أبو شاقور.. عالم الفيزياء أمام امتحان السياسة

رئيس الحكومة الجديد انتخب يوم مقتل السفير الأميركي في بنغازي.. لكنه متفائل بالمستقبل

TT

ليس من السهل على مثل هذا الرجل ذي اللحية البيضاء الخفيفة أن يستسلم أو يتراجع. لكنه في الوقت نفسه لا يبدو عليه الميل للإقدام غير المحسوب. مصطفى أبو شاقور الذي أصبح أول رئيس حكومة منتخب في ليبيا، بعد عقود من حكم الفرد والديكتاتورية، جاء من جبل غريان حيث أرض الزيتون وسهول الأعشاب البرية، إلى العاصمة القريبة من مسقط رأسه.

لكن هذه المسافة التي لا يتعدى طولها ثمانين كيلومترا، سبقتها سنوات طويلة من السفر بين مطارات العالم، ومن المطاردات التي كان يمكن أن تنتهي به إلى حبل المشنقة وليس مقعد رئيس الوزراء. والآن يمكن أن ترى أبو شاقور يقف ببدلته الرمادية ونظارته الطبية وسط جموع من الليبيين في الشارع أو السوق للاستماع إلى مشاكل الناس، دون حراسة. هذا أمر نادر الحدوث في بلد خرج توا من حكم الزعيم الأوحد ذي الألقاب المتعددة من قبيل ملك الملوك وعميد القادة. قال أحد المواطنين غاضبا من هجوم لمسلحين: «نريد الانتقام، والرد فورا، لا يمكن أن ننتظر». ورد أبو شاقور: «كل شيء بالقانون.. القانون إجراءاته طويلة لكن إذا كنا نريد أن نبني دولة فلا بد أن نحتكم جميعا للقانون، وننتظر كلمة العدالة».

ينتمي أبو شاقور لجيل حالم فتح عينيه على التنافس المحموم على دول منطقة الشرق الأوسط بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي، وعلى سيرة الانقلابات العسكرية في مصر وليبيا، وعلى صخب الخطب القومية والوحدة العربية وتحرير القدس وإلقاء إسرائيل في البحر. رجل عاش أحلاما مع رفاقه، لكنه حين أدرك أن الكلام والزعامات والطنطنة الفارغة لا تحقق التقدم، بدأ رحلة البحث عن الخلاص، بعد أن أصبح مطاردا مثله مثل ألوف الليبيين الذي فروا من بلادهم منذ تولي العقيد الراحل الحكم عام 1969 حتى نهايته أواخر العام الماضي.

من سوء حظ أبو شاقور أن يوم انتخابه لرئاسة الحكومة شهد تفجير القنصلية الأميركية في بنغازي الأسبوع الماضي، مما أدى إلى مقتل السفير الأميركي وثلاثة من رفاقه، ضمن احتجاجات على الفيلم المسيء للإسلام. ويقف أبو شاقور اليوم على خشبة مسرح الحكم وأمامه جمهور متعطش لمعرفة ما سيقوله وما سيفعله، في العديد من القضايا، منها السلاح المنتشر في البلاد ومصير الكتائب المسلحة، ومستقبل حماية الحدود مع الدول المجاورة، وموضوع المصالحة الداخلية، وكيفية استعادة مليارات الدولارات المبعثرة في الخارج، إضافة إلى إعادة الإعمار وتوفير الخدمات التعليمية والصحية للمواطنين الطامحين في تذوق الاستقرار ورغد العيش سريعا.

وتعرف الرأي العام الليبي على أبو شاقور على نطاق واسع حين كان يظهر كمحلل سياسي على بعض الفضائيات أيام الاقتتال بين الثوار وقوات القذافي، على الرغم من أنه كان مشاركا على الأرض في الثورة، حيث شارك في فعاليات في بنغازي أثناء معمعة القتال في مايو (أيار) 2011، فور عودته من الخارج للمرة الأولى، بعد نحو ثلاثة عقود من الغربة. وقدمت حرب الليبيين ضد القذافي، منذ اندلاعها في 17 فبراير (شباط) 2011، عشرات الألوف من الشهداء والمصابين. لكن هل يمكن لأبو شاقور أن يحقق الأحلام التي قامت من أجلها ثورة فبراير؟ الليبيون بطبيعتهم يستعجلون.

