مظاهر الحركة الرومانسية في التاريخ

د. محمد عبد الستار البدري

TT

رصدنا في مقال الأسبوع الماضي ظهور الحركة الرومانسية ومظاهرها وأسلوبها في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وكيف أنها كانت تمثل ثورة على الفكر والأساليب المرتبطة بحركة التنوير والاعتماد الشامل على العقل والفكر في تسيير الشؤون الإنسانية والرقي بها، فجعلوا الإنسان كائنا عقليا متجاهلين الأبعاد الروحية والنفسية والعاطفية له، فقامت الحركة الرومانسية كرد فعل مضاد لهذا التوجه والسعي لمحاولة إعادة إثبات الأبعاد الوجدانية والقيم العاطفية والفردية، فامتدت مظاهر هذه الحركة بشكل كبير في شتى مناحي الحياة، فكانت بالأخص ظاهرة في ألمانيا ونابضة في فرنسا، وهما الدولتان اللتان قدمتا للعالم أكثر الرواد الرومانسيين في التاريخ الأوروبي الحديث.

لقد مثلت المدرسة الألمانية بما لها من تاريخ عريق في هذا الصدد أحد أهم مراكز الحركة الرومانسية فقاد لواءها كتاب عظام مثل «غوته» و«هيردر» صاحب مفهوم الشعر الشعبي ومعهم أيضا «نوفاليس» و«فيشت» وغيرهم من الكتاب الموهوبين، ولا يمكن في هذه المرحلة أن نتجاهل الدور الهام الذي لعبه ظهور القومية الألمانية في مراحلها البدائية وتأثيرها المستتر على مظاهر الفكر القومي أو الوطني الألماني، ففكرة القومية أو الوطنية دائما ما ترتبط بشكل أو بآخر بفكر روحي أو رومانسي، وهو ما كان له أثر كبير في تطور الفكر الألماني لا سيما بعد الهزيمة الساحقة للقوات البروسية في معركة «يينا» على أيدي نابليون بونابرت، وسلسلة المعارك التي خاضتها بروسيا كممثلة للقومية الألمانية في القارة الأوروبية، وقد تمثلت كتابات المفكرين الألمان بمحاولة الوصول للشعب مباشرة في إطار من العاطفية والفكر القومي، فكانت البساطة وسيلتهم، والعاطفة طريقهم والمشاعر أداتهم.

لقد كانت المدرسة الرومانسية الفرنسية لا تقل عمقا عن المدرسة الألمانية، بل قد تزيد عنها، فبعض المؤرخين ينظرون لجان جاك روسو Rosseau على اعتباره الشرارة الرومانسية الأولي التي انطلقت في سماء فكر عصر التنوير من خلال أحد كتبه والمعنون «هيلواز الجديدة»، ثم اندلعت بعد ذلك نيران الرومانسية في الثوب الفكري الفرنسي خاصة بعد اندلاع الثورة الفرنسية في 1789، وكان فارسها الأول هو شاتوبريان Chateaubriand في كتابه الشهيرThe Spirit of Christianity أو «روح المسيحية»، والذي رأى في الديانة المسيحية نفحات روحية وقيم عاطفية أقوى بكثير من التفاسير الفكرية الضيفة للعقل وما مثله عصر التنوير، فكان هذا أسلوبا فكريا عظيما لحماية المسيحية كديانة من غارات الفكر العقلاني المجرد عليها، وهو التيار الذي تزعمه فولتير والذي لم يدمر إلا الكراهية للمسيحية والأديان وما مثلته، فمثل هذا الفكر يعد عودة للقواعد الفكرية الأوروبية ولكن برؤى جديدة ومختلفة تستلهم العظمة الروحية بشكل مختلف عما كانت عليه من قبل، وقد ارتبط بهذه الحركة بشكل كبير الكاتب الفرنسي العظيم «فيكتور هوغو» والذي مثلت كتاباته امتدادا لفكر «شاتوبريان» بطرق مختلفة، فرواياته «كرومويل» ومن بعدها «أحدب نوتردام» و«البؤساء» كلها انعكاس لهذا التوجه وثوابته العاطفية والفكرية على حد سواء.

