حلب... الحرية ثمنها التاريخ

النظام يربط مصيره بها لأهميتها التاريخية.. وطرفا النزاع تخليا عن حماية آثارها

TT

منذ انطلاقة الثورة في سوريا، كان معظم السوريين يتساءلون: أين حلب.. لماذا لا تثور؟ لماذا تخلى أهلها أكثر عن المطالبة بالحرية والانعتاق، والديمقراطية؟ وعندما ثارت بكوا كثيرا.. فالحرب فيها دمرت كل شيء.. حتى تاريخها الضارب في القدم.

ومنذ أكثر من شهرين، يعمل النظام آلته العسكرية، من قصف بالطيران، والمدفعية الثقيلة غير آبه بمبانيها العتيقة، مستهدفا أسواق المدينة بطلقات حارقة دمرت ما يزيد على 1500 محل تجاري أثري، لا تقل قيمة المحل الواحد عن مليوني دولار أميركي، رغم أن القيمة التاريخية لا تقدر بثمن. ولم تكتف الحرائق والدمار بالأسواق فحسب، بل قضت على معظم أحياء المدينة التاريخية، التي بات من الصعب إعادة ترميم عدد كبير منها، كما يؤكد ناشطون وخبراء.

وتشكل حلب، ثاني مدن سوريا إداريا وأولها اقتصاديا، علامة فارقة في الحرب الدائرة في سوريا بين نظامها وثوارها. لكن هذه العلامة هي من جانب واحد، هو جانب النظام الذي سيفقد بخسارتها الكثير، بينما هي بالنسبة إلى الثوار «ضربة قاتلة» يسددونها للنظام إن فازوا بها، ومجرد مدينة إن هم خسروها لصالح قوة عسكرية كبيرة، يضغط عليهم بها النظام منذ أكثر من شهرين من دون فائدة ترجى.

غير أن أخطر ما في هذه المعركة، هو أن طرفيها تخليا - مضطرين - عن حماية تاريخ هذه المدينة العريقة الممتدة في قدمها إلى عصور سحيقة، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا شيء يسمو في نظر الثوار عن الحرية، ولا في نظر النظام عن السلطة التي يمثلها بالنسبة إليه تمسكه بحاضرتي سوريا، حلب ودمشق. وحلب تدفع اليوم ثمن القتال فيها من اقتصادها وتاريخها. ومع هذا، فثمة من يقول إن حلب استبيحت مرات كثيرة في التاريخ، ثم ما لبثت أن نهضت من تحت ركامها لتعود أقوى مما كانت وأكثر ازدهارا.

ويرى الثوار أن سيطرتهم على حلب ستصيب عصفورين بحجر واحد، إذ إنها ستفتح المجال أمام إنشاء عاصمة للثورة تشبه إلى حد ما «بنغازي» في التجربة الليبية، كما ستفقد النظام إحدى الحاضرتين السنيتين الكبيرتين. فحلب شكلت مع دمشق «الدعامة السنية» لحكم آل الأسد، وخضوعهما له يعطيه «الشرعية» التي يبحث عنها، وسط تخلي الشارع السني الكبير عنه.

وتتأتى أهمية حلب بالنسبة إلى الثوار، من كونها تتميز بموقع استراتيجي مهم. فهي قريبة من الحدود التركية حيث خطوط الإمداد المفترضة، وهي تربط بين ثلاث مناطق حيوية، هي منطقة الجزيرة وعاصمتها دير الزور، والمنطقة الشرقية الكردية التي يسيطر عليها المجلس الوطني الكردي، والمنطقة الوسطى الممتدة من إدلب إلى حماه وحمص، فإذا سقطت حلب في يد الثوار بات النظام محشورا بين الساحل السوري ودمشق.

ويشن النظام السوري حاليا حملة غير مسبوقة سعيا لاسترجاعها بعد أكثر من شهرين من خروج أجزاء مهمة منها عن سيطرته. ولعل أبرز دلالة على أهميتها بالنسبة إليه، هو قيامه بإخلاء مناطق استراتيجية مهمة جدا في جبل الزاوية وإدلب من قواته لنقلها إلى حلب، التي بات يوجد فيها أيضا الحرس الجمهوري ووحدات النخبة.

