انقسام الإسرائيليين حول حرب استباقية ضد إيران

اتفاق على منع طهران من الحصول على سلاح نووي.. واختلاف في التطبيق

TT

طيلة السنتين الماضيتين، شهرا إثر شهر وأسبوعا تلو الأسبوع، ينشغل السياسيون والعسكريون والمراقبون والمحللون في السؤال عما إذا كان التهديد الإسرائيلي بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بغية تدمير المفاعلات النووية فيها، تهديدا جديا فعلا أم إنه مجرد خدعة حربية يديرها «أبو الخدع الحربية» الجنرال إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، ونجح في جر رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، إليها وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الوحيد في التاريخ الإسرائيلي الذي لم تسجل في عهده حرب أبدا.

ويزداد السؤال إلحاحا، مع التطورات الميدانية على الأرض وما تحويه هذه التطورات من تناقضات ظاهرة للعيان. ففي المجال السياسي، نجد أن نتنياهو وباراك يفشلان في تجنيد أكثرية داخل الحكومة الإسرائيلية تؤيد ضرب إيران ويدخلان في مواجهة مباشرة ليس فقط مع المعارضة السياسية، بل مع رئيس الدولة شيمعون بيريس ومع الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام المحلية. كما يدخل نتنياهو في خلاف صريح وحاد مع الإدارة الأميركية، التي تعارض استخدام الخيار العسكري في الوقت الحاضر وتحاول لجم إسرائيل حتى تستنفد العقوبات الاقتصادية ضد إيران. وتحذر إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إسرائيل من أنها بالضربة العسكرية المنفردة، لن تستطيع التأثير الجدي لمنع إيران من التسلح النووي وفي أحسن الأحوال تستطيع تأخير المشروع النووي لسنة أو لسنة ونصف السنة فقط. وقد تؤدي ضربة عسكرية كهذه إلى تأجيج الجهود الإيرانية والإسراع في تطوير القدرات النووية. وهناك خلافات سياسية وشعبية أيضا حول ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران؛ إذ إن المظاهرات الشعبية الأسبوعية ضد الحرب باتت جزءا من هذا النقاش. وعلى الرغم من أن المظاهرات غير حاشدة، فإنها تدلل على المخاوف الداخلية من تبعات مثل هذه الخطوة.

وعلى الصعيد العسكري، نجد أن جميع قادة الجيش وأجهزة المخابرات الإسرائيلية يعارضون في الوقت الراهن توجيه ضربة عسكرية لإيران، ولكنهم في الوقت ذاته يواصلون إعداد الجيش للقيام بهذه الضربة. فهنالك تخطيط جاهز وهناك تدريبات مستمرة ومحاولات لإعداد الجبهة الداخلية، تصل إلى درجة التخطيط لإخلاء مناطق مأهولة في وسط البلاد في حال قصفها بالصواريخ ونقل مئات الآلاف من السكان إلى مناطق نائية مأهولة بالفلسطينيين مثل الضفة الغربية. ومع كل تقدم في هذه التدريبات، يتصاعد النقاش بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، لدرجة الهجوم الشخصي والاتهامات المتبادلة. وقد بدأ ذلك بإطلاق تصريحات شديدة اللهجة من قادة أمنيين سابقين، مثل مئير دجان الرئيس السابق لجهاز المخابرات الخارجية (الموساد)، الذي اعتبر نتنياهو وباراك «مغامرين بشكل جنوني يجب أن يقلق كل إسرائيلي». وكذلك يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة (الشاباك)، الذي قال إن نتنياهو وباراك يتصرفان بشكل غير مسؤول، وغابي أشكينازي، الرئيس السابق لهيئة رئاسة أركان الجيش، الذي قال إنه لا يستوعب كيف تخوض إسرائيل حربا وهي على خلاف مع الولايات المتحدة.

