دروس من أخطاء الديمقراطيات

د. محمد عبد الستار البدري

TT

هناك فكر شائع أعتقد أنه مغلوط وهو أن الديمقراطيات الحديثة قادرة على حماية نفسها داخليا بشكل مطرد بلا أي عوائق، وأن الديمقراطية لا يحميها إلا مزيد من الديمقراطية، وقد يكون لهذا الفكر ما يبرره، ولكن هناك من الأمثلة التاريخية التي تشير إلى أن هذا ليس صحيحا دائما بضرورة الحال، فالواضح أن هناك ممارسات غير ديمقراطية في الدول الديمقراطية الحديثة.

واعتقادي أن «الغيريماندريةGerrymandering» تمثل في حقيقة الأمر خطيئة كبرى في الممارسة الديمقراطية، وهذا ليس مفهوما ابتدعته ولكنه مفهوم شائع لدى الأوساط السياسية باعتباره يمثل ممارسة غير ديمقراطية تحدث بين الحين والآخر في الدول الديمقراطية وأيضا في بعض الدول التي لا تزال حديثة العهد بالديمقراطية أو التي كانت تحكم من خلال الحزب الواحد، وينسب مفهوم «الغيريماندرية» إلى محافظ ولاية ماساتشوستس الأميركية عام 1812 واسمه «إلدرييج جيري» والذي أراد أن يجد وسيلة يضمن من خلالها فوز حزبه في انتخابات ولايته، فما كان منه إلا أن عدل الحدود الداخلية للدوائر الانتخابية بما يسمح له بتجميع أغلبية الأصوات المعارضة لحزبه في دائرة انتخابية واحدة بما يوفر لحزبه فرصة تنافسية قوية في الدوائر الأخرى، وكثيرا ما كانت الانتخابات تنتج عن فوز الأقليات بسبب ما هو معروف بظاهرة «الغيريماندرية»، وهي في حقيقة الأمر لم تكن بدعة من زعيم لدولة شيوعية أو أحد النظم الشمولية المتخفية في زي الديمقراطية، ولكنها كانت وسيلة للتغلب على أساس هام من أسس الديمقراطية وهو الفرص المتساوية للمرشحين، بما يمثل خطأ في الممارسة الديمقراطية وسبيل الحرية بكل المعايير لأنه يؤثر على المسيرة الانتخابية في هذه المجتمعات.

ولكن أخطر الأمراض التي تصيب الديمقراطية هي حالة الإرهاق وعدم الثقة في النظام السياسي والتي غالبا ما تحدث عندما تأتي قوى داخلية تخلخل ثقة المواطن في الديمقراطية وتستغل ضعف الوطن وظروفه الصعبة لتبشر بدعائم نظام سلطوي أو شمولي، ولعل أخطر الأمثلة في تقديري وأبرزها في مطالع القرن العشرين كانت إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، فلقد خرجت إيطاليا من الحرب وهي مع الحلفاء، ولكن عند تقسيم المغانم في اتفاقية فرساي في 1919 لم يكن نصيب إيطاليا يذكر أو يتوازى مع 600 ألف قتيل دفعتهم ثمنا لمساعدة الحلفاء في جهودهم الحربية، ولكن إيطاليا كانت ضعيفة للغاية ولم تكن قيمتها السياسية على المستوى الأوروبي تسمح لها بأن تطالب بأكثر مما أعطاها الحلفاء.

ورغم أن الحكومات الإيطالية المتتابعة لم تكن ديمقراطية بالمفهوم الكامل في العصر الحديث، فإنها كانت أقرب ما تكون لها، فقد كانت هناك ثلاث قوى متصارعة في الحلبة السياسية الإيطالية في عشرينات القرن الماضي، الأولى تمثلت في الحزب الكاثوليكي الشعبي وهو تيار ليبرالي له خلفية قوية في الرأسمالية الإيطالية، وعلى النقيض منه كان الحزب الشيوعي الإيطالي، وقد كانت الشيوعية في ذلك الوقت مع بداية ظهورها ينظر لها على اعتبارها أداة لمكافحة الرأسمالية بكل المشاكل الاجتماعية المرتبطة بها، فكانت الشيوعية هي أقرب ما تكون «للموضة السياسية»، فتشير بعض التقديرات إلى أن ثلث القوة الناخبة في إيطاليا كانت تنتمي لهذا التيار سواء بالفعل أو بالتعاطف أو بالرفض للأحزاب والأفكار التقليدية. ويكتمل الثالوث السياسي الإيطالي من خلال الملك فيكتور إيمانويل الثالث، والذي يمثل الضعف السياسي الحقيقي، ومعه مجموعة من الساسة الذين كان يعينهم في رئاسة الوزراء.

