الواقع السياسي لإيطاليا ما بين الحربين

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي بعض الأخطاء في الممارسات الديمقراطية وعلى رأسها عدم استخدام الجيش لمنع انتشار بلطجية الفاشية في روما وتولية «بنيتو موسوليني» لرئاسة الوزراء، فضلا عن كشف حقيقة الخطأ الشائع بأن الفاشيين كانت لهم الشعبية في الشارع الإيطالي، فحقيقة الأمر أن هذا الحزب لم يكن يملك سوى 35 مقعدا من أصل 356. أي أقل من عُشر البرلمان، وموسوليني لم يكن منتخبا كما أنه لم يكن قائدا شعبيا، ولذلك فإن حصوله على السلطات المطلقة التي كان يرغب فيها كان أمرا شديد الصعوبة.

بمجرد أن تولي موسوليني رئاسة الوزراء تعمد ألا يضم في وزارته الجديدة أكثر من أربعة وزراء من حزبه الفاشي على خلفية ضعف قوته البرلمانية، فعمد الرجل لضم حقيبتي وزارتي الخارجية والداخلية إليه شخصيا حتى يمكن أن يسيطر على المجريات الأساسية في حكم البلاد ويضيف إلى سلطاته السياسية والأمنية تمهيدا لحسم ميزان القوة لصالحه، وبهذا بدأ الرجل حكمه بهدوء ولكنه كان مضطرا للتخلص من كل القوى الأخرى التي لم تكن تؤيد حكمه الفاشي، فالرجل لم يأت بالديمقراطية ولم يأبه لتثبيت أركانها، فكان عليه أن يمحو عددا من القوى السياسية على رأسها الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي ويضعف من دور الكنيسة الكاثوليكية والتي كانت لديها مشاكل تقليدية مع الدولة الإيطالية لعقود طويلة بسبب رغبتها في السيطرة على النظم التعليمية في البلاد وحصول مدينة الفاتيكان على الوضعية القانونية المستقلة عن الدولة.

بدأ موسوليني رحلته نحو الديكتاتورية بمزيج من التريث والعنف المحسوب تحت شعار «كل شيء للدولة، ولا شيء ضد الدولة، ولا شيء خارج الدولة»، فبذلك مزج بين فكرة السلطة والدولة، واضعا نفسه في معادلة الملك لويس الرابع عشر «أنا الدولة، والدولة أنا»، فكان هذا الخلط لدى الرأي العام وبعض الأحزاب هو ما بدأ يجلب عليه بعض الشرعية والدعم على ضوء الضعف العام الذي أصاب مؤسسات الدولة وحالة الاحتقان الاقتصادي التي كانت مسيطرة على الشارع، وقد بدأ موسوليني يطبق ما يمكن أن نسميه بسياسة «الإحلال الوظيفي» أي عملية نشر كوادر حزبه في مؤسسات الدولة تدريجيا، ليضمن بذلك السيطرة التدريجية على هذه المؤسسات، كما بدأ يلجأ لعملية القضاء على كل معارضة داخل هذه المؤسسات.

وفي تحرك سريع بدأ موسوليني يطلب من البرلمان منحه سلطات كاملة ومطلقة أو ما هو معروف بسلطات الطوارئ لإدارة البلاد لمدة عام كامل حتى يمكن له أن يتغلب على المشاكل الأساسية التي تواجه المواطن من الفقر والفوضى والبطالة إلخ... وقد وافق البرلمان على هذا المطلب بأغلبية 275 مقابل 90. ويظل هذا القرار موضع تساؤل لدى كثير من المؤرخين والسياسيين فلقد تنازل البرلمان عن سلطاته طواعية لصالح موسوليني، تماما مثلما كان ينوي السينت أن يمنح يوليوس قيصر السلطات المطلقة في البلاد قبلها بقرابة عشرين قرنا من الزمان، وبقي سؤال كيفية موافقة البرلمان تسليم سلطاته بالكامل إلى رئيس وزراء غير منتخب أتت به مجموعة من البلطجية إلى الحكم؟ ويشير الكثير من المصادر التاريخية أن موسوليني أجبر البرلمان على الخضوع لإرادته تحت تهديد حل البرلمان وعقد انتخابات برلمانية جديدة بإشراف من الحزب الفاشي، بينما يرى آخرون أن الكثير من البرلمانيين كانوا يخشون الرجل وحزبه العنيف بينما يرى فريق ثالث أن البرلمانيين كانوا مدركين إفلاسهم السياسي وعدم قدرتهم على مواجهة المشاكل القائمة في البلاد معتمدين على أن تولي موسوليني كل السلطات من شأنه إغراقه سياسيا.