وعندما نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن القادة العسكريين السابقين يتكلمون عمليا باسم القادة الحاليين للجيش، حرص «مقربون» من نتنياهو وباراك على رد الهجوم بالحدة نفسها، فاتهموا «الجنرالات» بالانطلاق من دوافع شخصية. وقال أحدهم صراحة للمحرر السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم بارنياع، إن «كل حرب وقعت في العقود الأربعة الأخيرة انتهت بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في إسرائيل، أوصت بإقالة جنرالات إسرائيليين. وإيران لا تحتاج لعمل أي شيء ضد الحرب لأن لديها هذا السلاح؛ لجان التحقيق الإسرائيلية. إن خوف الجنرالات من عقاب اللجان يثبط مسبقا كل حرب مدبر لها». ويقول بارنياع إن باراك يقصد بوضوح وهو يتحدث عن هذا الشأن، هيئة القيادة العامة الحالية للجيش الإسرائيلي، برئاسة بيني غانتس، وكذلك هيئة القيادة العامة السابقة برئاسة أشكينازي. فقد حاول باراك ولم ينجح في إقناعهما بتأييد حرب على إيران. وقد صعق من فشله، فراح هو وعدد من أنصار نتنياهو يظهرون المعارضين للحرب على أنهم خونة، وأنه ليس عند المعارضين ما يكفي من الإخلاص للوطن ولفهم عظمة هذا الفعل. جاء ذلك في صحيفة «يديعوت أحرونوت» في 17 أغسطس (آب) الحالي مع تفاقم التساؤلات حول إمكانية إطلاق حرب على إيران.

وقد اعتبر الجنرال عاموس جلبواع، عضو هيئة رئاسة الأركان الأسبق في الجيش الإسرائيلي، هذا المستوى الذي تدهور إليه النقاش الجاري في إسرائيل مع أو ضد هذه الضربة، بمثابة هستيريا. وكتب في «يديعوت أحرونوت» في 13 أغسطس الحالي: «نحن نوجد الآن في مستشفى المجانين الذي لم يسبق لأي دولة ديمقراطية في العالم أن شهدت مثيلا له».

* الخلاف غير مبدئي

* لكن يجب أن يكون واضحا هنا، أن ما يدور من خلافات حول ضرب إيران ليس خلافا على المبدأ. فالجميع متفقون على ضرورة منع إيران من التسلح النووي. ومن النادر أن تجد إسرائيليا يوافق على التسيلم بأن تصبح إيران دولة نووية. وإن وجدت، فإن هذا سيكون من تنظيم صغير على الطرف الراديكالي من الخريطة السياسية. والخلاف هو حول الطريقة التي ينبغي اتباعها لمنع إيران من تطوير السلاح النووي وحول ضرورة التماثل مع الولايات المتحدة في توجيه مثل هذه الضربة.

فكل المعارضين لهذه الحرب اليوم تقريبا، يعتبرون إيران نووية تشكل خطرا وجوديا على إسرائيل، وهم يؤيدون أن يطرح الخيار العسكري بصفته تهديدا لإيران، بل تهديدا جديا، بعد استنفاد العقوبات الاقتصادية. وما يعترضون عليه هو توقيت الضربة أولا، حيث إنهم يرون أن الولايات المتحدة هي التي يجب أن تقرر التوقيت الملائم لها وللموضوع، ويرون أن إسرائيل يجب أن لا تكون وحدها في هذه الحرب، بل أن تكون شريكة في تحالف واسع بقيادة الولايات المتحدة. وهناك أيضا من يريد أن لا تكون إسرائيل شريكة أبدا، ويستذكرون كيف قبل رئيس الحكومة الأسبق، إسحاق شامير، بموقف الولايات المتحدة ولم يرد على الصواريخ العراقية التي قصفت تل أبيب إبان حرب الخليج. فحتى شامير، اليميني المتطرف؛ بل الأشد تطرفا من نتنياهو، لم يجرؤ على اتخاذ موقف متمرد على واشنطن.

