هانيبال وصناعة الأسطورة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف انتهت الحرب البونية الأولى بهزيمة قرطاج في تونس، وكيف تسيدت روما بشكل ملحوظ غرب المتوسط، وهو ما أدى لحالة من الحنق الشديد خاصة لدى القيادة العسكرية لقرطاج، ولم تستثن الكراهية صغار السن أيضا فكان من بينهم الضابط الشاب هانيبال وهو ابن هاميلكار بركه القائد العظيم الذي استطاع أن يقف أمام روما لبعض الوقت فكافأته قرطاج بتعيينه قائدا عاما لقواتها في شبه الجزيرة الأيبيرية (منطقة إسبانيا والبرتغال اليوم) للإشراف على مستعمراتها، وقد تعلم هذا الشاب من والده فنون القتال ومهارات التكتيك العسكري السليم، وعندما سنحت له الفرصة أصبح هذا الشاب أسطورة عسكرية تُدرس أساليبه إلى يومنا هذا.

ونظرا للقيمة العسكرية والسياسية لإنجازات هاميلكار، فقد قررت قرطاج بعد موته إسناد منصبه لابنه وعندما وافته المنية آلت قيادة الجيش في هذه المستعمرات إلى ابنه الثاني الشاب هانيبال عام 221 ق.م، ومنذ اليوم الأول ركز القائد الشاب جهوده على تنظيم وتثبيت حكم قرطاج في هذه المناطق، ولكن سرعان ما دب الخلاف بينه وبين روما على مدينة «سيجنتم»، وعندما قدمت روما دعمها للمدينة مناقضة بذلك الاتفاقية الموقعة بين الطرفين، فرض هانيبال حصاره عليها وأسقطها بعد مباركة القيادة السياسية في قرطاج لخطواته وهو ما أدى لنشوب الحرب البونية الثانية في عام 218 ق.م، وهي الفرصة التي كان هانيبال ينتظرها بفارغ الصبر، وها قد منحها التاريخ له ليغير بها مجرى الفكر العسكري في نواح كثيرة.

قرر هانيبال أن يغير شكل اللعبة العسكرية مع روما من خلال عنصرين أساسيين، الأول هو نقل الحرب إلى عقر دار الإمبراطورية الرومانية ذاتها، والثاني من خلال استخدام تكتيكات عسكرية مستحدثة لهزيمة كل جيش روماني واجهه، وفي هذا الإطار فقد قرر هانيبال أن يعبر جبال الألب بجيش يقارب المائة ألف جندي ومعه عشرات الأفيال التي تستخدم في ضرب فيالق المشاة لدى العدو، وقد كانت هذه فكرة قاسية للغاية لم ترق لكثير من جنوده، ولكنه أقنعهم بها لأنها الوسيلة الوحيدة التي تسمح له بمفاجأة العدو خاصة أن الطرق البحرية غير مؤمنة نظرا للتسيد البحري الروماني، وهو ما جعله يعبر مئات الأميال في أرض وعرة وظروف مناخية قاسية، ولكن هذا كان ثمن التفوق الفكري على القائد الروماني «سكيبيو الأكبر»، والذي اضطر لسحب قواته إلى شبه الجزيرة الإيطالية استعدادا لملاقاة هانيبال في إيطاليا بعد أن عبر الجبال ونزل بجيشه بعد خسارة في العدد والعتاد لم تكن بقليلة.

يروي المؤرخ العسكري «ليدل هارت» والذي يعتبره الكثيرون مؤسس علم الاستراتيجية الحديث بعد فون كلوزويتز، أن أعظم ما فعله هذا الرجل هو اتباع ما يوصف في الاستراتيجية بالأسلوب غير المباشر Indirect Approach، فلجأ لاستخدام الطرق الوعرة لتحريك جيوشه والظهور في المواقع التي لا يتوقعها الرومان، فاختلف بذلك عن سابقيه بأنه اختار الزمان والمكان المناسبين له في مسرح العمليات ولم يحاربهم بالطرق التقليدية، وهذه كانت أولى عبقرياته التكتيكية، أما الثانية فكانت قدراته الدبلوماسية الماهرة والتي مكنته طوال الطريق من اكتساب الحلفاء من القبائل التي لم تكن راضية عن الحكم الروماني خاصة في فرنسا وشمال إيطاليا، فعوض ما خسره من قوات في عملية نقل الجيش من إسبانيا لإيطاليا، وأصبح جاهزا للقضاء على روما في عقر دارها.

