذي حصل بالقرب منه انفجار القزاز الكبير.

ويترأس اللواء علي ملوك جهاز أمن الدولة المعروف باسم المخابرات العامة ويتبع لهذا الجهاز «فرع 252»، حيث يقوده العميد حافظ مخلوف ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد وأخو رجل الأعمال المعروف رامي مخلوف. وقد تضاربت الأنباء عن مصير العميد حافظ مخلوف بعد حضوره لاجتماع خلية الأزمة في مقر الأمن القومي الذي تعرض للتفجير أول من أمس. كما يتبع لجهاز المخابرات العامة «فرع 279» وهو متخصص بشؤون الإعلام والصحافة يقوم بمراقبة الكتاب والصحافيين ووسائل الإعلام ومواقع الإنترنت ويترأسه العميد غسان خليل.

أما جهاز الأمن السياسي الذي يتبع نظريا لوزارة الداخلية ويعتبر الأكثر وجودا وتغلغلا في المجتمع السوري. فيقوده اللواء ديب زيتون. ويتولى قادة الفروع الأمنية التابعة لهذا الجهاز مسؤولية الأمن في كل محافظة سوريا ويعد فرع الفيحاء في دمشق من أهم فروع هذا الجهاز وأكثرها نفوذا.

وفي حين يتولى جهاز أمن الرئاسة تأمين الأمن الخاص للرئيس بشار الأسد، حيث يتبع له شخصيا، فإن جهاز المخابرات الجوية التي يترأسها حاليا اللواء جميل حسن وتتبع للقوات المسلحة، وتحديدا الجوية، يعد أكثر الأجهزة وحشية ودموية في التعامل مع المحتجين على النظام الحاكم، حيث رصدت المعارضة السورية الكثير من ممارسات هذا الجهاز وضحاياه، أبرزها جريمة اقتلاع حنجرة الناشط السوري غياث مطر وقتله في أحد أقبية هذا الجهاز. كما تلعب فرقتان عسكريتان في الجيش النظامي دورا أمنيا داخليا في عمليات القمع ضد المتظاهرين. هما الحرس الجمهوري الذي يهيمن عليه أقرباء الرئيس السوري والفرقة الرابعة التي يقوده شقيقه ماهر.

ولم تكتف الثورة السورية بكسر حاجز الخوف، لا سيما بعد اتخاذها لخيار العسكرة في مواجهة نظام الأسد، فأصبحت الأجهزة الأمنية هدفا للثوار، وبدأت عمليات تصفية ضباط النظام المتورطين بأعمال القتل. كما استهدف الثوار فروع الأمن أكثر من مرة في أكثر من مدينة، وجرى خطف لبعض ضباط وصف ضباط وعناصر الأمن شمل أحيانا قيادات أمنية كبيرة قديمة وحديثة، مع محاولات لاغتيال البعض بطرق مختلفة. وجاءت عملية تفجير مقر الأمن القومي في حي الروضة المحصن أمنيا، تتويجا لسلسلة ضربات وجهت إلى القيادة الأمنية للنظام الحاكم. هذه العملية أسفرت عن مقتل قادة أمنيين كانت أسماؤهم تزرع الرعب في صدور السوريين لعقود من الزمن، أبرزهم آصف شوكت، صهر بشار الأسد، ومن أكثر الشخصيات التي تستقطب غضب وبغض المعارضين للنظام.