وقد عبر شيمعون بيريس بوضوح، عن رفض الدخول في صدام مع الأميركيين؛ إذ قال خلال لقائه مع «القناة الثانية»، وهي تلفزيون تجاري إسرائيلي مستقل، في 17 أغسطس الحالي: «يجب منع إيران نووية، ولكن هذه ليست معركة إسرائيلية فحسب؛ بل إنها معركة دولية كانت وما زالت تقودها الولايات المتحدة بنجاح وفاعلية ويجب أن لا يشوش أحد عليها هذه القيادية». وكما يقول بن كسبيت، المحرر السياسي في صحيفة «معاريف»، فإن «بيريس قلق اليوم لدرجة الهوس، فهو يتابع بتخوف انهيار شبكة العلاقات مع الولايات المتحدة التي تحمي إسرائيل منذ سنوات وأجيال.. ينظر في غياهب الطريق التي يتحرك فيها نتنياهو وباراك.. ينظر إلى التهافت السياسي.. إلى العزلة الدولية.. إلى الحلف المخيف هذا بين خريجي «سييرت متكال» (الوحدة الخاصة في رئاسة أركان الجيش) اللذين أعدا الطبخة (يقصد نتنياهو وباراك)، كل واحد بدوره، كل في زمنه؛ وببساطة يخاف».

ولم يأت خوف بيريس هذا صدفة؛ فهو يستمع إلى ما يقوله نتنياهو وباراك وأمثالهما في الغرف المغلقة، فهناك تبجح غير عادي على الولايات المتحدة، التي تعتبر الحامي والنصير والداعم، عسكريا وسياسيا، والممول لإسرائيل اقتصاديا. وهذا التبجح يصل إلى درجة التدخل في الانتخابات الأميركية بشكل علني.

ويزداد خوف بيريس ومؤيدي رأيه، عندما يبدأ مسؤولون إسرائيليون مقربون من نتنياهو وباراك يظهرون هذا التبجح علنا ويشككون في صدق الولايات المتحدة تجاه إيران، ويرصده الأميركيون ويسجلونه في مفكراتهم.

ومن أبرز هؤلاء المشككين كان إيلي كرمون، وهو باحث كبير في معهد السياسة ضد الإرهاب في مركز متعدد المجالات في هرتسيليا؛ إذ كتب يقول في صحيفة «معاريف» يوم 2 أغسطس: «الموضوع المركزي في الجدال الجماهيري في إسرائيل والخلاف بين زعماء إسرائيل والولايات المتحدة على الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية هو السؤال: هل يمكن لإسرائيل أن تعتمد على وعود الرئيس أوباما في إصدار الأمر بعملية عسكرية، قبل أن تحقق إيران قدرة نووية عسكرية؟ الرئيس بيريس قال مؤخرا إنه يؤمن بأن أوباما سيمنع سلاحا نوويا عن إيران. السجل التاريخي لتصدي رؤساء الولايات المتحدة للتحديات التي فرضها عليهم النظام في طهران يتناقض وهذه الفرضية. فالرئيس كارتر ليس فقط لم يساعد شاه إيران على مواجهة الثورة الخمينية، بل ولم ينجح أيضا في حل أزمة الـ44 دبلوماسيا أميركيا الذين احتجزوا رهائن على مدى 444 يوما على أيدي النظام في طهران. والرئيس ريغان، الذي يعتبر عظيم المقاتلين ضد الإرهاب الدولي في عصره، قصف ليبيا ومنزل حاكمها (الزعيم الليبي معمر) القذافي بسبب جنديين أميركيين قتلا في برلين، ولكنه لم يتجرأ على التصدي لطهران. وقد أمر بسحب قوات السلام الأميركية من لبنان بعد أن فجر حزب الله، بتوجيه إيراني وإسناد سوري، السفارة الأميركية في بيروت، وأدى إلى موت 270 جندي مارينز في عملية انتحارية واحدة، وخطف أو قتل عشرات المواطنين الأميركيين في لبنان وخطف طائرات أميركية في المنطقة. والرئيس بيل كلينتون عرف بالضبط ما دور الاستخبارات الإيرانية في العملية ضد مساكن الجنود الأميركيين في الظهران بالسعودية في 1996، ولكنه فضل مفاوضات سرية مع حكومة الرئيس «الإصلاحي» خاتمي (من يذكره اليوم؟) وأبقى المعلومات سرا كي لا يضطر إلى اتخاذ خطوات عقابية ضد إيران. الرئيس (جورج) بوش (الابن)، الذي أمل في أن يساعد احتلال العراق على تشديد الطوق العسكري حول رقبة النظام الإيراني العاق، لم يرد على المساعدة الإيرانية لـ(جيش المهدي) لمقتدى الصدر وكتله المختلفة، التي قاتلت ضد القوات الأميركية في العراق. وفضل بوش إصدار ضوء أخضر لهجوم إسرائيلي ضد مفاعل البلوتونيوم في سوريا من التصدي بنفسه للتهديد الإقليمي الجديد. كذلك فإن إنجاز المشروع النووي العسكري الكوري الشمالي هو مثال حي على وعود لم تتحقق من كلينتون وبوش في نزع السلاح المهدد لدى الدولة المهددة لجيرانها».

