فتنة الدستور

من جمعية «الغرياني» إلى أروقة المحاكم وميادين التحرير

TT

رحلة شاقة من الجدل الفقهي والقانوني والرفض والقبول، ومخاضات متعثرة ومبتسرة قطعها الدستور المصري الوليد، والذي ينتظر لحظة الإنصاف غدا (السبت) في استفتاء شعبي، يؤكد شرعيته بالتصويت بـ«نعم»، أو يعود أدراجه إلى نقطة الصفر، حاملا صك الرفض بـ«لا»، ووسط مناخ سياسي مثقل بالاضطرابات والصراعات بين شتى القوى السياسية وأطياف المجتمع.

وبعيدا عن التفصيلات المعقدة التي يطلقها فقهاء الدستور وجهابذة القانون، ومن أجل توعية وحث المواطنين على التصويت بـ«لا» على الدستور، الذي أقل ما يقال عنه إنه قسم البلاد بدلا من توافقها، وفقا للمراقبين، دشن شباب حركة 6 أبريل الثورية أنشودة بالعامية المصرية أبرزوا فيها سلبيات مشروع الدستور الجديد من وجهة نظرهم، ومن مقاطعها «قول لأ للدستور.. خلي بلدنا تشوف النور/ نمنا صحينا لقينا الدستور اتسلق.. دخل الحرامي طفى النور وسرق/ حقي وحقك مش مكتوب عالورق/ دستور هبل دستور جنان.. ومفيش علاج بالمجان. لكن زفة المولود الجديد لم تقتصر على طرف واحد فسرعان ما برزت «نعم - آه» لتكون محور إيقاع أنشودة دشنتها التيارات الإسلامية.

وعلى إيقاع هذه الأناشيد التي بدأ صداها يعلو في الشارع يستقبل المولود الجديد جماهير الشعب المصري للاستفتاء على مشروع الدستور كمرحلة أولى في عشر محافظات ومنها القاهرة، على أن يستكمل في باقي المحافظات السبت التالي 22 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وسط مقاطعة نحو 90 في المائة من القضاة للإشراف عليه، وفقا للجمعية العمومية لنادي قضاة مصر، التي اتخذت هذا القرار في اجتماعها الطارئ الثلاثاء الماضي. بالإضافة إلى دعوات إسقاطه من جانب قوى المعارضة المصرية، التي تتزعمها جبهة الإنقاذ الوطني، المؤلفة من عدة أحزاب منها (الدستور، التيار الشعبي، الناصري، الوفد، التجمع، المصري الاجتماعي)، وبقيادة الدكتور محمد البرادعي المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي تصف الاستفتاء بأنه جاء «تحت حد السيف»، ويعتصم أنصارها مع شباب الثورة حاليا في ميدان التحرير وأمام القصر الجمهوري (الاتحادية)، من أجل الضغط على الرئيس مرسي لتأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور حتى يمكن تعديله، وإحداث التوافق عليه أولا.

الدستور الجديد، والذي يتشكل بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) يصفه الفقيه الدستوري الدكتور جابر نصار، أحد أعضاء جمعيته التأسيسية المنسحبين، بأنه «مشوه.. تم سلقه لصالح جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها الرئيس المصري محمد مرسي، بما يخالف كل الثوابت والأعراف الدستورية في مصر والعالم المتحضر»، بينما قال عنه رئيس جمعيته التأسيسية المستشار حسام الغرياني، في آخر جلسة تم فيها التصويت عليه، إن «كل مادة منه استغرقت 300 ساعة في مناقشتها».

لكن حسبة طريفة قام بها المعارضون، أثبتت عدم منطقية هذه المدة التي ذكرها الغرياني. تقول الحسبة (عدد مواد الدستور 236 مادة مضروبة في 300 ساعة للمادة = 70800 ساعة، وإذا قسمناها على 12 ساعة (متوسط العمل في اليوم) = 5900 يوم، وبالقسمة على 30 يوما = 197 شهرا، وبقسمتها على 12 شهرا، سيصبح الإجمالي 16 عاما). بما يعني أن أعضاء جمعية تأسيسية الدستور استغرقوا 16 عاما في صياغته وبشكل متواصل دون راحة!! ورغم الجدل والانسحابات لم تتخل الجمعية التأسيسية عن مهمتها التي استغرقت ستة أشهر، إلا أن الجلسة الختامية لهذه الجمعية كرست كلمة «السلق»، بحسب معارضي الدستور في وصف طريقة صنعه وكتابة مواده الـ236.. يقول الدكتور جابر نصار لـ«الشرق الأوسط»: «ما حدث في الجمعية التأسيسية ليس له مثيل، فأعضاء التأسيسية قاموا بنحر نصوص الدستور، فوضع حزب الأغلبية (الحرية والعدالة) مواد خاصة دون مناقشة أي من القوى السياسية الأخرى حتى لا يشاركه في الدستور ويكون ملكا له».

ويتابع نصار: «جماعة الإخوان المسلمين تريد فرض هذا المشروع على الدولة المصرية، ولعل الطريقة المشؤومة التي تم بها التصويت على هذا المشروع في آخر جلسة توضح ذلك، حيث أضيفت نصوص للمشروع لم تكن الجمعية التأسيسية على علم بها، ولم تتم مناقشاتها في الجلسات الداخلية واللجان الداخلية للجمعية التأسيسية للدستور، وهناك مواد أضيفت لها فقرات».