والناس في الشارع تختلف رؤاهم عن المسؤولين الجالسين في المكاتب. في مشهد مر عابرا جاء أبو شاقور، ماشيا على قدميه، حين كان نائبا لرئيس الحكومة السابق عبد الرحيم الكيب، ودخل منطقة سوق الجمعة لحل مشاكل لحشود من الرجال الغاضبين، وبدأ معهم مناقشات مفتوحة في الشارع، بطريقة نادرة تجري بين مسؤول وعامة الناس، وما يحدث في مثل هذه المقابلات العفوية من صخب ومن تجرد من الألقاب والصفات والفواصل.

ولد مصطفى أبو شاقور عام 1951، لكنه سريعا ما انتقل إلى طرابلس وهو في المرحلة الابتدائية، في منطقة سوق الجمعة نفسها. وهو يجد ما يقوله لهذه المنطقة التي تعد من المناطق الحيوية والمهمة في العاصمة.. فقد كان له أصدقاء هنا، وكان له أيضا جيران، وزملاء فروا معه بعيدا في بلاد العالم هربا من بطش القذافي. وحين أقام في الخارج أقام في الولايات المتحدة التي كان يفد إليها كثير من الطلاب الليبيين لمواصلة دراساتهم العليا، وأصبح عدد منهم من قيادات وكوادر المعارضة هناك، وشارك الرجل في ذلك الوقت في تأسيس «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا»، ووضعه النظام على قائمة المطلوبين، فزاد عمله مع المعارضة بالخارج بطرق مختلفة من أجل إنهاء حكم القذافي، وهو هدف لم يكن من المتصور تحقيقه.

جمع أبو شاقور خبرات ثقافية وسياسية ولغوية مختلفة، وتعرف على شخصيات من الغرب والشرق. وعمل على فترات متفرقة في عدد من الجامعات الأميركية والعربية وأسس لمنهج دراسي نادر يخص «الهندسة البصرية»، وله أبحاث في «بصريات النانو»، و«حوسبة البصريات»، وغيرها، إضافة إلى إسهامه في عدد من الشركات الحديثة والمتخصصة، سواء بالعمل أو بالتأسيس.

والآن حيث يقف بين الليبيين، يتحدث بلغته القديمة الدارجة ليؤكد أنه ينتمي إلى شوارع طرابلس وأزقتها. وربما كانت مثل هذه الجولات الصغيرة التي جرت مع حشود من المواطنين في الطريق العام وفي مناطق مختلفة، من أسباب ميل كثير من أعضاء المؤتمر الوطني الليبي للتصويت لصالح أبو شاقور في الجولة الثانية والحاسمة، ضد الليبرالي محمود جبريل بفارق صوتين (96 صوتا لأبو شاقور، و94 صوتا لجبريل).. وخلافا لما قد يعتقده البعض، لم يكن أبو شاقور مرشح التيار الإسلامي بالأساس، لأن التيار الإسلامي كان له مرشح آخر هو عوض البرعصي.

ونفى الرجل أن يكون محسوبا على جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا.. وهناك أيضا تفاصيل أخرى بعضها واقعي وبعضها الآخر عاطفي، تسببت في ترجيح كفة أبو شاقور على جبريل، منها على سبيل المثال ابتعاد الأول تماما عن التعامل مع نظام القذافي من قبل، بل كان يعارضه وبقوة، وكان النظام يلاحقه في أوروبا وأميركا. كما كان النظام يسعى لقتله في الخارج أو الداخل. أما جبريل فقد عمل ضمن نظام القذافي في سنواته الأخيرة، حتى لو كان هذا العمل ينحصر في محاولة إصلاح الأوضاع القائمة حينذاك خاصة مع سيف الإسلام، نجل القذافي.

«أبو شاقور رجل متدين، ومحسوب فكريا على التيار الإسلامي، لكنه من الناحية السياسية ليس مرشح التيار الإسلامي». هذه وجهة نظر يتناقلها بعض المراقبين وبعض من أعضاء المؤتمر الوطني الليبي في تعليقهم على نتيجة الانتخابات، وعلى الملابسات التي أدت لفوز الرجل بمقعد رئيس الحكومة بدلا من جبريل الذي كانت المؤشرات تقول إنه ربما يكون هو الفائز.