ولكن كرمون لا يؤيد توجيه ضربة متسرعة لإيران وينضم إلى القيادات العسكرية التي ترى ضرورة التروي والتنسيق مع الأميركيين، فيقول: «ينبغي لإسرائيل أن لا تيأس من محاولات إقناع زعماء الولايات المتحدة، وأوروبا، والدول العربية بضرورة عملية عسكرية ضد المنشآت النووية في إيران. يبدو أحيانا أن هؤلاء يفضلون أن تقوم إسرائيل هي (بالعمل الأسود) كي يتمكنوا لاحقا من الحماسة ضدها. ولكن على زعماء إسرائيل أن يقرروا الهجوم الذاتي فقط في اللحظة الأخيرة تماما لما يصفه وزير الدفاع أنه (مجال الحصانة). عليهم أن يصمدوا في وجه الميل لعمل ذلك بسرعة زائدة، لا سيما قبل إنهاء الأزمة في سوريا التي فيها إمكانية كامنة ليس فقط لتغيير ميزان القوى الإقليمي ضد إيران؛ بل لإحداث تحولات سياسية واجتماعية داخل إيران نفسها».

* الحسم في واشنطن

* الولايات المتحدة هي إذن، صاحبة الحسم داخل إسرائيل. فحتى مؤيدو الضربة العسكرية المنفردة، يريدون تنسيقا كاملا معها، باستثناء قلة تغامر في الدخول في مواجهة معها. والتوجه الأميركي الذي يتطور في الأشهر الأخيرة إلى إعلان الرفض القاطع لتوجيه ضربة إسرائيلية لإيران، يؤكد أن الأميركيين، ورغم الانتخابات الرئاسية القريبة جدا (بعد شهرين فقط)، يقولون علنا إن إسرائيل لا تستطيع وحدها توجيه ضربة كهذه. وفي الفترة الأخيرة، يكثر الحديث في واشنطن عن عدم قناعة البيت الأبيض والبنتاغون بأن إسرائيل جادة في توجيه ضربة كهذه.

ولم يكن صدفة أن المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية والآن أصبح من أبرز المحللين الأميركيين، كولين كوهيل، اختار القول لصحيفة «يديعوت أحرونوت» في 17 أغسطس الحالي، ما يلي: «لا ينظرون الآن في إيران أيضا إلى التهديدات الإسرائيلية بجدية». وتقول الصحيفة إن كوهيل تفوه بهذا الشكل مضطرا، وتضيف: «التصريحات الإسرائيلية العربيدية اضطرت وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا أيضا ورئيس هيئة الأركان العامة الجنرال مارتن ديمبسي إلى الكشف عن ضعف إسرائيل، فقالا إنها تريد أن تقضي على المشروع الذري الإيراني لكنها لا تستطيع. وقد تحدثا في غضب مكبوت وحرق للأنياب. وهما لا يقصدان البتة مساعدة إيران بهذه التصريحات».