ولقد تأثرت القارة الأوروبية بأكملها بالفكر الرومانسي فابتدع المفكرون جملا تعكس هذا التوجه منها الجملة الشهيرة التي أكدت أنه «أصبح من المنطقي الآن أن نكون غير عقلانيين»، أو كمقولة للكاتب «لامارتين» بأن «الإنسان لا يمكن أن يكون نفسه إلا تحت ضغط المشاعر الجياشة»، وهكذا أصبح البحث عن المشاعر الإنسانية والعاطفة هما أساس الكيان الإنساني.

لقد تأثرت بريطانيا بدرجة أقل بالحركة الرومانسية خاصة في مجال الشعر، فلقد كانت بداية الرومانسية منسوبة إلى «وليم وردزورث» و«ساميول تايلر كوليردج»، خاصة قصيدته العظيمة The rime of the ancient mariner أو «قافية البحار القديم» والتي سعى من خلالها لوصف معاناة بحارة وعلاقتهم بغير المعقول فضلا عن مفاهيم التفاؤل والتشاؤم، ولعل أشهر الشعراء الإنجليز في ذلك الوقت والذي مثل المدرسة الرومانسية الإنجليزية أكثر من أي شخص آخر كان اللورد «بايرون» والذي وجد في الرومانسية والمشاعر هدفه المنشود، فكان ارتباطه القوي بالقوى التحررية والليبرالية في أوروبا من سمات شعره الأساسية خاصة قصائده المرتبطة بالثورة اليونانية والتي تؤيد الاستقلال اليوناني عن الدولة العثمانية، كما تمثلت الحركة الرومانسية في أشعار «شيلي» والذي رأي في الطبيعة والإنسانية مراده النهائي، ولكن يلاحظ أن الحركة الرومانسية في بريطانيا اقتصرت بشكل كبير على الشعر أكثر من الكتابة أو المسرح أو الفن.

لم تقتصر الحركة الرومانسية على الفكر والشعر والرواية، ولكنها امتدت أيضا لعنصر هام للغاية في الحياة الإنسانية وهو الفن، خاصة الموسيقى والتي تأثرت كثيرا بهذه الحركة التحررية، فلقد بدأت الحركة الموسيقية تبتعد عن الكلاسيكية التي مثلها موزارت وباخ، فبدأت تسعى لمحاولة إصباغ النغمة بالروح التحررية والعاطفية الجديدة بعيدا عن الموضوعية، فبدأت شخصية الموسيقار تتضح في أعماله وتبرز هذه العوامل، خاصة في المدرسة الألمانية وعلى رأسها بيتهوفن وشوبرت وشوومان، خاصة الأخير والذي أنشأ مجلة لهذا الهدف، وسرعان ما انتشرت خاصة في الدول التي كان لديها فكر قومي مثل بولندا ممثلة في شوبان، والذي حاول أن يعالج مشكلات الروح بموسيقاه، بينما مثل ميندلسون الشعبية ووضعيتها.

لم تكن الموسيقى وحدها هي التي تأثرت بالحركة الرومانسية فلقد انتقل أثر هذه الحركة إلى مجال المعمار أيضا، فكان من أهم نتائجها هو العودة للطراز «الجوثي Gothic» في المعمار، وهو الذي وصفه الكاتب الألماني غوته بأنه تعبير عن الثقافة الألمانية، بينما بدأ المعماريون يسعون لضرورة أن يعبر المعمار عن الروح الإنسانية فاهتموا كثيرا بالزخرفة والتعبيرية في أعمدتهم ومبانيهم، ولعل مبنى البرلمان في بريطانيا يمثل روح هذه الفترة، فلقد بني على الطراز المعماري الجوثي في العصر الفيكتوري نسبة إلى الملكة فيكتوريا.

وقد استمرت الحركة الرومانسية في الكتابة والفن والمعمار والموسيقى حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر عندما بدأ هذا التيار يختفي تماما من الساحة الأوروبية لأسباب تتعلق بالتطور الطبيعي للبشرية وفكرها، ولكن ليس قبل أن يعيد هذا التيار للبشرية بصمتها وللإنسانية رونقها وللفردية كينونتها، وهي العناصر التي حجبها التخلف الفكري والتشدد الديني والتطرف العقلي.

* كاتب مصري