وعلى الفور استخدم الرجل سلطاته لتضييق الخناق على المعارضة الخاصة به والسيطرة على الساحة السياسية، فبدأ يُدخل سلسلة من الإجراءات التي كان من شأنها تقييد الحريات العامة والتضييق على الصحافة والفكر في البلاد، وفرض الرقابة على الكتابة والكُتَّاب تحت مسمى حماية الدولة ومنشآتها من الفوضويين ثم وجه همه للقضاء على الاشتراكيين في البلاد، واستخدم الرجل بلطجية الحزب الفاشي في البلاد، وتجلت الإجراءات التضييقية من خلال الانتخابات البرلمانية التي تلت هذه الخطوات، والتي خرجت بأغلبية فاشية تحت وطأة الإجراءات العنيفة وحصاره للمعارضة، خاصة حادثة مقتل «ماتيوتي» أحد المفكرين الإيطاليين على أيدي القمصان السوداء، والتي فجرت موجات من الغضب ضد النظام السياسي ولكنه امتصها بمحاكمة صورية للقتلة وصدور حكم مخفف عليهم أعقبه عفو من موسوليني، ثم حدث ما كان متوقعا عندما أصدر الرجل قرارا بحظر الأحزاب والتجمعات السياسية في البلاد باستثناء الفاشية، فدخلت إيطاليا في مرحلة النظام الشمولي المبني على الحزب الواحد، فحتى البرلمان كان يخضع لسيطرته الكاملة فلا يجوز طرح الاستجوابات للحكومة إلا بعد موافقة السلطة التنفيذية في البلاد، وكان الشعار الجديد الذي طرحه الحزب الفاشي هو «أؤمن، أطع، حارب».

حقيقة الأمر أن هذا النظام الشمولي الجديد ما كان يمكن أن يحيا لو أنه لم يسع لتحسين الأحوال المعيشية للشعب الإيطالي خاصة في منتصف العشرينات، فساد الهدوء البلاد لأول مرة منذ فترة طويلة بعد أن تم القضاء على الفوضى العارمة التي كانت تهدد مؤسسات الدولة والأمن العام، كما بدأت الدولة تنظم التعليم وتفرض النظافة والانضباط للشارع الإيطالي، وقد حارب موسوتيكان من خلال التوصل لاتفاقية «لاتيران» الشهيرة والتي نظمت العلاقة بين الفاتيكان والدولة الإيطالية بمنح البابا السيادة الكاملة على هذه الدولة، وقد تنازل الرجل لصالح الكنيسة في هذا الاتفاق خاصة في مجال التعليم الديني ودور الكنيسة في هذا المجال، وذلك رغم أنه كان ناقدا شديدا للدين بصفة عامة والكنيسة الكاثوليكية بصفة خاصة لأسباب مفهومة.

فإذا كان الرجل قد سيطر على الأوضاع الداخلية إلا أنه لم يستطع السيطرة على الأوضاع الخارجية، فسرعان ما ضرب الركود العالمي إيطاليا بكل قوة، فبدأت كل جهوده نحو تحسين الاقتصاد وجذب الدعم الشعبي تتهاوى تدريجيا، وقد راهن موسوليني في سياسته الخارجية على ألمانيا النازية فيما بعد لدعمه سياسيا فتحالف معها وكانت النتيجة محتومة وهي هزيمة إيطاليا عسكريا على أيدي الحلفاء واحتلالها، فخسرت البلاد كل شيء بنته على مدار عقدين من الزمان، ولم تستعد ديمقراطيتها إلا على أيدي قوات الاحتلال.

* كاتب مصري