اللواء في جيش الاحتياط الإسرائيلي، أوري ساغي، الذي شغل منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية بين عامي 1991 و1995، يقول إنه هو أيضا مثل الأميركيين لم يكن يعتقد أن الحديث عن الضربة جدي وأن الأمر لا يتعدى الخدع الحربية. ويضيف: «أصبحت الآن قلقا جدا؛ ففي البداية رأيت في التصريحات حربا نفسية لا أكثر، ثم انتقلت إلى ضرب من التلاعب الإعلامي، ولكنها خرجت الآن عن السيطرة. ظننت في البدء أنها حيلة. واستقر رأيي على أن أحكم على نفسي بالصمت. وما زلت أعتقد أنه لن يحدث شيء في نهاية الأمر، لكنني لم أعد على يقين من ذلك». ويفسر قلقه قائلا: «أنا لا أعرف نتنياهو شخصيا، ولا أعرف كيف يسلك مع القرارات الصعبة. أما الآخر (وزير الدفاع، إيهود باراك)، فيقلقني لأنني أعرفه. فالأول أسير معضلة السجين. والثاني متلاعب. وهذا وضع خطير جدا».

لكن من يعرفون نتنياهو يرون أنه لا يقل خطورة عن باراك، ويجدون أن لديه مصلحة شخصية في اللجوء إلى الحرب. ويكتب ناحوم بارنياع، المحرر السياسي في «يديعوت أحرونوت»: «كان الاستقرار هو الميزة الكبرى لولاية نتنياهو الحالية، وكان يمكن أن نحب قرارات الحكومة أو ننتقدها، لكن حياة أكثر الإسرائيليين كانت جيدة جدا، فقد تمتعوا بهدوء أمني نسبي وهدوء اقتصادي واقتصاد مستقر. وليس هذا إنجازا يُستخف به في دولة كإسرائيل. ولكن، لقد تشوش كل شيء في الأشهر الأخيرة. فقد انتقض الهدوء السياسي حينما استقر رأي نتنياهو على العمل على تقديم موعد الانتخابات. وآنذاك غير في آخر لحظة رأيه واستبدل بتقديم موعد الانتخابات ضم حزب (كديما) إلى الحكومة، وبدا الانضمام سيئا وبدا الانفصال سيئا. ويسلك الائتلاف اليوم سلوك سيارة أصابها حادث. فكل شيء في ظاهر الأمر سليم، لكن كل صوت يصادم السيارة يثير خشية انحلالها إلى أجزاء. فقد دخل الاقتصاد في أزمة ينبع جزء منها من الركود العالمي، وجزؤها الآخر من تأخر رد الحكومة الفاضح، وجزؤها الثالث من قرارات في مجال الأمن. وأصبح الثمن الاقتصادي لحرب مع إيران ملاحظا الآن في هرب المال من البلاد وارتفاع سعر الدولار وتضخم ميزانية الأمن».

