أرض الشمس البازغة

TT

أذكر أنه في أولى محاضرات الجغرافيا السياسية بالجامعة سأل المحاضر عن سبب تأخر اليابان في المشاركة في مسرح السياسة الدولية، وأتذكر أيضا إجابتي يومها بأن هذا كان مرتبطا ارتباطا كبيرا بعزلتها الجغرافية وانعزالها الطوعي، فلقد تأخرت اليابان عن الركب الدولي لهذين السببين ولم تنضم لحلبة القوى الدولية إلا فيما بعد في أعقاب قيامها بتطوير قدراتها العسكرية على الأنماط الغربية، بالتالي فإنه يمكن القول بوجود علاقة مباشرة بين انخراط اليابان في العالم من ناحية وانتشار عوامل الاتصالات والتي تحولت فيما بعد للعولمة وثورة الاتصالات، فهذه العلاقة المباشرة تبدو وكأنها تشير إلى نمط هام للغاية وهو أنه طالما قوي عنصر الاتصالات زاد انخراط اليابان وانفتاحها على العالم، وهو أمر ليس بغريب لأنه مرتبط ارتباطا قويا للغاية بعوامل ظهور اليابان على الساحة الدولية.

لقد ظلت اليابان تعيش بمعزل عن العالم طوال قرون طويلة منذ أن استوطنتها القبائل الأولي الوافدة من الصين ومنشوريا وكوريا، وقد ظلت اليابان هكذا بلا اختلاط مع العالم الغربي حتى أول لقاء لها بالغرب في عام 1543 عندما رست السفن التجارية الأوروبية في شواطئ اليابان بحثا عن التجارة والمعادن الثمينة في إطار زمن الاستكشافات البحرية، وقد كانت الصدمة كبيرة للغاية تجاه هذه القوى المقبلة من الغرب، فهم متقدمون ويمتلكون أسلحة متقدمة وسفنا حربية عظيمة، ولكن هذا لم يكن كل ما أتى به التجار الغربيون، فلقد أحضروا معهم حملات التبشير الواحدة تلو الأخرى، خاصة «اليسوعيين Jesuits» والذين كان لهم دور محدود في البداية بسبب عائق اللغة والفكر، فأغلبية من اليابانيين كانوا يؤمنون بالكونفوشية، وبالتالي بذلت حركات التبشير جهودا مضنية كي تستطيع نشر الديانة المسيحية، وبعد عدة عقود تمكنت الكنيسة من نشر التعاليم الكاثوليكية في البلاد بشكل ملحوظ، ولكن ليس على حساب الحساسية الشديدة من قبل القيادات اليابانية بسبب طبيعتهم المحافظة.

لقد كانت اليابان في ذلك الوقت تمر بحرب أهلية تكاد تكون عامة، فلقد كان المجتمع الياباني شأنه شأن مجتمعات القرون المظلمة في أوروبا ينقسم فيه إلى إقطاعيات يمتلكها الإقطاعيون بقوتهم العسكرية والتي كان قوامها ما يسمي «بالساموراي»، وهو نظام عسكري منظم مبني على الالتزام التام والولاء المطلق للإقطاعي الذي يقوم بالصرف عليهم وتدريبهم منذ الصغر، ولم يكن لأي شخص حق الحصول على شرف أن يكون من الساموراي، ولكنها كانت مرتبطة بشكل كبير للغاية بالطبقات الاجتماعية في البلاد، وقد كانت هذه الطبقة من الجنود تستخدم السيف كسلاحها الأساسي، وكان كل ساموراي يحمل في جنبه سيفين، الأول للدفاع عن النفس والثاني لكي يأخذ حياته بيده فيما يسمى «بالهاريكيري» في حالة ما إذا طلبت قيادته منه ذلك أو لسبب يتعلق بعدم صيانته لشرفه، وحقيقة فإن هذا النظام كان قريبا بعض الشيء من نظام المماليك في مصر والشام، حيث كانت هذه الميليشيات التابعة لكبار المماليك هي القوة المنظمة في الدولة، ولكن الفارق الأساسي هنا كان اختلاف الطبائع بين الطائفتين، فبينما كانت المماليك يُشترون من العبيد ويدربون، كان الساموراي من أبناء الدولة اليابانية من الطبقات العليا، وبالتالي فقد التزم الساموراي في أوقات كثيرة بالولاء بينما كانت المماليك تمزقهم الدسائس والمكايد وعدم الولاء.

