معجزة الثورة اليابانية

TT

تناولنا في الأسبوع الماضي الأوضاع في اليابان وتوجهها الانعزالي، حتى فوجئت القيادة السياسية في البلاد بالكومودور بيري الأميركي يقود «سفنه السوداء» كما كانت تسمى ويمهل اليابان فرصة محدودة لفتح أسواقها للتجارة الأميركية ولاستيراد الفحم، وعند هذا الحد بدأت اليابان تدرك أنها خارج نطاق الزمن وعلى هامش القوى الدولية، بما بات يهدد النظام الإقطاعي الذي كان يسيطر على مقدرات البلاد، والذي بدأت أسسه تضعف تدريجيا أمام ضغوط التغيير الاقتصادي ونمو طبقة التجار التي بدأت تنافس القوى التقليدية في البلاد. ومع ذلك فهذا التطور نما ولكن ببطء شديد، إلى أن جاء عام 1867 حيث اضطر الحاكم العسكري أو «الشوجان» لتسليم سلطاته بالكامل إلى الإمبراطور الياباني الذي كان يملك ولا يحكم. وفي العام التالي 1868 تم إعلان عودة السلطة إلى الإمبراطور بالكامل، ويصور بعض المؤرخين ما حدث في هذا العام على أنه الثورة التي أدخلت اليابان عصر الحداثة، بينما يصفه آخرون بأنه كان إعادة بعث لنظام حكم الإمبراطور في ما هو معروف باسم إعادة السلطات لـ«ميجي» (Meji)، والذي تجسد في تمركز قوة الدولة في أيدي الإمبراطور «موتسو هيتو»، فسقط نظام الشوجان (الحاكم العسكري) ومعه طبقة الساموراي العسكرية، وعلى أشلائه بدأت اليابان تستعد لثورة اقتصادية واجتماعية وسياسية مكتملة المعالم وقوية الطابع، لكن ليس قبل مرحلة توتر وشد وجذب مع بقايا الطبقة العسكرية في البلاد والتي لم تستسلم بسهولة، فدارت مناوشات وحروب مصغرة، وآخرها معركة «هاكوداتي» التي انتهت بهزيمة ساحقة لفلول الساموراي الساعين للاستقلال بجزء من اليابان على أيدي الجيش الياباني الجديد.

ويؤكد عدد من المؤرخين أن التطور والتنمية في اليابان لم تكن قوة دفعهما مرتبطة بطبقة التجار أو بوادر الطبقة الصناعية الحديثة التي بدأت تنبت إثر الثورة التجارية في البلاد، لكنها كانت ثورة لصالح الدولة، فهدفها تطوير الدولة لتستطيع مواجهة العالم الخارجي ولتكون مؤهلة لكي تستطيع منع التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، ومع ذلك فالمتغيرات شملت كل أوجه الحياة في اليابان، فقد أدت هذه الثورة الجديدة إلى القضاء على النظام السابق، ولكن الأهم من ذلك كان القضاء على نسيجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإقامة نظام جديد وهيكل اجتماعي مختلف.

وقد لجأت هذه الثورة إلى نموذج قريب من النموذج المصري في عهد محمد علي ولكن بشكل أكثر تنظيما وامتدادا وأكثر عمقا من الناحية الاجتماعية، فقد وضع الإمبراطور ورجال الدولة الجدد دستورا جديدا للبلاد على النموذج الألماني بما يحافظ على الحقوق والواجبات لكن من دون الإخلال بدور وأوليات الدولة اليابانية الوليدة، كما تم وضع نظام قضائي متطور على غرار بعض الدول الغربية، كذلك بدأت الدولة تلعب دورا مهما في دعم حركة التصنيع في البلاد، خاصة الصناعات الثقيلة لتتخطى مرحلة ما قبل الرأسمالية وتدخل مباشرة في النظام الاقتصادي الدولي، وكما كان متوقعا فقد أدخلت الدولة نظاما مصرفيا قويا واضح الأهداف ليسهم في توفير رأس المال المطلوب لدفع النهضة الجديدة وخطط التطوير والتصنيع، واهتمت الدولة بتشييد البنية الأساسية استعدادا للانطلاقة الاقتصادية المنشودة، فقامت بإنشاء شبكة طرق لربط الجزر اليابانية داخليا، كما قامت بوضع شبكة الاتصالات ممثلة في نظام التلغراف والقطار لضمان الربط السياسي للدولة خاصة أنها كانت على عتبة انفتاح اقتصادي وسياسي واسعي النطاق، كما شيدت الحكومة الموانئ لضمان حركة ملاحة مناسبة، وقد تواكبت مع ذلك حركة تطوير واسعة النطاق في التعليم نجحت في القضاء على نسبة كبيرة جدا من الأمية في البلاد.

