عصر الاعتذارات

أشهرها اعتذار بلير للأفارقة عن تجارة الرقيق.. وبراون عن تهجير عشرات الآلاف من الأطفال البريطانيين القرن الماضي

TT

يوم الأربعاء (أول من أمس)، أثار ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، ضجة عندما قدم اعتذاره لعائلات ضحايا كارثة مباراة ليفربول ضد نوتنغهام التي جرت عام 1989 على ملعب «هيلسبورو». وكانت لجنة مستقلة برئاسة كبير أساقفة ليفربول أصدرت تقريرا قبل 3 أعوام قالت فيه إن الشرطة البريطانية، قصرت، ثم حملت المسؤولية للمتفرجين «السكارى».

وقال كاميرون أمام البرلمان متوجها لعائلات الضحايا الستة والتسعين الذين قضوا في المأساة، «باسم الحكومة - والدولة بأكملها بطبيعة الحال - أنا متأسف جدا على هذا الظلم المزدوج الذي بقي دون تصحيح لفترة طويلة».

وأشار كاميرون إلى أن الشرطة حاولت مرارا أن تخفي البراهين التي تكشف أنها تتحمل مسؤولية ما حصل، كما سعت إلى تحميل المشجعين المسؤولية الكاملة في هذه المأساة. وكشف كاميرون أيضا أنه كان هناك تقصير من قبل رجال الإسعاف أيضا لأنه كان بإمكانهم إنعاش بعض الضحايا لو قدموا لهم المساعدة بشكل أسرع.

جزء من الضجة كان عن اعتذار حاكم عن حادث وقع في عهد حاكم آخر، خاصة بعد مرور سنوات كثيرة على الحادث.

ولكن، ليس كاميرون وحده الذي قدم اعتذارا عن أخطاء وقعت؛ فالاعتذار أصبح سمة العصر؛ فالسياسيون، خاصة في الغرب، قدموا اعتذارات عدة عن أخطاء ارتكبوها، فيما لا يزال كثيرون يبحثون عن من يعتذر لهم عن ظلم لحق بهم. ويرى البعض أن الاعتذار هو «أقل واجب».. فيما يرى آخرون أن اعتذارات السياسيين ليست عن ندم.. أو توبة».. ولكن خوفا من رفع قضية تعويض في المحاكم.

وبالطبع، فإن كاميرون ليس أول حاكم بريطاني يفعل ذلك؛ ففي عام 2006، اعتذر توني بلير، رئيس الوزراء، عن دور بريطانيا في تجارة الرقيق، خاصة في أفريقيا، وفي عام 2010، اعتذر غوردن براون، رئيس الوزراء، عن تهجير عشرات الآلاف من الأطفال البريطانيين إلى أستراليا ونيوزيلندا بالقوة، خلال النصف الأول من القرن الماضي. كما أن كاميرون نفسه اعتذر عام 2010، عن «الأحد الدامي» في آيرلندا الشمالية، عندما قتلت القوات البريطانية 26 مدنيا عام 1972.

وفي اتجاه آخر، رفض كاميرون الاعتذار عن خطأ اعترف بوقوعه بشأن تعذيب عانى منه بريطانيون مسلمون في سجن غوانتانامو الأميركي في كوبا، في مقابلة تلفزيونية أجراها معه ديفيد فروست العام الماضي.. سأله فروست: «هل تعتقد أن سجن غوانتانامو كان خطأ؟» وأجاب: «نعم، ارتكبت أخطاء في سجن غوانتانامو. لكن، يجب أن نكون حذرين عندما نصدر حكما من دون وضع اعتبار للظروف الصعبة التي أعقبت هجوم 11 سبتمبر (ايلول) سنة 2001».

الجملة المهمة هنا هي «ارتكبت أخطاء»، بدلا من «ارتكبت أنا خطأ»، هذه الأولى عبارة يفضلها السياسيون، ربما مثل عبارة «أعتذر إذا أسأت إلى أي شخص».