استدرج هانيبال «سكيبيو» إلى فخ شهير في معركة «تريبيا» والتي هُزم فيها الجيش الروماني هزيمة مدوية، ولكن قوة روما جعلتها تجمع جيش ثاني بقيادة مشتركة جديدة لمواجهة هذا الخطر الداهم، ولكن هانيبال بدأ يراوغ هذا الجيش الجديد في تحركات عسكرية هدفها سحبه للجبهة المناسبة له، وهو ما استدعى إصراره على عبور الأحراش والمناطق الوعرة للظهور في منطقة غير متوقعة للرومان، فهرول الجيش الروماني خلفه ووقع في فخ استدرجهم فيه هانيبال إلى مجزرة بشرية في بحيرة «ترانسيميني»، حيث انقض عليهم وحاصرهم بتحركات تكتيكية منقطعة النظير وقتل أغلبهم وأغرق الكثيرين في البحيرة، وهكذا أصبح الطريق إلى روما مفتوحا وكان على روما أن تبتكر شيئا جديدا للوقوف أمام هذا القائد الفذ.

إزاء هذا الخطر عين مجلس الشيوخ الروماني «كوينتوس ماكسيموس فابيوس» لقيادة الجيش والذي أصبح الحائل الوحيد أمام هانيبال ونهاية الإمبراطورية الرومانية، وفي هذه الحرب سجل التاريخ مرة أخرى تطبيقا مستحدثا لمفهوم جديد وهو «حرب الاستنزاف Attrition» والتي تُلقب اليوم في العلوم العسكرية «بالتكتيكات الفابينية Fabian Tactics» نسبة لهذا القائد الروماني، فيشير ليدل هارت إلى أن القائد فابيوس أدرك أن دخوله في حرب مباشرة مع هذا القائد الفذ بالروح المعنوية السائدة لدى جنوده سيمثل هزيمة محققة له، فلجأ لسياسة عدم الاشتباك على الإطلاق في معارك واسعة مؤثرا المناوشات والمراوغات المستمرة دون الاشتباك الكامل، وقد كان هدف «فابيوس» هو إرهاق هانيبال وجيوشه بشكل منتظم والسعي لقطع خطوط إمداده، وقد بدأت هذه الخطة تؤتي بثمارها، ولكن السينيت الروماني كان قد ضاق ذرعا بهذه التكتيكات لأسباب متعلقة بكون الحرب كانت تدور داخل الأراضي الرومانية من ثم العجلة للتخلص منها بأسرع ما يمكن، فضلا عن أن هانيبال استطاع أن يفلت من أيدي فابيوس ويهرب بجيوشه بمكر ودهاء شديدين بعد أن أوحى له بالاتجاه لناحية ثم هرب بجيشه من الناحية الأخرى، وهكذا تخلى الرومان مرة أخرى عن عبقرية فابيوس لصالح فقر الفكر العسكري للقائدين «فارو» و«باولوس»، واللذان قررا الدخول في معركة مفتوحة مع قائد يفوقهم ذكاءً ومهارة، فكانت الطامة الكبرى لروما في معركة «كاناي» الشهيرة عام 217، ففي هذه المعركة طبق هانيبال أول تكتيك «لالتفاف المزدوج Double Envelopment» والمعروفة باللغة الدارجة بـ«خطة الكماشة» بشكل كامل.

لقد استغل هانيبال الضعف العددي له من خلال سحب الرومان نحو مهاجمة قلب جيشه واضعا الخيالة في اليسار واليمين، وسرعان ما دفع الرومان بقواتهم صوب القلب والذي بدا ضعيفا عن قصد، فكان من الطبيعي أن يتقهقر القلب بشكل منظم، فتركزت القوات الرومانية في الوسط فبدأ هانيبال يدفع بالاحتياطي لتثبيت قلب جيشه، وسرعان ما بدأ يُغلق على الرومان كماشته العسكرية الرهيبة والتي اكتملت بتطويق الفرسان لهم فأغلق عليهم الكمين فانهار الجيش الروماني وحُصدت أرواحه في أبرع تكتيك عسكري عرفه التاريخ والذي راح ضحيته أغلب الجيش الروماني.

حقيقة الأمر أن هذا التكتيك لم يتكرر بهذا الشكل العبقري إلا بعد ما يقرب من ثمانية قرون ونصف على أيدي قائد آخر لم يدرس هذا التكتيك ولكنه ابتدعه في معركة مشابهة وهي المعروفة في التاريخ الإسلامي بمعركة «نهر الدم» ضد الفرس، لقد كان هذا الرجل هو خالد بن الوليد الذي استطاع أن يقضي بهذا الفكر على عدوه بشكل شبه تام إما بالقتل أو بالأسر، وكان ذلك بتكتيكات مشابهة للغاية دخل فيها الأخير المعركة دون خيل الزحف والذي اختبأ لحين ما تم تطويق الفرس بحركة التفاف مزدوج حول مشاة العدو وفرسانه، ولكن على حين استطاع «سيف الله» أن يستكمل مشواره العسكري بنجاح فإن هانيبال بن هاميلكار بدأ يواجه خسوف نجمه لأن الرومان غيروا من تكتيكاتهم وأحلوا فكر المواجهة بفكر جديد تماما كما سنرى.

* كاتب مصري