ومن النقاط التي خدمت شخصية أبو شاقور أيضا عدم خوضه تجربة العمل كرئيس للسلطة التنفيذية من قبل مثل محمود جبريل الذي شغل موقع رئيس المكتب التنفيذي في ظروف عصيبة عقب اندلاع الثورة الليبية. وعدد كبير من أعضاء المؤتمر الوطني تعاملوا مع جبريل، في اللحظات الأخيرة لحسم التصويت، على أساس فترة عمله في المكتب التنفيذي.. وفي فترة عمله في النظام السابق.

يبدو أن الليبيين يريدون البدء على صفحة بيضاء. وحتى لو كان هناك رجال مشهود لهم بالكفاءة، فلا يمكن الاستعانة بهم في مواقع المسؤولية في الوقت الحالي إذا كانوا قد عملوا في السابق مع النظام البائد. هذا على الأقل هو المزاج العام الذي خدم ابن غريان المتعلم في مدارس طرابلس وكاليفورنيا الأميركية. وربما لهذا السبب جاء انتخاب أبو شاقور بعد فترة وجيزة من انتخاب محمد المقريف لرئاسة المؤتمر الوطني، الذي يعتبره البعض بمثابة «رئيس البلاد المؤقت». ومن النقاط الأخرى التي أعطت الأفضلية لأبو شاقور، خبرته السابقة «المضغوطة» من خلال عمله في الشهور الماضية نائبا للكيب، رئيس الحكومة السابق. ومن قبلها مستشارا للمجلس الانتقالي الذي تم إنشاؤه مع اندلاع ثورة 17 فبراير. يدرك أبو شاقور أن مهمته كرئيس للحكومة الجديدة التي كان يفكر في افتتاحها بقضايا الأمن والاقتصاد والجرحى، أصابها الارتباك بعد حادث القنصلية.

واتفقت واشنطن وطرابلس على التعاون في التحقيق، وتوجهت مدمرتان ناحية الساحل الليبي، وقالت واشنطن إنهما ستوفران سهولة في الحركة مستقبلا، لكن مسألة وجود عسكريين أميركيين على الأرض الليبية، ربما إذا حدث، سيتسبب في بعض المشاكل لأبو شاقور، قبل حتى أن ينتهي من طمأنة الداخل والخارج بشأن الهواجس من استمرار انتشار السلاح والمسلحين من الثوار الليبيين.

على مكتب أبو شاقور العديد من الملفات المتخمة التي أعدها عدد من وزراء الحكومة السابقة، وأشرف على جانب منها حين كان نائبا للكيب، وكان الرجل يستعد لتسليمها لرئيس الحكومة القادمة. لم يكن يعلم علم اليقين أن كل هذه الملفات ستظل أمامه مجددا لكي ينفذ هو والفريق الذي سيختاره مقترحات بناء الدولة الجديدة. ليبيا تحتاج لحكومة توفر الأمن وتوفر احتياجات الناس.

حين يتحدث أبو شاقور، الذي يحمل الجنسية الأميركية، تجد أنه لا يندفع في الكلام بشكل سريع كما يفعل بعض المسؤولين، ولكنه يتكلم وينتظر ويفكر، في وقت واحد.. ربما هذا يرجع إلى البيئة الجبلية التي تعود إليها جذوره الأولى، وربما يرجع أيضا إلى إقامته في بلاد الغرب لمدة تزيد على ثلاثين سنة، وربما أيضا يرجع السبب إلى نوع علوم الفيزياء التي تخصص فيها، إلى درجة أن البعض يشبهه بالمصري الحاصل على جائزة نوبل أحمد زويل، المتخصص في النانو تكنولوجي.

