أبناء الشمس

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد تميزت حضارة «الإنكا» في غرب قارة أميركا الجنوبية بكثير من القوة والمجد، فهي الإمبراطورية الكبيرة التي وصفتها بعض المراجع التاريخية بأنها أكبر إمبراطورية في تاريخ الأميركيتين قبيل قدوم المستعمر الغربي، فقد شملت أجزاء من الإكوادور وبيرو وبوليفيا والأرجنتين وشيلي، وكانت هذه الإمبراطورية تحكم من عاصمتها مدينة «كوسوكو»، وقد تزامن مع قدوم الإسبان حرب أهلية ضروس داخل الإمبراطورية بسبب الصراع بين أخوين هما «أتاولبا» و«هواسكار» من أجل حكم البلاد، وقد استطاع أتاولبا أن يفرض سلطانه بهزيمة أخيه وتفرده بالحكم، وعلى الرغم من هذه الحرب الضروس فإن دولة «الإنكا» ظلت على قوتها العسكرية بجيش يقارب مائة ألف مقاتل خاضعين لأتاولبا.

تزامن مع هذه التطورات حصول المغامر الإسباني فرانسيسكو بيزارو على ترخيص من ملك إسبانيا للمضي قدما في حملته الثالثة للسيطرة على إمبراطورية الإنكا انطلاقا من بنما في أميركا الوسطى، وقد كان هذا هو النمط الطبيعي للفتوحات في ذلك الوقت، وقد آثر «بيزارو» ألا يترك هذه الفرصة التي منحتها إياه الأقدار دون أن يحقق منها أقصى أمنياته، وهي حكم هذه الدولة نيابة عن ملك إسبانيا، وجمع صناديق من الذهب والفضة لثروته الشخصية، ولكسب ود الملك ليبقى هو حاكما عاما على الممتلكات الإسبانية في أميركا الجنوبية، فهو ليس بأقل قدرا من «إرنان كورتيز» هذا المغامر الذي دمر حضارة «الأزتيك» واستولى عليها في المكسيك، ولكن كسر حضارة «الإنكا» لم يكن بالأمر الهين، ومع ذلك فقد اتبع الرجل تكتيكا مشابها للتكتيك الذي اتبعه الأول في فتح المكسيك. واصل جيش فرانسيسكو بيزارو تحركه من الشمال إلى جنوب البلاد سعيا وراء مدينة «كاخاماركا» التي تمركز فيها الزعيم «أتاولبا» على رأس جيشه البالغ عدده قرابة مائة ألف جندي، وذلك بعد أن عاد منتصرا في الحرب الأهلية التي مزقت البلاد، ولم يأبه أتاولبا بجيش بيزارو البالغ عدده أكثر من مائة وستين ألف جندي إسباني، ونسي أن هذا الجيش يفوقه في العتاد والتسليح، كما تغاضى عن حقيقة هامة وهي أن الجيش الإسباني كان يتقرب إلى القبائل المختلفة التي كانت تحمل الضغائن لحكم الإنكا؛ فكانت على استعداد للتعاون مع الإسبان تماما مثلما فعلت قبائل «التلاسكالا» مع زميله كورتيز في المكسيك وساهمت في تقويض حكم الأزتيك، وقد أطلقت هذه القبائل على الإسبان لفظ «أولاد الشمس»؛ نظرا لأنهم كانوا يحملون الدروع التي كانت تعكس أشعة الشمس، فضلا عن حالة الانبهار التي سيطرت عليهم لأنهم كانوا يمتطون الخيل التي لم تكن معروفة في القارة الأميركية، فظن السكان الأصليون أن الفارس والفرس كيان واحد.

وصل الجيش الإسباني إلى مدينة «كاخاماركا» حيث احتلها بسرعة بلا مقاومة، لا سيما أن أتاولبا كان معسكرا على بعد مسافة قليلة من المدينة، وبمجرد الدخول نشر بيزارو جيشه في أركانها الأربعة وأحكم السيطرة عليها وعلى ما حولها، ثم أرسل سفراءه إلى أتاولبا يدعوه لزيارة المدينة والتحدث، وقد وعد الرجل بتلبية الدعوة في اليوم التالي.

