ليسوا هنودا وليسوا حمرا

د. محمد عبد الستار البدري

TT

الأراباهو، السوو، الشيين، الأباتشي، السيمينولز، الشيروكي.. هي أسماء نعرفها، إما لأنها الأسماء التي أطلقت على سيارات أو طائرات هليكوبتر أو كُنيات لفرق الرياضة الأميركية، ولكنها في أصلها أسماء لقبائل هامة في التاريخ الأميركي والمعروفة لدينا الآن تحت اسم خاطئ وهو «الهنود الحمر» وذلك على الرغم من أنهم معروفون في الكتب الأكاديمية باسم أكثر دقة وملاءمة وهو «السكان الأصليون»، أي السكان الذين كانوا موجودين قبيل أو أثناء الهجرة الأوروبية لقارة أميركيا الشمالية، ومن الأخطاء الشائعة الأخرى أن الآلة الإعلامية الأميركية صورتهم على أنهم وحوش قاربوا أن يكونوا من آكلي لحوم البشر، يهتكون الأعراض ويقتلون النساء والأطفال ويحرقون أعداءهم بالنار وسط تحضر الرجل الأبيض في تعامله معهم! ولكنهم في الحقيقة كانوا قبائل لها فلسفتها وطريقة حياة مختلفة وشجاعة فاقت بكثير الرجل الأبيض الذي احتلهم وأزاحهم من حياته تماما إما من خلال نقلهم إلى ما عُرف «بالمحميات أو Reservations» وهي قطع من الأراضي الجرداء بلا صيد أو زراعة كانوا يُحاصرون فيها على أن يقدم لهم المستعمر الأكل والشرب ويخلق حالة من الاعتماد الكامل عليه ليتمكن من السيطرة عليهم وحصارهم سياسيا حتى يستطيع أن يتملك أراضيهم ويضمها له ليبني عليها مجده الجديد في العالم الجديد.

وتشير المصادر الأساسية إلى أن السكان الأصليين في قارة أميركا الشمالية جاءوا من أصول آسيوية عندما كان هناك جسر أرضي يربط بين القارتين قبيل الافتراق، وهو ما يتأكد من خلال تقارب البشرة والمعالم بين الشعوب الآسيوية وهذه الشعوب، وقد اختلفت التقديرات حول حجم السكان الأصليين عند قدوم الرجل الأبيض ولكنها كانت بالملايين، وقد كانوا يعيشون في قبائل متفرقة خاصة في وسط القارة الأميركية حيث كانت السهول الممتدة من الحدود الكندية إلى شمال الحدود المكسيكية، وكان كثير من هذه القبائل في حالة تناحر فيما بينها إما على أرض أو لأسباب تتعلق بالثأر، ولكنها كانت تتبع قواعد وأعرافا واضحة في تعاملاتها وعلاقاتها الاجتماعية في نطاق يعكس أنها لم تكن همجية بأي حال من الأحوال كما يصورونها.

لقد تأثرت حياة السكان الأصليين الأميركيين بحيوانين أساسيين غيرا تماما من طريقة الحياة وأسلوبها، وهما انتشار البافالو أو الجاموس الأميركي من ناحية والحصان من ناحية أخرى، فلقد كان البافالو وسيلة حياة لهم، وتُقدر بعض المصادر أن عدد هذا الحيوان، الذي قارب على الانقراض الآن، كان يصل إلى مائة مليون، وقد وفر الجاموس للقبائل الهندية اللحوم اللازمة في وجبتهم الغذائية والتي كان يتم تخزينها أيضا للاستعانة بها على قضاء الشتاء القارص، كما مثل جلد هذا الحيوان وسيلة هامة لبناء الخيام والتدفئة بها إضافة إلى الاستخدامات الأخرى التي مثلها عظم هذا الحيوان.