يقول لورين بلوم، وهو محام ورجل أعمال في واشنطن، وعمل لسنوات مستشارا وخبيرا لأعضاء في الكونغرس: «من خلال معاملاتي مع السياسيين من الشارع (كي) - وهو شارع مكاتب المحامين ومكاتب اللوبي في واشنطن- أستطيع أن أجزم بأنه لا يوجد من يستعلي على الناس مثل السياسيين. يعتقدون أنهم هم الذاكي، والأقوى، والأفصح. وطبعا، هم في الحقيقة يقودون هذه البلاد.. وفي كل العالم، يقودون بلادهم، رضينا أم أبينا.. نؤيدهم أم نعارضهم. لهذا، ليس الاعتذار صعبا بالنسبة لهم. لا أشك أن السياسي يعتذر لزوجته إذا أخطأ في حقها. لكن، هذا شيء والاعتذار لعامة الناس شيء».

وكتب صحافيون يتابعون السياسيين، وخبراء في علم النفس يدرسون تصرفات السياسيين، عن ظاهرة «نان أبولوجي أبولوجي» (الاعتذار الذي ليس اعتذارا). يقول بروس ماكيل، الذي يكتب في مطبوعات أميركية؛ منها صحيفة «نيويورك تايمز» ومجلة «فانيتي فير».

«الاعتذار الذي ليس اعتذارا هو اعتذار من دون ندم، وهو كثير وسط السياسيين.. السياسي يأسف ليس عن تصرفه، ولكن للأذى الذي لحق بشخص أو جماعة بسبب هذا التصرف. وفقط لأن الشخص أو الجماعة طالبوا بالاعتذار، وربما هددوا برفع قضية تعويض».

ربما أشهر اعتذار في التاريخ هو عندما اعتذر سقراط، أحد أعمدة الفكر الغربي، سنة 399 قبل الميلاد. لكن، حتى اليوم يستمر النقاش عما إذا كان اعتذر أم لم يعتذر. وكان حكماء وحكام أثينا وجهوا له اتهامين رئيسيين: أولا: لا يؤمن بالآلهة اليونانية. ثانيا: يفسد شباب أثينا. ويقال إن سقراط اعتذر عن إفساد الشباب، لكنه لم يعتذر عن رفضه الآلهة اليونانية. ويقال إنه قال أنه يؤمن بالآلهة، لكنه لا يؤمن بقدرتها على أن تفعل أي شيء. ومن أسباب استمرار النقاش أن أفلاطون هو الذي سجل محاكمة سقراط. ورغم أن الرجلين كانا صديقين، فإن سقراط نفسه لم يكتب عن محاكمته. (حكم عليه بالإعدام، وأعطي له سمّ، شربه، ومات).

وفي الأديان، خاصة الأديان السماوية، نصائح كثيرة عن الاعتراف بالخطأ، والاعتذار، والتوبة. لكن، لا يتحدث الغربيون كثيرا عن «ريبنتانس» (التوبة)، ربما بسبب مغزاها الديني. ويتحدثون عن «كونتريشن» (الندم): هل الاعتذار مجرد اعتذار أم فيه ندم؟ وطبعا، في القرآن الكريم سورة «التوبة»، وفيها أن التوبة الحقيقية هي الرجوع إلى طاعة الله بعد عصيانه (لأن الإساءة والكذب والسرقة والزنى معصية لله قبل أن تكون إساءة إلى شخص أو جماعة). وفي القرآن الكريم: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين».

ومن قصص الاعتذار وسط المسيحيين، اعتذار الإمبراطور الروماني هنري الرابع للبابا لأخطاء ارتكبها.. أولا، أرسل خطاب اعتذار، ثم وقف، حافي القدمين فوق الجليد، لثلاثة أيام أمام باب الفاتيكان.

