السياسة والفن في عصر النهضة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

كان أول درس لي في العلاقة بين الفن والتاريخ على أيدي إحدى أساتذة العمارة الإسلامية وكان الموضوع حول الطراز المعماري المعروف بالباروك والروكوكو، ومع ذلك ظل التاريخ مرتبطا لدى بالأبعاد السياسة والاستراتيجية والفكرية وفي بعض المناسبات الأبعاد العلمية، ولكن التغير بدأ يدركني خاصة عند التعامل مع فترة عصر النهضة والتي يطلقون عليها مرحلة البعث في أوروبا Renaissance والتي بدأت في إيطاليا خلال منتصف القرن الخامس عشر.

لقد كانت حركة النهضة مرحلة هامة للغاية من التطور الفكري والسياسي والوجداني الأوروبي، فهي المرحلة التي فصلت أوروبا العصور الوسطي ومن قبلها عصور الظلام، وفتحت المجال أمام مرحلة الانطلاقة الفكرية والفنية، وهي الانطلاقة التي ارتبطت بعوامل صناعة السياسة والعكس صحيح، فحركة الفن والسياسة كثيرا ما تكون مترادفة أو متقابلة، بشكل يرتبط بالعوامل المختلفة خاصة فيما يتعلق بعصر النهضة في إيطاليا، فكثير من المؤرخين يربطون بين الانفتاح الإيطالي على العالم من خلال طرق التجارة مع آسيا اعتبارا من القرن الرابع عشر وبين ظهور حركة النهضة في قلب إيطاليا خاصة في فلورنسا وروما وفينيسيا، فلقد أدت هذه الحركة التجارية لتراكم رأسمالي وغنى فاحش للكثير من الأسر الإيطالية والتي بدأت تستثمر في الفن والعمارة، غير أن البعض الآخر يرجع ظهور هذه الحركة لأسباب تتعلق بسقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين والتي أدت إلى هجرة الكثير من أرباب الفن والفكر من هذه العاصمة إلى شبه الجزيرة الإيطالية، خاصة مع وجود حبل سرى يربط بين الفن والفكر في اليونان من ناحية وبين إيطاليا من ناحية أخرى، بل إن البعض اعتبر حركة النهضة في إيطاليا امتدادا لفكرة إحياء الفنون الإغريقية والرومانية القديمة.

ومع ذلك فإن كثيرا من الآراء اتجهت إلى أن بزوغ هذه البؤرة الفكرية والفنية في إيطاليا مرتبط ببداية فقدان الكنيسة الكاثوليكية قبضتها على الأمور السياسية والفكرية في العالم الأوروبي، وهو ما فتح المجال أمام بداية التحرر الفكري وفكرة الفردية والإنسانية بعيدا عن التسلط الديني، ولعل هذا ما دفع بعض عناصر الحركة الفنية السعي لمحاولة التطرف في إبراز الفردية سواء من خلال فكرة ارتباط الجسد والروح، وفي كل الأحوال فإن حركة الإنسانية أو الهيومانيزم Humanism التي بدأت في إيطاليا ثم انتشرت في أوروبا من خلال مفكرين كثيرين وكان هدفها هو البحث عن إحياء ثوابت الثقافة الغربية ممثلة في الفكر والفن والأخلاق اليونانية والرومانية، أو العودة بوضوح إلى جذور هذه الحضارة بعدما طغت عليها لقرون طويلة الكنيسة وتعاليمها وما نتج عنهما من ثقافة أحادية، وهو ما شجع بوضوح بداية التوجه نحو الفردية في الفكر والتعبير عنه من خلال الفن.