والملاحظة الأولى التي سيلاحظها كل من درس الجغرافيا السياسية لليابان أنها دولة بلا موارد طبيعية كثيرة، حتى أراضيها الصالحة للزراعة لا تتخطى عشرين في المائة فقط من إجمالي مساحتها، وهو ما وضع الإمبراطور وحكومته الجديدة أمام معضلة اقتصادية حقيقية، وهي السعي لمحاولة وقف الاعتماد على الخارج، ولكن في الوقت نفسه السعي لتمويل سياساتها وخططها من خلال الاعتماد على الخارج، فاضطرت البلاد للدخول في عملية اقتراض خارجي واسعة النطاق كالتي وقعت فيها كثير من الدول النامية في الحقبة نفسها ومنها مصر في عهد الخديو إسماعيل بهدف الرقي بالدولة، وهو ما فتح البلاد أمام النفوذ الأجنبي، لكن الاعتماد على التمويل الأجنبي لم يكن وجه الاعتمادية الوحيد، إذ إن البلاد اضطرت للاعتماد على الدول الصناعية الكبرى من أجل توفير القاعدة العسكرية المطلوبة، فاعتمدت على بريطانيا في شراء سفنها الحربية، وعلى بروسيا ثم ألمانيا بعد ذلك من أجل بناء جيشها الجديد. وهكذا بدأت اليابان تأخذ تدريجيا وضعها في مصاف الدول الأكثر تطورا في العالم، فصارت في مؤخرة الدول الصناعية خلال أقل من حقبتين.

لعل أهم علامة ميزت الثورة اليابانية وتجربتها السياسية والصناعية كانت البعد الثقافي، فلقد دفعت النخبة الحاكمة الجديدة التي تولت إدارة البلاد بالمتغيرات المطلوبة، لكنها حافظت على الأسس القوية للثقافة اليابانية. فقد دخلت اليابان عصر التقدم الاقتصادي والرأسمالية، لكنها لم تقتبس المتغيرات الثقافية التي مرت بها الدول الأخرى التي شابهتها في التجربة، فالطبقات الاجتماعية الصاعدة والتي رسختها عملية التحول الرأسمالي في البلاد لم تمح بشكل يذكر أساسيات الثقافة وجذورها، فقد ظلت الثقافة المحافظة هي النمط السائد في البلاد، وحتى عندما غيرت بعض القشور الثقافية فإنها أبقت على الأصالة، وهو ما خلق حالة مزج بين الحداثة والفكر التقليدي المحافظ في آن واحد، وهذه كانت ثاني معجزة يابانية ملحوظة بعد القفزة الرأسمالية الهائلة.

ومع ذلك فببزوغ القرن العشرين بدأت اليابان تلعب دورا مهما في السياسة الدولية إلى أن أصبحت قوة عظمى تنافس على قيادة النظام الدولي، لكنها لم تستطع الحفاظ على وضعيتها ومكاسب ثورتها السياسية والاقتصادية، فدخلت في سلسلة من الأخطاء أدت إلى تعرضها لضربتين نوويتين كسرتا أي فرصة لها للقيام بدور عسكري حتى يومنا هذا، ولكن في الحالة اليابانية فقد نجحت في تحقيق معجزة ثالثة بعد ذلك بالمساهمة في توزيعات القوى من خلال رفع كفاءتها الاقتصادية مرة أخرى، وهو ما يضع اليابان ضمن الدول المحدودة جدا القادرة على تحقيق المعجزة تلو الأخرى في قرن تلاشت فيه المعجزات السياسية والاقتصادية.

* كاتب مصري