ويجزم أبو ياسين، أحد قادة كتائب «الجيش الحر» في حلب، بأن «(الجيش الحر) لا يزال يسيطر على أكثر من 70% من أحياء المدينة، بالإضافة إلى قدرته على اختراق الأحياء التي لا يزال يسيطر عليها النظام نظريا، وهذا ما بينته التفجيرات التي ضربت عمق ساحة سعد الله الجابري التي كان قد حولها النظام لثكنة عسكرية حقيقية»، متحدثا في الوقت عينه عن كم هائل من الدمار في معظم الأحياء، مقدرا أن يكون 15% من مدينة حلب مدمرا بالكامل.

ويعدد أبو ياسين لـ«الشرق الأوسط» الأحياء التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة، فيقول: «إلى جانب سيطرتنا مؤخرا على الأحياء القديمة والتاريخية، نسيطر على الأحياء الواقعة أقصى غرب المدينة، وهي أحياء صلاح الدين وسيف الدولة والإذاعة، مرورا بالسكري وبستان القصر والفردوس، وانتهاء بالصاخور والشعار وطريق الباب». ويلفت أبو ياسين إلى أن «عناصر (الجيش الحر) تمكنوا في اليومين الماضيين من السيطرة على أحياء تل الزرازير وسليمان الحلبي والعرقوب والشيخ مقصود».

بالمقابل، يشير القيادي الميداني إلى أن «النظام لا يسيطر إلا على 8 أحياء فقط من مدينة حلب، وهي: الجميلية والسليمانية والعزيزية وحلب الجديدة والفرقان وشارع النيل والحمدانية، وسط غياب تام عن الريف الحلبي الذي بات أقرب إلى منطقة عازلة يسيطر عليها الثوار».

وأرجع رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة، العميد الركن المتقاعد هشام جابر، طول أمد المعارك في حلب إلى اكتظاظ أحيائها بالسكان، علما بأن عدد القاطنين فيها يفوق الـ3 ملايين نسمة، نزح منهم مليون شخص، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «النظام كان قد أعلن عند اندلاع المعارك في حلب أنه سيستعيد السيطرة على المدينة خلال أسبوعين، لكنه أيقن أنه غير قادر على ذلك إلا إذا استخدم كل الأسلحة التي يملكها عشوائيا، مما قد يؤدي إلى مقتل ما يزيد على 50 ألف شخص».

ولفت جابر إلى أنه ليس من مصلحة النظام في سوريا أن يستلم حلب مدمرة بالكامل أو أرضا محروقة باعتبارها العاصمة الاقتصادية والثقافية لسوريا، فلذلك يسعى للسيطرة على حي بعد الآخر، علما بأن قوات المعارضة تنتهج سياسة الكر والفر وهو التكتيك المثالي لحرب العصابات. وأضاف: «أما الأهمية الاستراتيجية لحلب، فتكمن في كونها مفترق طرق لكل الشمال السوري؛ فهي أولا الطريق لتركيا كما للعراق، والأهم أنها الطريق للساحل السوري المعروف ببلاد العلويين»، مشيرا إلى أن لا إمكانية على الإطلاق لأن يرضخ النظام ليسلم قوات المعارضة المنطقة كاملة.

وتوقع جابر أن تطول معارك حلب، باعتبار أن طرفي الصراع لن يستسلما بسهولة، وسيستخدمان كل الأوراق التي بحوزتهما سعيا لفرض سيطرتهم النهائية، وأضاف: «لا يمكن القول حاليا إن الريف الحلبي أصبح بيد المعارضة، لأن النظام قادر على قصفه في أي لحظة، ولكن في المقابل يمكن الجزم بأن الثوار يمسكون بالحدود السورية - التركية بالكامل».

تأخرت حلب كثيرا في الانضمام إلى الثورة، فقد لعبت عدة عوامل دورها في هذا الأمر؛ أولها: التحالف الذي أرساه النظام مع طبقة التجار والسلطة الدينية فيها منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان أول من أدرك أهمية حلب الاستراتيجية. وحلب لم تكن يوما بهذه الوداعة، فقد شهدت تدبير أول انقلابين في تاريخ سوريا الحديثة، انقلاب العقيد حسني الزعيم في أبريل (نيسان) 1949. وانقلاب العقيد سامي الحناوي بعده بأربعة أشهر. ولذلك، عندما استولى الأسد على السلطة في ما سمي آنذاك «الثورة التصحيحية» عام 1970، عمل على كسب ولاء تجار حلب، والسلطة الدينية السنية في المدينة.

