حقيقة الثلاثمائة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

حقيقة الأمر أنني لم أعجب كثيرا بالفيلم «ثلاثمائة» عندما تم عرضه في أدوار السينما منذ سنوات قليلة، وذلك على الرغم من أنه يمثل طفرة هامة للغاية في صناعة السينما واستخدام الكومبيوتر في تركيب المعارك الحربية، فلقد كان فيلما دمويا لا يعكس الحوار فيه قيمة المعركة التي يصورها، كما أن رسم الشخصيات لم يتطابق بشكل أو بآخر مع الكتب التي قرأتها حول المعركة التي استوحي منها هذا العمل الدرامي وهي معركة «ثيرموبايليا» الشهيرة وهي إحدى أهم المعارك الحاسمة في تاريخ اليونان في صراعها الضروس مع فارس عام 480 قبل الميلاد.

لقد كانت هذه هي إحدى معارك الحملة الفارسية الثانية ضد اليونان، حيث انتهت الأولي عام 490 قبل الميلاد بهزيمة ساحقة للفرس في معركة «ماراثون» الشهيرة والتي اشتق منها لفظ «ماراثون» وهي المسافة التي جراها أحد الأشخاص من مدينة «ماراثون» إلى أثينا لإبلاغهم بوجود الفرس، وعقب هذه الهزيمة أصر ملك فارس «دارايوس» على أن يأخذ بثأره ويحتل اليونان، التي كانت تمثل العدو اللدود له، والتي تقف حائلا أمام بسط «السلام الفارسي» في مناطق العالم المعروف في ذلك الوقت، وأن تصبح بلاده هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وحقيقة الأمر أن بلاد اليونان لم تكن مثل فارس، فهي كانت مكونة من دويلات صغيرة يطلق عليها «دويلات المدن City States»، وعلى الرغم من عدم وجود قوة مركزية بها تضم كل هذه الدويلات تحت لواء سياسي موحد، إلا أن هناك قيادتين برزتا بشكل أو بآخر وهما أثينا وإسبرطة، فكانت الأولي مركز الحضارة والتجارة والثقافة وسيدة البحار، كانت دولة إسبرطة هي دولة القوة والعنف والتي كان يقع على عاتقها قيادة الجيوش الأرضية لليونانيين، وبالفعل وردت الأنباء عن استعدادات «دارايوس» لاحتلال اليونان ولكنه تأخر كثيرا بسبب إخماده للثورة المصرية التي هبت ضد الاحتلال الفارسي، وقد مات «دارايوس» بمجرد أن أخمد الثورة المصرية فآل الحكم لابنه «زيركسس»، الذي أكمل العدة وبدأ في عام 480 حملته ضد بلاد اليونان بقوة بحرية وبرية عظيمة تفوق القوات اليونانية المتحالفة، التي اختلفت الآراء حول قوامها، وفي كل الأحوال فإنها كانت تفوق القوات المحتشدة لليونانيين.

وأمام هذا التهديد استقر رأي اليونانيين في مجالس الحرب المشتركة أن يتم التركيز على وقف القوات الفارسية من خلال احتلال مضيقين، الأول بحري واسمه «ارتيميسيوم» والثاني مضيق أرضي بين الجبال يطلق عليه اسم «ثيرموبايليا»، وعلى حين تولت أثينا مسؤولية جمع القوات البحرية اليونانية بمشاركة أسطولها القوي الذي كانت تعده لمثل هذه المعركة على مدار السنوات الماضية، فإن مسؤولية الصمود في «ثيرموبايليا» وقعت على عاتق إسبرطة، فتم تكليف أحد ملوكها - حيث كانت تحكم إسبرطة بملكين ومجلس نيابي - ويدعى «ليونيدس» بأن يقود قوة من إسبرطة ممثلة في ثلاثمائة مقاتل إسبرطي، وعلى عكس ما يشاع من أن هذا كان حجم القوة الإسبرطية إلا أن «ليونيدس» كانت لديه قوات مساعدة يتراوح قوامها ما بين ألف وسبعة آلاف رجل، فهو لم يكن ليواجه جيشا يقدر بثلاثمائة ألف مقاتل بثلاثمائة رجل فقط، وهذه كانت المبالغة التي استخدمتها هوليوود استنادا إلى الأساطير والمبالغات التاريخية.

