هانيبال وخسوف الأسطورة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف هزم هانيبال القوات الرومانية في معركة «كاناي» الشهيرة وهي ثالث معركة له في شبه الجزيرة الإيطالية بعد أن عبر إليها من مستعمرات بلاده في إسبانيا، وكيف استطاع هذا العبقري أن يصفي جيشا عن بكرة أبيه في معركة مشهودة من حيث عدد الضحايا وعبقرية إدارتها، وعلى الرغم من هذا الانتصار الرائع، فإن هانيبال اتخذ قرارا بعدم السعي لدخول روما. وتختلف كتب التاريخ في محاولة تفسير هذه الخطوة، فمنها ما رأى أنه لم يملك أدوات الحصار اللازمة للقضاء على روما التي كانت حتما ستقف بكل عناد وقوة ضده، بينما رأى آخرون أن هدف هانيبال كان خنق روما ودفعها نحو الاستسلام.

أيا كانت الأهداف أو الأسباب التي سيقت لعدم التحرك صوب قلب الإمبراطورية الرومانية، فإن التاريخ أثبت أن هذا كان الخطأ الاستراتيجي الوحيد لهانيبال منذ أن بدأ حملته في شبه الجزيرة الإيطالية، فلقد سمح هذا لروما باستعادة أنفاسها العسكرية تحت قيادة فابيوس مرة أخرى، الذي منع أية محاولة للزج بجيش جديد في مواجهة هذا العملاق العسكري، بل اتخذ قرارا دعمه فيه مجلس الشيوخ تضمن دعم دفاعات المدينة وتقوية الجيوش المتبقية لها خشية أية هجمة متوقعة، كما بدأ يشكل قوات محدودة لمناوشة جيش هانيبال واستنزافه بعيدا عن روما، وفي الوقت نفسه بدأ في استمالة القبائل المتحالفة مع هانيبال لإبعادها عنه.

شهدت هذه الظروف الصعبة الميلاد السياسي والعسكري لغريم هانيبال، الذي استطاع أن يخسف ضياءه وهو المعروف باسم «سكيبيو الصغير» أحد أقارب القائد «سكيبيو الأكبر» الذي كسره هانيبال منذ سنوات مضت، فلقد تعلم «سكيبيو» من تكتيكات هانيبال ومن دراسة معاركه الثلاث الماضية وتحركاته العسكرية، وأقنع مجلس الشيوخ بخطته لإرسال جيش روماني تحت إمرته إلى إسبانيا لضرب المستعمرات القرطاجية هناك وهزيمتها، وقد أبهر هذا الشاب الجميع بقدراته العسكرية العظيمة التي عكست نضوجا عسكريا مبكرا، وفي الوقت نفسه قامت القوات الرومانية بهزيمة الجيش القادم لدعم هانيبال من إسبانيا قاطعة عليه الإمدادات التي كان يحتاجها للاستمرار في حملته أو مهاجمة روما، وهو ما ترك هانيبال معزولا محسورا في شبه الجزيرة الإيطالية غير قادر على مهاجمة روما أو الانسحاب بعد أن تم احتواؤه، وهو ما فتح المجال أمام روما لممارسة سياساتها بلا تقيد.

أدت هذه التطورات إلى تبني روما خطة أكثر جرأة، فلقد وافق مجلس الشيوخ نزولا على نصيحة «سكيبيو» على أن يرسل جيشا إلى قرطاج نفسها ليهددها فيجبر هانيبال على ترك حملته والعودة الفورية لإنقاذ بلاده من هذه الهجمة، وقد حدث ما توقعه الرومان بالفعل، فانسحب هانيبال مهرولا إلى قرطاج بعد سنوات طويلة في الغربة، فكان سكيبيو على أهبة الاستعداد لمواجهة أستاذه في العسكرية، وبالفعل عسكر الجيشان الروماني والقرطاجي في تونس على سهل «زاما»، حيث جهز هانيبال ما يقرب من خمسين ألف مقاتل مقابل ثلاثين ألفا للجيش الروماني، ويسجل التاريخ أن لقاء قد تم بين القائدين وجها لوجه في هذا السهل قبيل بدء المعركة، ولكن كتب التاريخ لم تذكر لنا ما قيل فيه، وإن كان العديد من المؤرخين قد تخيلوا ما حدث.