ويقول خبير مهتم في الشؤون الأمنية في سوريا «إن الأجهزة الأمنية في سوريا قد لعبت دورا رئيسيا في قمع المحتجين المطالبين بإسقاط النظام، فخلية الأزمة التي سربت وثائقها السرية إلى الإعلام مؤخرا، كانت قد شكلت في بداية الأزمة لإدارة المهمات الأمنية في كافة المحافظات السورية». ويشير الخبير في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الخلية تضم كبار القادة الأمنيين في البلد، إضافة إلى شقيق الرئيس ماهر الأسد المسؤول عن قيادة الفرقة العسكرية الرابعة، وترسل هذه الخلية بعد كل اجتماع تقريرا مفصلا إلى مكتب الرئاسة لإعلام الرئيس بآخر التطورات الميدانية. ويلفت الخبير إلى أن هناك اختلافا كبيرا في آراء قادة الأجهزة الأمنية مما ينعكس على قراراتهم ويخلق تضاربا في آليات عملهم، إلا أنهم يتفقون على شيء واحد هو قمع الشعب السوري، كما يشير إلى أن «المعارضة السورية حاولت بشقها العسكري تنفيذ عملية ضد أعضاء هذه الخلية، لكنها فشلت». وقد كانت إشاعات سرت في سوريا خلال الأسابيع الماضية تشير إلى تعرض أعضاء الخلية للتسمم، إثر عملية أعلن عنها «الجيش الحر»، لكن وزير الداخلية السوري خرج إلى الإعلام آنذاك ونفى الخبر.

وتضم هذه الخلية، التي تعد الرأس الأمني للنظام، كبار القادة والمسؤولين الأمنيين في سوريا ويترأسها اللواء هشام بختيار، الذي يحظى بثقة الرئيس الأسد. وكانت تضم كلا من: وزير الداخلية اللواء محمد الشعار، ووزير الدفاع العماد داود راجحة، ومدير إدارة أمن الدولة اللواء علي مملوك، ورئيس شعبة المخابرات العسكرية اللواء عبد الفتاح قدسية، ورئيس شعبة المخابرات الجوية اللواء جميل الحسن، ورئيس شعبة الأمن السياسي اللواء محمد ديب زيتون. وكان ينضم إليها عند اتخاذ القرارات المصيرية كل من نائب رئيس هيئة الأركان العامة اللواء آصف شوكت، وقائد الفرقة الرابعة في الحرس الجمهوري ماهر الأسد (شقيق الرئيس السوري)، واللواء محمد ناصيف والعميد حافظ مخلوف.

وأشار رئيس «تجمع الضباط الأحرار» في الجيش السوري الحر العميد حسام العواك لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هذه الخلية كانت تسمى قبل الثورة مكتب الأمن الوطني، وتتبع مباشرة لحزب البعث برئاسة اللواء هشام بختيار. وكشف عن جانب من القرارات التي اتخذتها هذه الخلية في إطار قمعها للثورة وترهيب المدنيين، ومنها إشاعة القلق والخوف والتهديد بإثارة الحرب الطائفية في سوريا، وإشاعة روح العدوان والهزيمة لدى المعارضة، وبث الشائعات عن المنافع المادية وتشكيل لوبي يساوم المعارضة ماليا لصالح النظام، وإنتاج أنواع من الدخان المسرطن والمواد المخدرة التي كانت توزع في المناطق الثائرة، وتعطيل إنتاج المصانع الخاصة والعامة وحرق المحاصيل الزراعية، رفع الروح المعنوية لدى كتائب الأسد. وترفع الخلية اقتراحاتها إلى الرئيس الأسد «الذي يوافق عليها وتوضع موضع التنفيذ»، ويؤكد معارضون سوريون أن استهداف خلية الأزمة التابعة مباشرة للرئيس الأسد يعد بمثابة ضربة قاصمة لظهر النظام المتربع على عرش السلطة بحكم قبضته الأمنية.