وقد دخل الرجل في اليوم التالي محمولا على الأعناق من قبل رجاله كما كانت العادة، فكان يلبس أفخم ما عنده من ريش وذهب وفضة، وما إن وصل إلى مركز المدينة حتى استقبله القس المرافق للجيش الإسباني الذي كانت مهمته إدخال القبائل المحلية في المذهب الكاثوليكي، وقد دار بينهما حوار مختصر رفض خلاله القائد الإنكي اعتناق المسيحية، فما كان من الرجل إلا أن أعطى الإشارة التي كان متفق عليها مع بيزارو فانقض الجيش الإسباني على الموكب وقتل منهم الكثير، ولكن أهم ما أسفرت عنه هذه المعركة هو أسر أتاولبا ذاته، الذي كان هدف الإسبان في الأساس، فلقد رأي بيزارو أن إلقاء القبض على الرجل كان من شأنه أن يحسن فرص الإسبان أمام عدو يفوقهم في العدد من خلال السيطرة على قائد الجيش والدولة.

لقد كانت هذه هي الخطة نفسها التي اتخذها القائد الإسباني إرنان كورتيز عندما أوقع «مونتيزوما» زعيم «الأزتيك» في الأسر، وسعى لكسر الإمبراطورية من خلال التحكم في مصير قائدها، ولكن الفارق الأساسي كان في بيزارو الذي قام بحبسه لمدة شهور طويلة بعدما وعد الرجل أن يوفر للإسبان ما يملأ الحجرة التي كان أسيرا فيها فضة وذهبا، وهو ما بدأ ينفذه بالفعل لينجو بنفسه من الهلاك، ولكن بيزارو بدأ يشعر بأن استمراره في الأسر من شأنه أن يؤثر سلبا على وضع الجيش الإسباني، حيث كان يرى في قتله فرصة مواتية لأن يثبت للجيش والشعب الإنكي أنه مسيطر على أقدار الأمور، كما كان ذلك من شأنه أن يضع حدا لأي محاولة لمهاجمة الإسبان لتحرير زعيمهم، وبالتالي فقد آثر الرجل التخلص منه في أقرب فرصة، فأقام محاكمة صورية واتهمه بقتل شقيقه في صراعه على السلطة، وصدر الحكم ضد إمبراطور «الإنكا» بالإعدام حرقا، وتم الاتفاق على أن ينفذ الحكم خنقا فيما بعد، شريطة أن يعتنق الكاثوليكية، وبموته تم هز الإمبراطورية بأسرها التي بدأت تتفكك تدريجيا لصالح جبروت بيزارو ورجاله.

على الرغم من أن المقاومة استمرت لعقود قليلة فيما بعد، فإن الرجل الأبيض أو «أولاد الشمس» استطاعوا أن يقضوا تماما على حضارة الإنكا من خلال التكتيك العسكري الأفضل الذي كان بلا شك العنصر الحاسم في هذه الحرب، وقد مثل هذا الفتح الإسباني مسلسلا آخر لكيفية سيطرة الرجل الأبيض واغتصابه لأراضي السكان الأصليين، فإذا ما كان الرجل الأبيض، ممثلا في الإسبان، قد سيطر على أميركا الجنوبية فإن نظراءه من إنجلترا وهولندا وفرنسا فرضوا سيطرتهم على قارة أميركا الشمالية، وفي كل الأحوال فإن النتيجة كانت في غير صالح السكان الأصليين، فمصير قبائل «السوو» و«الأراباهو» وغيرهما في أميركا الشمالية، لم يكن أحسن حالا من «الإنكا» و«الأزتيك»، فلقد فرض الرجل الأبيض فكره وثقافته ودينه، بل لغته، على السواد الأعظم من هذه القبائل، مستخدما في ذلك أبشع الوسائل وأحط السلوكيات، فصار من يتمسك بتقاليده من السكان الأصليين من القابضين على جمرات الماضي، فخرج السكان الأصليون، ومنهم «الإنكا»، من الحاضر إلى التاريخ، ومن الأمم ذات الحقوق إلى الأمم الباحثة عن حقوقها المهضومة بعدما استولى المستعمر على أراضيها، ولكن يبدو أن هذه هي سنة الحياة.

* كاتب مصري