بدأت المعركة بهجوم قوي من قبل مشاة قرطاج تتقدمهم الأفيال، ولكن سكيبيو كان قد وضع خطته بحنكة لقتل الأفيال أو إخافتها خارج مسرح العمليات، وبعدها شد جيش هانيبال على مشاة الرومان، وطبق سكيبيو تكتيك هانيبال في معركة «كاناي» فتراجع قلب جيشه واستطاعت قوات الاحتياط الخاصة به أن تطوق الجيش القرطاجي، وسرعان ما قامت قوات الفرسان الرومانية بالانقضاض على قلب الجيش القرطاجي الذي بدأ يتفكك تدريجيا، وقد استطاع سكيبيو كسر مقاومة هانيبال وأذاقه من كأس تكتيكاته نفسه بشكل أذهل هانيبال نفسه، فلقد درس القائد الروماني فكر هانيبال وعرف تكتيكاته وطريقه إلى النصر.

لقد كانت معركة «زاما» فاصلة في كسر فرص قرطاج للأبد، فلقد اضطرت قرطاج للإذعان لشروط روما مرة أخرى حيث التزمت بدفع تعويضات الحرب مرة ثانية بعد الحرب البونية الأولى. وعلى الرغم من هزيمة هانيبال العسكرية، فإنه بدأ يلعب دورا سياسيا مهمّا في قرطاج، وبدأ نجمه في الصعود في مواجهة الساسة التقليديين الذين رفضوا تقديم الدعم له أثناء حملته في روما، مؤكدا أنهم السبب الحقيقي وراء هزيمة جيوشه، وبالفعل قامت قرطاج بدفع التعويضات بأسرع مما كان متوقعا، وبدأت الظروف تساعد هانيبال ليتبوأ القيادة في بلاده.

عند هذا الحد بدأ الرومان يشعرون بالقلق إزاء بزوغ النجم السياسي لهانيبال، الذي قد ينقلب لحملة عسكرية جديدة، فبدأوا يضيقون الخناق عليه ويطالبون قرطاج بتسليمه إليهم، وهو ما اضطره للدخول في المنفى الطوعي بعيدا عن بلاده حتى يرفع عنها الحرج، ولجأ لعدد من الملوك في شرق المتوسط لتقديم خبراته العسكرية لهم، وانتصر في عدد من المعارك وخسر في عدد آخر منها، إلى أن بدأت روما تضيق الخناق عليه في كل الأماكن التي كان موجودا بها، وعندما شعر أن الرومان قاب قوسين أو أدنى من القبض عليه، دفعته عزة النفس إلى الانتحار حتى لا يكون أسيرا رومانيا، فتجرع السم ومات منتحرا بعيدا عن أيدي أعدائه، ويقال إن قبره الآن بالقرب من مدينة إسطنبول.

وبخسوف نجم هانيبال، تحضرني مقولة أكدها أحد جنرالاته بعد معركة «كاناي» الشهيرة، التي قال له فيها إنه يستطيع أن يحصل على النصر ولكنه لا يعرف كيف يوظفه، وهي مشكلة تعرض لها كثير من العسكريين الذين لعبوا دور الساسة، فهم كثيرا ما فشلوا في توظيف انتصاراتهم سياسيا، فلو أن هانيبال استطاع أن يتحرك صوب روما بدلا من انتظار إذعانها له، لكان التاريخ قد تغير.. لو أن نابليون عرف كيف يستثمر هزيمة النمسا وبروسيا لكان التاريخ قد تغير.

كذلك، فإن نهاية هانيبال تدفعنا للاعتراف بوجود ظاهرة تتكرر بين الحين والآخر لم يختلف فيها مثال هانيبال عن عظماء آخرين تلوه أو سبقوه، فكثير منهم انتهوا بنهاية لا تتلاءم وإنجازاتهم العسكرية، فكلما بدأ القائد العسكري يتوسع وتتكرر انتصاراته، زادت قائمة أعدائه وبدأت عملية التكالب ضده في صراع سرطاني غير مفهوم داخل الدولة الواحدة، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأنه في مناسبات كثيرة يكون للقائد المنتصر عدوان؛ الأول غريمه المنهزم في ساحة القتال، والثاني الحاقد من رفاقه أو الجاهل من بني وطنه.

* كاتب مصري