ويرجع الخبير السوري الذي غادر البلاد بعد سنوات قليلة من استيلاء عائلة الأسد على السلطة في البلاد إلى أزمة الثمانينات التي انتهت بهزيمة «الإخوان المسلمين» فيشير إلى أن «الأجهزة الأمنية لعبت دورا كبيرا في عمليات القمع ضد الحركة المتمردة آنذاك، حيث أطلق الأب يدها في المجتمع السوري لتصبح شريكة في عملية الحكم بالمعنى الوظيفي أي حماية النظام وتوطيد أركانه، حيث منح رؤساء هذه الأجهزة الأمنية وتابعيها سلطات وصلاحيات واسعة في المجتمع. وأصبح من بديهيات الحصول على الوظائف وفرص العمل أن يلجأ المواطن إلى الواسطة التي عمادها ضباط أمنيون واسعو النفوذ في الدولة». ويضيف: «وزع الأسد قيادة الأجهزة الأمنية على أقربائه وبعض الموثوقين من رجالات الجيش والأمن»، كما يرى أن «رؤساء الأجهزة الأمنية كانوا يعتقدون أنهم في حال نجحوا في إخماد الثورة الشعبية سيحصلون على مكاسب جديدة من النظام الحاكم، وربما يصبحون الحكام الفعليين للبلاد، مما يجعلهم يزدادون شراسة في قمع المظاهرات المطالبة برحيل النظام، إلا أن تفجير مقر الأمن القومي وقتل أبرز هؤلاء القادة المسيطرين على القرار الأمني في البلاد غير المعادلة». ويضيف «هذه الأجهزة من دون القيادات القائمة على قرارها وخططها مرشحة للانهيار، لأن العمل الأمني في سوريا ليس مؤسساتيا مثل الدول المتقدمة، وإنما يعتريه الكثير من الشخصنة والمصالح والفساد، فرئيس أي جهاز أمني بعد وصوله إلى مركز القرار يبني شبكة من المصالح والزبائنية، الأمر الذي يجعل مقتل رئيس الفرع انهيارا للمنظومة التي بناها. بمعنى آخر تفجير الأمن القومي هو مثابة ضربة قاصمة لهرمية الأجهزة التي يرأسونها».

ويؤكد ناشطون معارضون أن هذه الأجهزة فقدت الكثير من قوتها بسبب التفجير الذي أصاب أبرز قادتها في وسط دمشق. ويضيف الناشطون «النظام يستطيع أن يبدل وزير الدفاع أو يعين بدلا عنه، لكن من الصعوبة بمكان أن يعين رؤساء جددا لأجهزته الأمنية يتمتعون بذات الكفاءة التي كان يتمتع بها من اغتيلوا، إضافة إلى مسألة الولاءات التي يهتم بها نظام الأسد كثيرا، والتي صار أمر تحقيقها صعبا في ظل تزايد الانشقاقات وتفكك نواة النظام الأسدي». ويصف الناشطون المناهضون لنظام الرئيس بشار الأسد العملية التي تبناها «الجيش الحر» وأسفرت عن مصرع بعض من قيادات الأجهزة الأمنية بضربة المعلم «النظام السوري الذي وضع أجهزته الأمنية في مصاف الآلهة التي لا يستطيع أحد التغلب عليها كان من الضروري ضربه عبر هذه الأجهزة». ويتابعون «هذا النظام يتكون من العسكر والأمن ولتحقيق هدف سقوطه بشكل سريع لا بد من ضرب هاتين الركيزتين». ويتوقع الناشطون توجيه ضربات أخرى للأجهزة الأمنية عبر «الجيش الحر»، جازمين بأن «هذا الطريق هو الأقصر لهزيمة نظام البعث وتدمير معنوياته». ويلفت الناشطون إلى أن «تفجير مقر الأمن القومي في حي الروضة شكل صدمة للموالين للنظام، كما للمعارضين، فحين يغتال آصف شوكت وحافظ مخلوف فمعنى ذلك أن بشار الأسد في دائرة الاستهداف». ويبقى أن أجهزة الأمن السورية التي اعتمدها نظام الأسد في عهده أداة لقمع المجتمع وإخضاعه أصبحت بعد الثورة السورية وإصرار المنخرطين فيها، مؤشرا يدل على اقتراب سقوط هذا النظام، هذا ما ينبئ به تفجير دمشق المدوي.