لقد كانت الحرب الأهلية في ذلك الوقت حربا ضروسا بين الإقطاعيين في إطار صراعهم ليكون كل واحد منهم هو «الشوجان» أو القائد العسكري العام، وقد دفعت البلاد الثمن غاليا من الأرواح والأموال عبر سنوات طويلة انتظارا لأن تميل كفة واحد من الساموري على حساب الآخرين، وبالفعل بدأ نجم أحد القادة يظهر وكان معه واحد من كبار الساموراي اسمه «إي أياسو» والذي كان رهينة عنده لضمان ولاء والده له، ولكن مع مرور الوقت بدأ الرجل ينبغ في فنون القتال والسياسة، وكان أفضل ما يميزه هو الصبر الممتد والحكمة والعنف في آن واحد، وقد آثر الرجل عدم الدخول في صراع مباشر على السلطة في ذلك واكتفى بالذهاب إلى مدينة «إيدو» والتي أصبحت فيما بعد طوكيو، وانتظر بها حتى بدأ يشتد عوده السياسي والعسكري، ثم كانت معركة «سيكيجيرو» فاصلة في هذا الصدد فأنهت الحرب الأهلية وانتهت بتسيد «إي إياسو» البلاد فأصبح «الشوجان» أو صاحب السلطان في كل اليابان وفرض حكم أسرة «التوكوجاوا» على البلاد لأكثر من قرنين مقبلين.

لقد وضع هذا الرجل نظاما اجتماعيا وسياسيا قويا ضمن استمراره لمدة تصل لقرابة مائتين وستين عاما، ولعل أهم ما أنجزه هذا الرجل كان الانفتاح على الغرب من خلال التجارة الدولية، فعمل على عقد اتفاق تجارة حصري مع الشركة الهولندية لشرق الهند وبدأ يقلص من نفوذ الحركات التبشيرية وسعى لطرد المبشرين وعلى رأسهم اليسوعيون لأنه كان ينظر لهم على أنهم طابور خامس ونظام فكري يحد من سلطاته المطلقة بإدخال فكرة إله أعلى وأسمى من «الشوجان»، فضلا عن اقتناعه بأن هذه الديانة الجديدة ستضرب أسس الفكر الكونفوشي، كذلك فقد بنى الرجل أسطولا تجاريا كبيرا وأخذ من الأوروبيين سبل تصنيع السفن ونظم التسليح وبدأت البلاد تهدأ وتضمد جراح الحرب الأهلية، كما بدأت تقوى معها قوتها المركزية.

وكطبيعة الدول، فإن النظام لم يستطع أن يصمد أمام عوامل المد والجذر الداخلي، فحتى مع السلطة المطلقة للشوجان، فإن حفيد الرجل «أي آميتسو» وضع بسياساته الخاطئة بداية تفكك القوة المركزية للبلاد والتي بدأت تعاني من انتشار طبقة الساموراي دون وجود حروب، فأصبحت عبئا اقتصاديا على البلاد، كما أن الرجل اتخذ قرارات عنيفة للغاية أدت إلى إضعاف البنية الاجتماعية في البلاد، منها زيادة الضرائب على كاهل الفلاحين وتغليظ الفوارق الطبقية، وهو ما بدأ يؤثر بشكل تدريجي على فرص استمرار هذه الدولة وتواصلها مع العالم الخارجي، فلقد اتخذ الرجل قرارا باضطهاد المسيحيين وتطهير الأراضي اليابانية من وجوده، فقتل منهم من قتل خاصة الذين ثاروا ضده في الثورة الكبرى التي عمت أجزاء من البلاد والتي استخدم الرجل فيها عنفا كبيرا يفوق الخيال لكبتها، وعند هذا الحد وحفاظا على القيم اليابانية وعدم تأثرها بالرجل الغربي فقد اتخذ «الشوجان» قرارا بعزل البلاد عزلة تامة ولم يستثن من ذلك إلا الهولنديين في شرق البلاد لكنه حجم وجودهم وانتشارهم تحجيما شبه كامل.

وهكذا فقد اختارت القيادة السياسية لليابان التخلف الاختياري في الوقت الذي بدأ الغرب موجاته الصناعية والتوسعية على حد سواء، وعندما كانت قوى الغرب تطور أسلحتها وقدراتها الهجومية فقد لجأ الساموراي إلى وسائل بدائية وتقليدية لحماية نظامه الداخلي من الثورة، ولكنها القوة البدائية التي لم تستطع أن تصمد أمام «الكومودور بيري» عام 1853، والذي أتت معه موجات من التدخل الغربي في الشؤون اليابانية أدت إلى انهيار نظام الشوجان ومعه النظم السياسية التقليدية في البلاد، ولهذا الأمر حديث آخر الأسبوع المقبل.

* كاتب مصري