من الثابت أن حركة الفن الإيطالي ارتبطت بهذه الحركة التاريخية، فلقد كان الفن الإيطالي مرتبطا بفلسفة الكنيسة الكاثوليكية والتي كانت تهدف للسيطرة على الفن ليخدم أهدافها السياسة والدينية في آن واحد، فقد خضع الفن لقبضة الكنيسة فأصبح معبرا عن فكرها، فهو لم يكن يهدف التذوق والاستمتاع بل لأن يعكس الأهداف السياسية للكنيسة خاصة لمن يستطيعون القراءة والكتابة والذين اعتمدوا على الفن وغيره من الأدوات لخلق الانطباعات لديهم، فالفن كان أداة لتجسيد القصص الإنجيلية من حياة السيد المسيح ومرحلة الصلب والعذاب في الآخرة وكانت الرمزية تلعب دورا حاسما في هذا الاتجاه، وقد استمر الوضع على هذا الحال حتى بداية الحركة الفرانسيسكية المرتبطة بالقديس Francis of Assisi والذي أدت حركته لإعادة التركيز على الأبعاد الروحية والفكرية ورموزها الإيجابية، فانعكس ذلك مباشرة على الفن من خلال إعادة توجيه الاهتمام نحو رسم الطبيعة وجمالها وارتباط الإنسان بها باعتبارها من صناعة المولى عز وجل، كما عبرت عن مفهوم السعادة الإنسانية والتي كانت من أركان فلسفة المدرسة الفرانسيسكية.

وقد كان من الطبيعي أن تؤثر حركة التاريخ على الفن في إيطاليا، فتفجرت ينابيع الإبداع الفني في وعاء الفردية والإنسانية، وهو ما يبرر تركيز الفن على الطبيعة من خلال لوحات جيوتو Giotto ومن بعده ليوناردو دا فينشي والذي يعتبره الكثير أعظم رسام وفنان عرفه العالم والذي بدأ يعبر عن الفردية في لوحاته من خلال أعمال كثيرة خاصة «العشاء الأخير» والذي سعى من خلاله للتعريف بالانفعالات النفسية والإنسانية المرتبطة بالغضب والاستغراب وعدم التصديق والذهول حيث كان من المفترض أن يكون تعبير وجوه الحواريين في هذه اللوحة يعكس مقولة السيد المسيح لهم بأنهم سينكرونه قبل الصباح، ناهيك عن لوحته الشهيرة المعروفة بـ«الموناليزا» وغيرها من الرسومات العظيمة لهذا الرجل.

لم يكن دا فينشي وحده في هذا الاتجاه فسرعان ما نافسه أو لحق به مجموعة من عظماء الفنانين وعلى رأسهم مايكل أنجلو ورفائيل، فلقد كانت رسومات الأول تعبيرا صادقا عن إيمانه بالفردية عندما قام برسم سقف الكنيسة الشهير، ولكن هذا التوجه وضح بشكل ملحوظ في تماثيله والتي تعكس بوضوح هذا الفردية من خلال محاولة أن يعكس الشخصية وربطها بالجمال، وهو ما دفع البعض للتطرف من خلال محاولة التعبير عن ذلك بالعري.

وقد تأثرت العمارة أيضا بهذه التوجهات الفنية والفكرية في إيطاليا في عصر النهضة، فلقد شهدت هذه المرحلة العودة مرة أخرى إلى الجذور المعمارية الرومانية ولكنها لم تكن قاصرة فقط على ذلك بل امتدت لتشمل إضفاء اللمسات الجمالية وتطوير هذا المعمار ذاته، خاصة ما يتعلق منه ببناء كنائس مثل «سان لورينزو» و«سانتي إيسبيريتو»، ولكن أبرز هذا التوجه على الإطلاق كان بناء كنيسة القديس بطرس في روما والتي اعتبرها البعض تعبيرا صادقا عن حركة وفكر النهضة في إيطاليا في ذلك الوقت.

يعكس كل ما سبق أن حركة التاريخ لا تنتقي أبعادا دون أخرى، فهي حركة شاملة جامعة، تشمل إلى جانب تطور الإنسانية عمليا وفكريا وسياسيا واقتصاديا تطورات أخرى قد تكون غير منظورة بشكل كبير لأنها وجدانية الطابع، روحية المضمون، ولكنها في النهاية تعبير عن روح الحركة التاريخية كما هي ماثلة أمامنا في عصر النهضة والتي يعبر عنها الفن ممثلا في أشكاله المختلفة من الموسيقي إلى الرسم إلى النحت، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن الفن قد يكون البعد النفسي الحي لروح حركة التاريخ.

* كاتب مصري