لقد كان من الممكن أن تستكمل إيطاليا التجربة الديمقراطية شأنها في ذلك شأن دول أوروبية كثيرة، ولكن حقيقة الأمر أنها انحرفت انحرافا شديدا خارج هذا المسار، فلقد بدأت الظروف الاقتصادية تحدث تآكلا في قواعد الديمقراطية وفرص اكتمالها، وسرعان ما بدأ الاقتصاد الإيطالي يعاني من البطالة وعجز مزمن في الموازنة وانهيار تدريجي في ميزان المدفوعات وغيرها من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ولم تكن الظروف السياسية مواتية، فلقد كانت أوروبا تسعى للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة الناجمة عن الحرب العالمية الأولى، فلم يكن هناك من يدعم الاقتصاد الإيطالي خاصة بعدما عمت حالة الفوضى وضعفت الدولة واستشرت المشاكل الاجتماعية المرتبطة بذلك.

وفي هذه الظروف ظهر أحد الشباب الإيطالي ويسمى «بنيتو موسوليني» يدعو للفاشية كوسيلة لتحقيق الأحلام الإيطالية، ورغم أن الفاشية لم يكن لها فكر منسق وقت ظهورها، فإنها كانت تداعب طموحات البسطاء من الشعب، خاصة أنها تدعو إلى إيطاليا القوية التي تمثل امتدادا للإمبراطورية الرومانية، فضلا عن المطالبة بتوجيه كل القوة للدولة ولا شيء يعلو فوقها، وبالتالي بدأ هذا التيار يعمل على جذب الدعم الشعبي المحدود ذلك رغم أن هذا التيار لم يكن يملك لا الفكر ولا الكوادر ليقود النهضة في إيطاليا، ولكن في اللعبة الديمقراطية هذه لا يهم طالما أن الأغلبية اقتنعت بذلك.

والثابت تاريخيا أن الشاب موسوليني كان طريدا من الحزب الشيوعي الإيطالي فحمل في طياته كراهية شديدة لهم، فكان ذلك سببا مباشرا في بداية تحالف قوي بينه وبين الرأسمالية الإيطالية، فلقد أدى ضعف الحكومة وسعي العمال ونجاحهم في حالات كثيرة للسيطرة على المصانع تحت مسمى الحرية والديمقراطية لأن تلجأ الطبقات الرأسمالية للتحالف مع الفاشيين بقيادة موسوليني لمواجهة تجبر العمال وحماية أموالهم، وقد وفرت الحركة الفاشية هذا التحالف من خلال مجموعات من البلطجية المعروفين «بالفانلات السوداء»، فقد كان موسوليني يملك القدرة على تحريك بضع عشرات الآلاف منهم بقرار منه، وقد اتخذ هذا القرار بجملته الشهيرة «نحو روما... نحو روما»، بينما كان هو في ميلانو، فامتلأت روما بجحافل البلطجية وقطاع الطرق مرتدين فانلاتهم السوداء مرددين شعارات قومية ووطنية تدعو لقوة إيطاليا وللفاشية كنظام سياسي يقوي سلطة الدولة المركزية.

لقد كان رئيس الوزراء على أتم استعداد لإعلان الأحكام العرفية وتطهير البلاد من حالة الفوضى التي اجتاحتها بنزول قوى البلطجة في الشوارع، ولكن الملك فيكتور إيمانويل الثالث خشي تبعات ذلك وآثر حقن الدماء ورفض إنزال الجيش، فما كان من رئيس الوزراء إلا أن استقال بعد الموقف المتخاذل للملك، فلم يجد هذا الرجل الضعيف بدا من تعيين قائد الفاشيين موسوليني رئيسا للوزراء علما بأن حزبه لم يملك إلا أقل من 10% من مقاعد البرلمان، فلم يتأخر الرجل في بسط نفوذه كما سنرى في مدة وجيزة للغاية، ومما لا شك فيه أن الملك الإيطالي اقترف الفاحشة السياسية وهي تنصيب الأقلية غير المؤمنة بالديمقراطية لقيادة الحركة السياسية في البلاد وهو قادر على حماية الدولة في ذلك الوقت، وهكذا خرجت إيطاليا عن طريق الديمقراطية نحو الفاشية بضعف من الملك، وجهل من الشعب، وجشاعة من الطبقة الرأسمالية، وحمق الحركة الاشتراكية، وافتقار الأحزاب للرؤية السياسية.

* كاتب مصري