أما بالنسبة للحصان، فالثابت تاريخيا هو أنه أتي القارة الأميركية أو العالم الجديد من خلال الاستعمار الإسباني للمكسيك وأميركا الجنوبية، حيث لم يكن السكان الأصليون يعرفون الحصان، بل إنه خلال أول لقاء للحضارتين الأزتيكية مع الإسبانية ظن الأزتيك أن الحصان والفارس كيان واحد، أو أنصاف آلهة لأنهم لم يروه من قبل، وكانوا يخشونه كثيرا على اعتبار أنه شيء مخيف على غرار حيوانات الأساطير اليونانية، وقد حرص الإسبان على منع الاختلاط بين السكان الأصليين والحصان اعتقادا منهم بأن هذا سيساهم في إحكام قبضتهم على الإمبراطورية الجديدة، ولكن هذا الحصار تم كسره عندما انهارت إحدى المستعمرات في شمال المكسيك بعد هجوم من بعض القبائل ولم يكترث الهنود بالخيل فأطلقوا سراح الآلاف الموجودة فهاجرت هذه الخيول إلى منطقة السهول في وسط أميركا من أجل المراعي الغنية التي بها، وهنا تعرفت قبائل الهنود على هذا الحيوان الجديد وسخرته لها وهو ما غير من معالم حياتهم تماما، حيث وفر الخيل لهم سرعة وسهولة الحركة، كما أنه ساهم في تهجيرهم خلال فصول السنة إضافة إلى أنه طور من قدراتهم على شن الحروب والتكتيكات العسكرية الجديدة التي ساعدتهم في حربهم على الرجل الأبيض.

ولكن كل هذا لم يكن ليمنح الفرصة لقبائل السكان الأصليين في مواجهة الرجل الأبيض الذي بدأ يغزوهم من الشرق، فعند قدوم الإنجليز والفرنسيين والهولنديين في شرق الولايات المتحدة كانت القبائل الهندية قوية وذات حيثية ولها خصوصيتها الثقافية، بل إن هذه القبائل كانت لديها مجموعة من المعتقدات المرتبطة بالطبيعة، شأنها شأن الثقافات غير المتطورة على مدار التاريخ الإنساني، وكانت بالفعل ثقافة ميتافيزيقية بكل ما تعنيه الكلمة، تربط بين الروح والجسد والطبيعة ارتباطا قويا، كما أن نظم الحكم في بعض هذه القبائل كانت إلى حد كبير متطورة على عكس ما تم نشره عنهم، فهم كانوا أكثر قربا لثقافة الكونفيدرالية وكانوا كثيرا ما يطبقون قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات، بل إن بعضهم كان يعطي للمرأة صوتا مميزا في عملية اتخاذ القرار عن الرجل باعتبارها واهبة الحياة، وهو أمر لم يكن معروفا لدى المستعمر الغربي في ذلك الوقت.

لقد كانت هذه مجرد نبذة عن بعض أوجه حياة السكان الأصليين (الهنود الحمر) قبيل الصدام مع الحضارة الغربية، وهي قبائل لها قيمتها البدائية فكريا وحضاريا بعيدا عما سعى الإعلام الغربي لترسيخه في أذهاننا لإخفاء حقيقة ابتلاء هذه القبائل بمستعمر سلب أراضيها وقضى على مجمل ثقافتها، ولعل في هذا ما قد يفسر حالة تقبل فكرة استيطان أراضي الغير تحت حجة السمو العرقي أو الديني أو الثقافي في السياسة الدولية اليوم.

لقد تعرض الهنود بالفعل لحملات تطهير عرقي واسعة النطاق تحت شعارات مختلفة، منها شعار الجنرال فيليب شيريدان أحد أهم القادة العسكريين الأميركيين: «إن الهندي الجيد الوحيد هو الهندي الميت»، وهي دعوة بمفهومنا اليوم للتطهير العرقي، وهي دعوة ليست جديدة في الصراع المرير بين الرجل الأبيض والأحمر على الأراضي الأميركية، ففي حين صفى الإسبان إمبراطوريتي الأزتيك والإينكا في وقت قريب، فإن الرجل الغربي تأخر كثيرا في تصفية القبائل الهندية وهضمها ضمن أميركا الشمالية كما سنرى، إلى الحد الذي انهارت فيه هذه القبائل ولم يتبق إلا الأسماء وبعض السمات ومخلفات ثقافية محدودة.

ولكل هذه الأسباب فقد آثرت أن أركز خلال هذه المقالة وبعض المقالات القادمة على نماذج من البطولات والثقافات المختلفة للسكان الأصليين سواء في أميركا الشمالية أو الجنوبية في مقاومة المحتل والغازي للتذكير بتاريخ غاب عنا كثيرا أو لم نكن نكترث به كعرب على الرغم من أننا عانينا مثلهم، ولكن جذور عراقتنا وعمق ثقافتنا وثقل حضارتنا سمح لنا بأن نتغلب على حملات الغزو المماثلة في تاريخنا.

* كاتب مــصــري