في بداية الثورة، خرجت أول مظاهرة في «جمعة العزة» بتاريخ 25 مارس (آذار) 2011، لكن الانتفاضة الحقيقية كانت في 30 يونيو (حزيران) 2011 عندما خرجت المظاهرات في أكثر من عشر مناطق في المدينة، وحصلت محاولات للاعتصام في ساحة سعد الله الجابري التي شهدت التفجيرات الأخيرة.

وفي 12 أغسطس (آب) 2011، خرجت مظاهرات ضخمة في المدينة، هي الأولى من نوعها، تحت شعار «جمعة لن نركع إلا لله»، غير أن الأمن أطلق النار على المتظاهرين فسقط 3 قتلى. وفي 6 سبتمبر (أيلول)، خرجت مظاهرة كبيرة ضد النظام من الجامع الأموي في تشييع مفتي حلب إبراهيم السلقيني، الذي يقول المعارضون إن المخابرات السورية قتلته، بسبب موقفه المؤيد للثورة.

ومنذ بداية عام 2012، أصبحت المظاهرات ضد النظام شبه يومية في حلب، خصوصا في أحياء صلاح الدين والسكري وبستان القصر والجامعة. وفي 20 يوليو (تموز) 2012، هاجم نحو 16 ألف مقاتل من «الجيش الحر» المدينة من كل الجهات وسيطروا على أحياء عدة منها.

وتعتبر حلب من أقدم المدن على وجه الأرض، فقد تجاوز عمرها المعروف الـ10 آلاف سنة، وقد أدرجتها منظمة اليونيسكو على لائحة مواقع التراث العالمي. وتدل الدراسات على أن مدينة حلب مأهولة منذ عام 5000 قبل الميلاد. وفي عام 3000، كانت حلب مملكة مستقلة، وكان الأكاديون يسمونها مدينة آرمان. وقد نالت حلب اسمها أيام الحضارة البابلية، حيث سميت حلبا وكانت حينها عاصمة لسلالة العموريين، وقد تم تدميرها على يد الحثيين في القرن الـ16 قبل الميلاد، إلا أنها استعادت ازدهارها بعدما خف النفوذ الحثي في المنطقة. ولاحقا، أصبحت حلب جزءا من إحدى الممالك الآرامية، وعاصمة لها. وفي نهايات القرن 9 قبل الميلاد، أصبحت حلب قسما من الإمبراطورية الآشورية الثانية، قبل أن تسقط في يد المملكة البابلية الثانية، والإمبراطورية الأخمينيية الفارسية.

استولى الإسكندر المقدوني على المدينة عام 333 قبل الميلاد، وقد استمرت تحت حكم السلوقيين مدة 300 عام لتصبح جزءا من مقاطعة سوريا الرومانية لثلاثة قرون أخرى. ثم فتح المسلمون بقيادة خالد بن الوليد حلب عام 637 ميلادية، لتشكل جزءا من الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، وفي عام 944 غدت عاصمة الدولة الحمدانية تحت حكم سيف الدولة الحمداني. وتمت محاصرة حلب مرتين أثناء الحروب الصليبية عامي 1098 و1124، إلا أن الجيوش الصليبية لم تتمكن من احتلالها.

في عام 1138، تعرضت حلب لزلزال مدمر، صنفته هيئة المسح الجيولوجي الأميركية كرابع أخطر زلزال في التاريخ. وقد بلغ عدد الضحايا الذين سقطوا 230 ألف قتيل، وقدرت شدة الزلزال بـ8.5 على مقياس ريختر.

تم احتلال المدينة من قبل المغول تحت قيادة هولاكو، بالتعاون مع حاكم أنطاكية بوهيموند السادس عام 1260، لكن المماليك استعادوها في العام نفسه. وفي عام 1271، هاجم المغول مرة أخرى حلب، ونجحوا في احتلالها، لكن الظاهر بيبرس تمكن من إجبار المغول عن الجلاء عن حلب ليستولي المغول مجددا على المدينة في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1280، ليقوم القائد المملوكي سيف الدين قلاوون باستعادتها.