ويوصف أبو شاقور من جانب بعض الليبيين أيضا بالعالم المتدين.. ويراهن عليه كثير ممن أعطوه أصواتهم لكي يعبر بالبلاد من الوضع الانتقالي والمؤقت، إلى الوضع الدائم، بانتخاب رئيس للبلاد مستقبلا. ويرى أبو شاقور أن الحكومة المؤقتة السابقة التي جاءت بعد الثورة، لم تجد مؤسسات أو جيشا نظاميا بالمعنى المعروف، وإنما كتائب، ولم تكن الشرطة موجودة، ولم تكن عمليات الإنفاق المالي وخدمة الشعب هي ما يشغل الحاكم السابق (القذافي) ولكن كان ما يشغله هو البقاء في الحكم، ولذلك لا بد من تغيير هذه الطريقة في تعامل الأجهزة الأمنية في المرحلة الجديدة. خدمة الشعب لا الحاكم.

وتوجد تحت أيدي حكومة أبو شاقور أموال تتجاوز قيمتها 100 مليار دولار (كانت مجمدة بقرار الأمم المتحدة أثناء الحرب ضد القذافي) يمكن أن يتجاوز بها سريعا المشاكل التي تعاني منها البلاد، بما في ذلك إلحاق الثوار في الجيش ومنح قادتهم رتبا في القوات المسلحة، وفتح مشروعات جديدة واستكمال آلاف المشروعات التي كانت متوقفة، وبحث ملفات الفساد التي تعود للحقبة السابقة، والبدء في البحث عن مليارات الدولارات الأخرى التي يشتبه في أن مسؤولين سابقين أخفوها في أماكن متفرقة حول العالم.

يقف أمام أبو شاقور الكثير من التحديات الجدية، على رأسها إنجاز مهمة تجميع السلاح، خاصة أن بعض المناطق وبعض الكتائب ما زالت تصر على الاحتفاظ بما لديها من عتاد عسكري منذ الحرب ضد قوات القذافي.. على سبيل المثال ما زالت غالبية القوات الموجودة في المشرق الليبي والتي تحرس الحدود مع مصر، لم تنضم إلى الجيش الموحد..

كما أن مدينة بنغازي نفسها التي انطلقت منها شرارة الثورة ووقعت فيها أيضا حادثة القنصلية الأميركية تعاني من وضع أمني غير مستقر ومن التهميش.. ويسري شعور عام في المنطقة الشرقية بأنها في ذيل الاهتمامات.

ويقول أحد المقربين من أبو شاقور إنه لهذا السبب سيبدأ مهام عمله بزيارة المدينة حتى يبرهن على أن الاهتمام لن يقتصر على طرابلس والمناطق الغربية من البلاد، ويأتي هذا بعد أن أرسل قياديون رسائل عبر وسائل الإعلام تقول إنه «إذا لم تهنأ المنطقة الشرقية، وإذا لم تهنأ بنغازي، فلن تهنأ ليبيا كلها». المهمة الأخرى التي تواجه أبو شاقور مشكلة القبلية والجهوية، وهذا كان أمرا غير طيب في الحكومة السابقة.. وكانت تقع خلافات بين بعض الوزراء ووكلائهم، وبين بعض الوزراء ورئيس الحكومة السابق نفسه، بشأن إجراء تغييرات في مواقع بعض المسؤولين أو تبديل وزير بآخر.

لم يكن من اليسير «الاقتراب» من هذا الملف، لأن الوزير لم يكن يعبر عن تيارات سياسية جاء بناء على ثقلها في الشارع أو كتلتها التصويتية، ولكنه جاء بناء على اختيار قبلي أو جهوي، وبالتالي إقالته كانت تعتبر إهانة للقبيلة أو المنطقة التي ينتمي إليها. أحيانا كانت بعض الأطراف تحاصر مبنى وزاريا بالأسلحة والمسلحين احتجاجا على قرار بإقالة مسؤول لم يؤد عمله بشكل جيد. ماذا سيفعل أبو شاقور إذا تكررت مثل هذه الأمور؟ إنه أمر يتعلق بالتحديات الكبيرة التي لا يمكن تجاهلها.

وتوجد تطمينات في هذا الملف عبر عنها عدد من أعضاء المؤتمر الوطني وهو أن بناء الدولة الجديدة يتطلب توافقا وطنيا. بل إن أبو شاقور نفسه أعرب عن تفاؤله بأن ليبيا، وخلال فترة وجيزة ستتخطى العقبات التي تعترض طريقها، وستبهر العالم بما ستنجزه في وقت قياسي. ويعود أبو شاقور ويوزع ابتسامته على من حوله ويقول: أنا متفائل بالمستقبل.