وفي التاريخ السياسي، اعتذرت ألمانيا (في معاهدة فرساي) عن دورها في بداية الحرب العالمية الأولى، ووافقت على دفع تعويضات. واعتذرت ألمانيا مرة أخرى، بعد الحرب العالمية الثانية، عن محرقة اليهود، ووافقت على دفع تعويضات (لا تزال تدفعها لحكومة إسرائيل).

وفي التاريخ الأميركي، اعتذر الرئيس أبراهام لنكون عن الحرب الأهلية، وطلب الغفران من عائلات ضحاياها (من الجانبين)، وسن إجازة عيد الشكر السنوية «للتوبة عن خطايانا». واعتذر الرئيس يوليسيس غرانت عن فضائح اجتاحت إدارته. لكنه عاد إلى اعتذار «أخطاء ارتكبت»، وقال: «أعترف وأقول وأكرر أن أخطاء قد ارتكبت».

واستعمل الرئيس ريتشارد نيكسون العبارة نفسها، خاصة عندما واجه فضيحة «ووترغيت» (التي استقال بسببها). وأيضا، رون زيغلار، المتحدث الصحافي باسم نيكسون، لصحيفة «واشنطن بوست» التي قادت إلى كشف الفضيحة. وقال: «أود أن أعتذر لصحيفة (واشنطن بوست). علينا جميعا أن نقول إن أخطاء ارتكبت في ما يتعلق بتعليقات صدرت مني أو من مسؤولين آخرين في البيت الأبيض. وأنا شخصيا كنت متحمسا في بعض تعليقاتي، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار الظروف غير العادية والتطورات السريعة».

واعتذر الرئيس رونالد ريغان بسبب فضيحة «إيران غيت» (محاولة تحسين العلاقات مع إيران سرا، حتى كشفت). وقال: «مؤكد أن محاولة إطلاق سراح مواطنينا المعتقلين في دولة بربرية ليس خطأ. لكننا، في البداية، لم نحقق ما نريد. وارتكبت أخطاء خطيرة في محاولة للقيام بذلك. وسوف نصل إلى أعماق هذا الموضوع. وأنا سأتخذ كل خطوة ممكنة لتحقيق ذلك». (يمكن ملاحظة استعمال «نحن» أحيانا، و«أنا» أحيانا، والفعل المبني للمجهول أحيانا).

واعتذر الرئيس بيل كلينتون بعد اكتشاف أنه دعا كبار المسؤولين في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك) لاجتماع في البيت الأبيض بين كلينتون ومسؤولين في الجهاز الذي يراقب الشركات الكبرى والبنوك. وصار واضحا أنه يريد جمع تبرعات من هؤلاء الأثرياء للحزب الديمقراطي. وقال: «ارتكبت أخطاء هنا، ارتكبها ناس إما لأنهم فعلوها عمدا، أو فعلوها عن غير عمد، ثم اتضح لهم خطأهم في ما بعد».

لكن، لم يعتذر كلينتون بعد اكتشاف علاقته الجنسية مع مونيكا لوينسكي، سكرتيرة البيت الأبيض. ولم يعتذر بعد أن تأكد أنه كذب عندما أنكر العلاقة. وعندما قال عبارته المشهورة: «ليست لي علاقة جنسية مع هذه الفتاة؛ لوينسكي». وحتى في كتاب مذكراته، لم يعتذر، رغم أنه قال إنه اعتذر لزوجته ولابنتهما، «لأن هذا موضوع شخصي»، ولأن «كل الضجة كانت حربا سياسية علي».

وحتى لا يقدم إلى محاكمة في شيلي وفي دول أخرى في أميركا اللاتينية، اعتذر هنري كيسنجر، وزير الخارجية في عهد نيكسون، عندما وقع انقلاب عسكري، بتأييد الولايات المتحدة، في شيلي وأسقط حكومة الليندي اليسارية. وقال كيسنجر: «ممكن جدا أن أخطاء ارتكبت» (حتى اليوم، لا يزال كيسنجر مطلوبا ليمثل أمام القضاء في شيلي).