ولقد تأخر زيركسس في نشر قواته في جنوب اليونان، وكان هذا التأخر هو ما منح «ليونيدس» ورجاله الفرصة ليقووا التحصينات في المضيق ويزيدوا من فرص تعطيل التقدم الفارسي، فلقد كانت الاستراتيجية مبنية على أن يتم التأخير لحين تجمع الجيوش اليونانية لمواجهة هذه الجحافل الفارسية، وفي نفس الوقت إنهاكها في حروب استنزاف نسبية تضعفها عند ملاقاة الجيوش اليونانية الأخرى في المراحل المتقدمة وتهز خطوط إمدادها تمهيدا للسيطرة البحرية اليونانية.

لقد كان مضيق «ثيرموبايليا» ضيقا بكل المعايير، فهو لا يسمح تحت أي ظرف من الظروف بأي نوع من أنواع المناورات العسكرية من قبل الفرس، فكانت الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامهم هو الهجوم الأمامي، وهو ما كان يعزز من فرص القوة الدفاعية الأضعف ويحجم من فرص القوة الأكبر، من ثم اضطر «زيركسس» أن يرسل الموجة تلو الأخرى من قواته إلى المضيق الذي استبسل اليونانيون في الدفاع عنه، فقد استخدموا دروعهم القوية في مواجهة الفرس، كما استخدموا الرماح الطويلة، وفي المقابل واجه الفرس اليونانيون بوابل من السهام، وهكذا ضاعت أية ميزة نسبية لقوة الفرس أمام صغر المضيق واستبسال ليونيدس ورجاله. وعلى مدار يومين فشل الفرس في اقتحام المضيق أو حتى التأثير على قوة اليونانيين الذين صدوا الموجة تلو الأخرى.

تشير التقديرات العسكرية إلى أن الصمود اليوناني أمام هذه القوات الكبيرة لم يكن ممكنا لفترة ممتدة، ولكن بشائر النصر الفارسي جاء من خلال خيانة يونانية عندما أفشي أحد اليونانيين لزيركسس عن وجود ممر في الشرق يمكن الالتفاف حوله لمحاصرة اليونانيين من الخلف على أن يتم تنسيق هجوم من المؤخرة والأمام في آن واحد، وعندما علم «ليونيدس» بما حدث تم الاتفاق على انسحاب الجزء الأكبر من جيشه وبقاء آخرين للدفاع عن انسحابهم، وتعطيل الفرس في مهمة انتحارية، ومرة أخرى لم يكن عدد اليونانيين ثلاثمائة كما تعكسها الأفلام والأساطير، بل كانوا أضعاف هذا الرقم. وقد صمدوا بالفعل أمام الهجوم الفارسي ولكن ليس لمدة طويلة، فخارت قواهم وقتل الواحد تلو الآخر ومنهم «ليونيدس» نفسه والذي مثل «زيركسس» بجثته، لأن بسالته كلفت جيشه ما يقرب من عشرين ألف قتيل وجريح، كما أنها عطلت تقدمهم بشكل كبير، بالتالي بقي أمام زيركسس فرصة واحدة، وهي السعي للقضاء على أثينا وقواتها على وجه السرعة لا سيما أن هذه الدويلة قد تم إخلاؤها من أهلها خوفا من الجيش الفارسي، ولكن الملك الفارسي ظلت أمامه عقبة أساسية، وهي القوة البحرية اليونانية تحت قيادة أثينا، خاصة أن أسطوله على الرغم من تفوقه النسبي، فإنه لم يحسم معركة «ارتيميسيوم» فسمح للأسطول اليوناني بالتراجع إلى خليج «سلاميس» استعدادا لمعركة حاسمة يذكرها التاريخ على أنها لا تقل أهمية عن معارك مثل «ميدواي» أو «أكتيوم» أو «الأرمادا».

وهكذا حول عقل وخيال الإخراج السينمائي واحدة من أعظم معارك التكتيكية للصمود العسكري إلى أسطورة سينمائية من خلال فيلم «ثلاثمائة» بكثير من الخيال المغلف ببعض الواقع، ومع ذلك فالسينما الدولية لم تقدم بعد فيلما عن معركة «سلاميس» الفاصلة والتي سنتناولها في مقال الأسبوع التالي استذكارا لها ولعبقرية قادتها وهو أضعف الإيمان.

* كاتب مصري