وفي عام 1400، اجتاح القائد المنغولي تيمورلنك المدينة، ورغم تراجعه عنها لاحقا، فإن المدينة كانت تعرضت لمذبحة بشعة ذهب ضحيتها نحو 20 ألفا من سكانها، شكل تيمورلنك من جماجمهم هرما كبيرا.

في العهد العثماني، كانت حلب جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وكانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية. وبعد انهيار الإمبراطورية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حددت معاهدة سيفر مقاطعة حلب كجزء من سوريا، بينما تم وعد الأرمن بتحقيق استقلال هضبة أرمينيا من قبل فرنسا في المعاهدة الفرنسية - الأرمنية المبرمة عام 1916. لكن مصطفى كمال أتاتورك رفض هذه المعاهدة واستمر في ضم حلب والأناضول وأرمينيا إلى تركيا وخاض حروبا لاستقلال التراب التركي، واستطاع عبر معاهدة لوزان انتزاع معظم مقاطعة حلب باستثناء حلب نفسها ولواء الأسكندرونة، وهكذا تم سلخ حلب عن الأناضول ومدنه التي كانت تضمها علاقات تجارية مكثفة. ثم أتت معاهدة سايكس - بيكو التي سلخت لواء الأسكندرونة، حارمة حلب من مينائها الرئيسي.

وبعد إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو في سبتمبر عام 1920 الانتداب الفرنسي على سوريا، أقام غورو ولاية حلب لتعزيز التنافس التجاري بين كل من حلب ودمشق، فقام بدعم الامتيازات الاقتصادية في حلب ليزعج الدمشقيين وأعلن دمشق عاصمة ليستفز الحلبيين، ليتم في النهاية تشكيل سوريا من الولايات الثلاث، حلب ودمشق واللاذقية، وقد تم تحديد حلب كعاصمة بداية، ثم ما لبثت أن أعيدت إلى دمشق.

* آثار حلب تحت وطأة الحرب

* تحتضن المدينة بعضا من أهم الشواهد المعمارية التاريخية، العائدة إلى حضارات كثيرة، بدءا من عصور ما قبل الميلاد إلى العصور الإسلامية. ففي حلب نحو 150 معلما أثريا من «الطراز الأول»، مما يجعلها من أكثر مدن العالم احتواء على الشواهد التاريخية.

وفي عام 1986، أدرجت «اليونيسكو» مدينة حلب على لائحة مواقع التراث العالمي، ووضعت إشارات على صحائفها العقارية تثبيتا لعدم جواز هدمها أو تغيير معالمها أو مواصفاتها حتى من قبل بلديتها إلا بعد أخذ موافقة الجهات الأثرية العالمية وسجلت على لائحة التراث العالمي.

ومن أبرز هذه الشواهد، قلعة حلب التي تعد أضخم وأقدم قلعة في المنطقة، إذ يعود تاريخها إلى نحو 1000 سنة قبل الميلاد.

وتحتضن مدينة حلب مجموعة من الأسواق الأثرية، تتجمع في أكبر سوق مسقوف في العالم بطول نحو 16 كيلومترا، وهي السوق التي تعرضت للحريق إثر الاشتباكات التي حصلت فيها الأسبوع الماضي. كما تحتوي حلب على أثر إسلامي كبير هو الجامع الأموي الكبير الذي بني في عام 715 ميلادية، ويتميز باحتوائه على 4 واجهات مختلفة في الشكل والتصميم، كما تحتوي على أثر مسيحي مهم هو كنيسة الشيباني التي بنيت في القرن الـ12.

الحرب الدائرة في حلب أصابت «باب أنطاكية» في أسواق حلب، وكذلك «باب القناة»، ومآذن جوامع حلب العتيقة التي دمرت مثل مئذنة جامع «الأطروش»، وجامع «الحاج سليمان»، وجامع «الميداني»، كذلك أصيب البرج الأول الأمامي لقلعة حلب جراء القصف، وأيضا «باب القلعة»، كما أن الكتابة التي تعلو باب البرج الأول من قلعة حلب تعرضت للتشويه.

ومن ضمن المواقع التي تعرضت للتخريب جراء القصف المدرسة الكلتاوية، وكذلك الجامع الأموي الذي تعرض للقصف كما ذكرت مصادر، لكن لا صور له إلى الآن، كذلك دمرت مئذنة جامع المهمندار التاريخي.