غير أن أكثر اعتذار مطلوب أو غير مطلوب، ومتوقع أو غير متوقع، وسط السياسيين الأميركيين المعاصرين هو عن غزو العراق. بعد أربع سنوات من الغزو، قال الرئيس بوش الابن (الذي أعلن وقاد الغزو): «إذا كانت هناك أخطاء ارتكبت، فأنا مسؤول عنها». وحتى اليوم، لم يغير بوش موقفه هذا، وكرره في كتاب مذكراته. ولا بد أن هذا الموضوع سيواجه بوش باستمرار، وذلك بسبب حملات عالمية (وليست حقيقة أميركية) بأن بوش يجب أن يقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب ما تصفه هذه الحملات العالمية بأنه «مليون قتيل عراقي، وخمسة ملايين لاجئ عراقي، داخل وخارج العراق».

وحاول السناتور الجمهوري جون ماكين الاعتذار، أو عدم الاعتذار، عن تأييده غزو العراق، وقال، بعد سنتين من الغزو، في مقابلة تلفزيونية مع المذيع تيم روسيت: «أعتقد أن واحدا من الأخطاء التي ارتكبت كان تضخيم توقعات الحرب بأنها ستكون مثل قضاء يوم عائلي على البلاج». وعندما سأله روسيت عن اعتذار، أو عدم اعتذار، الرئيس بوش، قال ماكين: «اعترف الرئيس بأن أخطاء ارتكبت». وسأل روسيت: «أليس الرئيس هو القائد الأعلى؟ ألم يفشل؟ ألم يخطئ؟»، وأجاب ماكين: «تقع المسؤولية على كل من هو مسؤول. في كل حرب، ترتكب أخطاء. وفي هذه الحرب، ارتكبت أخطاء ضخمة. لكننا يمكن أن نكون متفائلين، وأن نحقق إنجازات (في العراق أثناء الاحتلال)».

ولم يقل: «يمكن أن نتعظ من أخطائنا». وطبعا، لم يعتذر. لكن، كيف يعتذر وهو لم يعترف بأنه أخطا، أو أن الرئيس بوش أخطا؟ وتظل مسؤولية غزو العراق معلقة فوق رؤوس غير السياسيين.. فوق رؤوس الخبراء الذين ملأوا شاشات التلفزيونات الأميركية يؤيدون الغزو؛ مثل ريتشارد بيرل، الخبير اليهودي الذي كتب مؤخرا: «أود أن أكون واضحا هنا.. هناك أخطاء ارتكبت، لكن، لم يرتكبها (نيوكون/ المحافظون الجدد، وهم تحالف يهود ورجال دين مسيحيين متطرفين وجمهوريين متطرفين)، لم يكن (نيوكون) مسؤولين عن الحكم في واشنطن، ولم يكونوا مسؤولين عما حدث بعد الغزو».

الآن، بعد نهاية الاحتلال الأميركي للعراق، تستمر مشكلة اعتذار السياسيين والعسكريين حول الحرب في أفغانستان، خاصة بعد تقارير بأن العمليات العسكرية الأميركية قتلت مدنيين، مثل الذي حدث بعد غارة على حفل زواج أفغاني، عندما قال الجنرال ديفيد ريتشاردز: «في ضباب الحرب، ارتكبت أخطاء».

في الشهر الماضي، أصدر كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كتاب مذكراته، وفي الفصل الخاص بحرب العراق، تحدث عن «ضغوط أميركية» عليه عندما كان مجلس الأمن يصدر قرارا بعد قرار عن العراق قبل غزوه، وتحدث عن «عدم ارتياح» لأن الرئيس بوش أمر بغزو العراق من دون قرار من مجلس الأمن. تحدث وكأنه شاهد (وليس مشتركا).. تحدث، ولم يتحمل أي مسؤولية، وطبعا، لم يعتذر. وفي الكتاب، تحدث أنان عن زيارة وزير الخارجية الأميركية كولين باول له في مكتبه، بعد غزو العراق بسنتين. وتحدث أنان عن «عدم ارتياح» من جانب باول لأنه، باول، كان من قادة غزو العراق.