وهنا يضيف بارنياع أمرا جوهريا يتعلق بأسس بناء السياسة الإسرائيلية: «يقول وزراء في الحكومة إنه إذا قُضي علينا بالعيش في أزمة، فيُفضل أن تكون الأزمة أمنية لا اقتصادية، فالليكود يخسر في الأزمات الاقتصادية، لكنه يكسب في الأزمات الأمنية». ويقتبس بارنياع ما قاله وزير التعليم، جدعون ساعر، المقرب من نتنياهو خلال اجتماع داخلي لكتلة الليكود البرلمانية، على النحو التالي: «في العشرين سنة الأخيرة وفي كل مرة دارت فيها معركة الانتخابات على موضوع اقتصادي اجتماعي، خسر الليكود. وفي كل مرة كان الموضوع فيها سياسيا أمنيا، فاز الليكود. كان الشعار في انتخابات 1992 (ضقنا بكم ذرعا أيها الفاسدون) وخسرنا لليسار بزعامة إسحاق رابين؛ وفي 1999 دارت الانتخابات حول تلك (العجوز المريضة) التي وضعت في الرواق لأنه لم يكن هناك مكان لها في غرف المستشفى. وخسرنا لليسار برئاسة إيهود باراك؛ وفي 2006 جاء عامير بيريتس مع موضوع المتقاعدين. دفعنا الثمن عن الأحكام الاقتصادية.. وفي مقابل ذلك، دارت الانتخابات في 1996 في ظل اتفاقات أوسلو والعمليات الانتحارية وفزنا. وفي 2001 و2003 جاءت على أثر الانتفاضة وفزنا. وفي 2009 توجهنا إلى الانتخابات وقد سبقها فشل الانفصال وإرهاب الصواريخ في الشمال والجنوب (وفزنا)». ويقول بارنياع إن نتنياهو «أصغى إلى ساعر إصغاء شديدا».

وفي السياق نفسه، كتب العالم الإسرائيلي البروفسور عنار شليف، في «هآرتس» يوم 26 أغسطس الحالي، أن إيران محتاجة إلى إسرائيل بصورة يائسة. فلولا وجود إسرائيل لاحتاجت إيران إلى إيجادها. فإسرائيل هي ترياق النظام الإيراني، التي يجب أن تُشترى، فهو باقٍ بفضلها منذ سنين طويلة. إن الخطابة المعادية لإسرائيل تمكّن نظام الملالي القاسي من صرف انتباه الجماهير عن مشكلاتهم الحقيقية وعن أزمتهم الاقتصادية وعن غلاء المعيشة الذي يرتفع إلى مستويات لا تحتمل، وعن القمع السياسي وقتل المتظاهرين، وعن عدم وجود حرية ورجم النساء. وتساعد إسرائيل إيران، عندما تهددها؛ فالتهديدات بهجوم قريب هي زيت في إطارات نظام الملالي المتعثر، وهي طوق نجاة تطرحه القيادة الإسرائيلية لإيران في آخر لحظة. فالقوى الإصلاحية التي هددت النظام قبل ثلاث سنوات طالبة الحرية والانتخابات النزيهة ستتحد حوله في حال هجوم إسرائيلي. وفي الوقت نفسه، إسرائيل محتاجة إلى إيران بصورة يائسة. فلولا وجود إيران لوجب على إسرائيل أن توجدها. وإيران ترياق للقيادة الإسرائيلية الحالية يجب أن تُشكر، فهي لا تزال في السلطة بفضلها. كانت الكراهية والتخويف دائما نظامي سيطرة ناجعين، لا سيما بالنسبة لحكومات اليمين في إسرائيل. فالخطابة المعادية لإيران تُمكّن نتنياهو من الضرب على أوتار المحرقة وصرف انتباهنا عن مشكلاتنا الحقيقية.. عن الأزمة الاقتصادية وعن غلاء المعيشة الذي يرتفع إلى مستويات لا تحتمل، وعن الخدمات العامة المنهارة، وعن الاستثمارات الضخمة في المستوطنين والحريديين. وتساعد إيران إسرائيل، فهي تهددها.. وهذه التهديدات زيت في إطارات حكومة نتنياهو المتعثرة تنقض عليها كأنها تجد غنيمة كبيرة. إن غيوم الحرب التي أنتجها باراك ونتنياهو والتي تلوث جونا على الدوام من بدء الشتاء الأخير إلى نهاية الصيف، قد نجحت في خنق الاحتجاج الاجتماعي الواسع جدا الذي كان تهديدا حقيقيا للحكومة».

والسؤال هو ما إذا كان الأمر سيبقى في مستوى التهديد.. فكثير من الحروب في التاريخ البشري نشبت بسبب تهديدات بدأت فارغة ووهمية، ولكن دينامية السياسة والسياسيين جعلتها تتدهور إلى صدام حربي.