ومثلما لم يعترف أنان بأي مسؤولية، لم يعترف باول أيضا. وحتى اليوم، يطارد الموضوع باول، وقال مؤخرا إنه ليس مسؤولا عن خطأ تقديم معلومات إلى مجلس الأمن عن أسلحة العراق الكيماوية لأن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) قدمتها له.

لكن، وسط السياسيين الأميركيين، هناك اعتذارات قبلت: اعتذر كلينتون للصين بعد أن ضربت الطائرات الأميركية سفارتها في بلغراد خلال حرب البلقان. واعتذر لغواتيمالا لأن حكومات أميركية سابقة أيدت نظاما عسكريا هناك استمر 40 سنة. واعتذر للأميركيين السود عن تجارة الرقيق. واعتذر للأفارقة (خلال زيارة إلى أفريقيا) عن استعمار الرجل الأبيض.

واعتذر بوش لليابان بعد أن أغرقت غواصة أميركية سفينة صيد يابانية بالقرب من جزر هاواي. واعتذر لكوريا الجنوبية بعد أن قتلت سيارة عسكرية أميركية بنتين كوريتين هناك.

ورغم سجل بوش في عدم الاعتذار، خاصة للعرب والمسلمين، اعتذر أحيانا.. اعتذر بعد نشر صور تعذيب الأميركيين للسجناء العراقيين في سجن أبو غريب، وقال إن الصور «عار على شرف وسمعة وطننا»، وقال إنه «آسف للتحقير الذي عاناه السجناء وعائلاتهم. لكن الذين شاهدوا تلك الصور لا يعرفون حقيقة طبيعة وقلب أميركا».

واعتذر بوش للمسلمين الأميركيين بعد أن طردت شرطة البيت الأبيض عبد الله العريان (ابن سامي العريان، الفلسطيني الذي كان معتقلا في ولاية فلوريدا) وكان عضوا في وفد إسلامي اجتمع مع مسؤولين في البيت الأبيض.

وخارج أميركا، اعتذر البابا جون بولس عن دور الكنيسة الكاثوليكية في تجارة الرقيق في أفريقيا. واعتذر، في «خطاب إلى كل امرأة» عن سوء معاملة الكنيسة الكاثوليكية للنساء عبر تاريخها.

وفي جنوب أفريقيا، اعتذر دي كليرك، رئيس الحكومة البيضاء العنصرية، عن سنوات التفرقة ضد السود. واعتذر نيلسون مانديلا عما لحق بالأبرياء خلال عمليات المقاومة المسلحة.

لكن، هناك سياسيون رفضوا الاعتذار: رفض الرئيس كيندي الاعتذار عن إرسال طائرة تجسس فوق روسيا (كما طلب الزعيم الروسي خروتشوف). ورفضت إسرائيل الاعتذار للعرب عن شن حرب 1967 (كما طلبت الجامعة العربية). ورفض الرئيس كارتر الاعتذار لإيران، عندما كانت تعتقل الدبلوماسيين الأميركيين، عن سياسات الحكومات الأميركية السابقة، (كما طلبت إيران، شرطا لإطلاق الدبلوماسيين).

ورفض الرئيس الفرنسي متراند الاعتذار عن دور الفرنسيين في محاكمة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية (كما طلبت إسرائيل). ورفض الهنود الحمر في كندا اعتذار كنيسة كندا لدورها في طردهم عندما تأسست كندا (اعترفوا بالاعتذار، لكنهم لم يقبلوه).

ورفض الرئيس كلينتون الاعتذار لليابان عن إلقاء قنبلة هيروشيما النووية عليها مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ورفض الفاتيكان الاعتذار عن «عداء مسيحيين لمعتنقي اليهودية»، لكنه اعتذر لأنه لم يعارض محرقة اليهود في ألمانيا (أي إنه فرق بين اليهود بصفتهم عرقا، والدين اليهودي).

وهناك اعتذارات عن أحداث تاريخية لها صلة بظلم الغربيين لشعوب العالم الثالث:

اعتذرت حكومة أستراليا لسكان البلاد الأصليين بعد أن طلبوا ذلك منها. واعتذرت حكومة كندا للهنود الحمر بعد أن طلبوا ذلك منها. واعتذرت الحكومة الأميركية لاعتقال الأميركيين اليابانيين بعد أن طلبوا ذلك منها.

لكن بريطانيا ونيوزيلندا اعتذرتا لسكان نيوزيلندا الأصليين من دون أن يطلبوا ذلك. واعتذرت الحكومة الأميركية للهنود الحمر من دون أن يطلبوا منها ذلك.

ولم يطلب الهنود الحمر في دول أميركا الجنوبية اعتذار حكومات تلك الدول لأن معظمهم اختلط ببقية السكان، ولأن كثيرا من الدول هناك تنتهج أو تشجع سياسة «دمج» مواطنيها، رغم اختلاف خلفياتهم. ويعتبر معظم سكان البرازيل وكوبا خليطا من شعوب إسبانية وأفريقية وهندية.

ولم يطلب الأميركيون السود اعتذار الحكومة الأميركية (بدأ عدد قليل منهم يفعل ذلك خلال السنوات القليلة الماضية). ولا يعتقد أن الحكومة الأميركية ستعتذر، لأن معنى ذلك هو الاعتراف بالخطأ، وبالتالي المطالبة بتعويضات كثيرة.

وقالت د. ميليسا نوبلز، أستاذة علوم سياسية في معهد ماساجوستس للتكنولوجيا، ومؤلفة كتاب «أنواع المواطنة»، إن الاعتذارات زادت مع نهاية القرن العشرين لأكثر من سبب:

أولا، زاد عدد الدول الديمقراطية، وتعمقت الديمقراطية في الدول التي كانت فيها.

ثانيا: كشفت وثائق أخطاء في حروب مثل أخطاء الحرب العالمية الثانية.

ثالثا: سقط الاتحاد السوفياتي، وفتحت ملفات أجهزة الأمن القومي في دول كثيرة.

رابعا: زادت موجة الشفافية وسط الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات الدينية.

وحسبت نوبلز، فإن أهم ستين اعتذارا تمت خلال الخمسين سنة الماضية، ووجدت أن أكثر من نصفها جاء على لسان ملوك ورؤساء، وجاء ربعها من حكومات. وقالت إن النوع الأول من دون التزام، والهدف منه ترضية سياسية، لكن النوع الثاني يأتي بعد مناقشات، وهو أقوى، ويشمل تعويضات مالية.

وفي التاريخ الحديث للعرب، تحمل الرئيس المصري جمال عبد الناصر المسؤولية يوم تنحى عن رئاسة الجمهورية بعد هزيمة حرب 1967.. لكنه لم يعتذر، ثم عاد إلى الحكم.. يوم تنحيه، قال: «أقول لكم بصدق؛ إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها. لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر».. تحمل المسؤولية، لكنه لم يعتذر، وبالتالي، لم يندم، ولم يتب، لأنه، إذا كان فعل ذلك، ما كان سيعود إلى الحكم.

في اليوم التالي لاستقالته، وبسبب مظاهرات ضخمة في مصر وخارج مصر، أرسل خطابا إلى مجلس الشعب قال فيه: «أنا مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري، وفى الوقت نفسه، فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد».

وبصورة عامة، يبدو أن الاعتذارات؛ مباشرة أو غير مباشرة، قليلة جدا وسط السياسيين العرب.