وبدا واضحا في الجلسة الختامية للدستور، التي انعقدت يوم الخميس 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وانتهت صباح اليوم التالي (الجمعة 30 نوفمبر)، مستغرقة بذلك 19 ساعة متواصلة، أن الجمعية التأسيسية في سباق مع الزمن، حيث أصر المستشار الغرياني رئيس الجمعية على الانتهاء من إقرار هذا الدستور في هذا اليوم وعدم تأخيره لحظة أخرى، رغم انسحاب معظم ممثلي القوى المدنية من الجمعية بالإضافة إلى ممثلي الكنيسة المصرية اعتراضا منهم على مشروع الدستور، ورغم مد رئيس الجمهورية محمد مرسي الجمعية أعمالها لشهريين إضافيين، من أجل إحداث التوافق بين القوى السياسية حوله.

وجاء إسراع الجمعية التأسيسية في إقرار المسودة النهائية، معبرا عن صراع بين الرئيس محمد مرسي وجماعته وبين القضاء، وعلى رأسه المحكمة الدستورية العليا، الذي طالما وصفت من جانب عدد من قيادات من جماعة الإخوان المسلمين بأنها «مسيسة» مبعدين تحفظات على أحكامها. وقد زادت حدة هذا الصراع في يوم 22 نوفمبر بإعلان دستوري أصدره الرئيس المصري محصنا من رقابة القضاء على القرارات الرئاسية والجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، حيث كان متوقعا أن تصدر المحكمة الدستورية العليا حكما بحل الجمعية التأسيسية للدستور، بسبب عدم دستورية تشكيلها وفقا لمقيمي الدعوة، فقرر الرئيس سد هذا الباب على المعارضين والقضاء معا.

وطبقا للمادة 60 من الإعلان الدستوري الصادر في نهاية مارس (آذار) العام الماضي، يشكل أعضاء مجلسي الشعب والشورى المنتخبون (البرلمان) الجمعية التأسيسية للدستور، من أجل إعداد مشروع الدستور الجديد للبلاد، في موعد غايته 6 أشهر من تاريخ تشكيلها، على أن يعرض المشروع خلال 15 يوما من إعداده للاستفتاء الشعبي. وشكل البرلمان (المنحل) في 13 يونيو (حزيران) الماضي الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، من 100 عضو معظمهم ينتمون إلى «التيار الإسلامي»، وهي الجمعية الثانية من نوعها، بعد حل الأولى في أبريل (نيسان) الماضي بحكم قضائي بسبب وجود أعضاء برلمانيين بها. ومنذ تشكيل هذه الجمعية فقد واجهت انتقادات كثيرة من القوى الليبرالية بسبب ما اعتبروه سيطرة للإسلاميين عليها، بالإضافة إلى دعاوى قانونية ببطلانها، حيث يقول قانونيون إن أسباب حل الجمعية الأولى تنطبق على الثانية، بسبب وجود أعضاء برلمانيين بها أيضا (قبل حل مجلس الشعب) وإن كان بنسبة أقل.

يقول الدكتور سمير مرقس مساعد الرئيس المصري لشؤون التحول الديمقراطي (المستقيل)، لـ«الشرق الأوسط»، والذي اعترض على انتخابه في الجمعية التأسيسية الثانية وفضل الانسحاب، بسبب طريقة تشكيلها: «تشكيل الجمعية غير متوازن ولا يعبر عن التنوع الحقيقي في المجتمع المصري»، مؤكدا أن «دستور مصر لا يستحق أن يكون بهذا الشكل، الذي أعد به والذي شابه التسرع والعجلة غير المفهومة»، وقال إنه يفضل أن يسميه «دستور الغلبة».

ويرى مراقبون أنه كان يمكن على الجمعية أن تستغل المدة التي منحها لها الإعلان الدستوري الأخير، قبل إلغائه، وتمد أعمالها لمدة شهرين، لكن وكأن رئيس الجمعية التأسيسية ومن معه من ممثلي التيار الإسلامي، بعد انسحاب هذه القوى، فضلوا الإسراع وتمرير الدستور في غياب أي معارضة. حتى إنه في الجلسة الأخيرة للجمعية للتصويت عليه، والتي تم بثها على الهواء مباشرة، اضطر رئيس الجمعية إلى الاستعانة بأحد عشر عضوا من أعضاها الاحتياطيين، وكلهم من الإسلاميين أيضا، لاستكمال النصاب القانوني للتصويت، بل رفض الغرياني أي مناقشات للأعضاء حول نصوص المواد لإدخال تعديلات، مؤكدا أن هذه الجلسة للتصويت فقط وأن وقت المناقشات والتعديل قد انتهى.

وعكست عملية التصويت تسرع الجمعية بشكل كبير ورغبتها في إقرار الدستور اليوم قبل الغد، فقد شهد إقرار (المادة 139) التي تتعلق بطريقة اختيار رئيس الوزراء جدالا كبيرا عند التصويت، حين حظيت المادة باعتراض 16 عضوا، مما يعطل إقرار هذه المادة، فهدد الغرياني أعضاء الجمعية بأنه في حالة لم تحصل المادة على النسبة المطلوبة سيتم تأجيلها 48 ساعة، وقال: «هل أنتم بعد هذه المعلومة تريدون تأجيل المادة»، ثم أعاد التصويت عليها فاعترض 4 فقط!!.

وتضمن مسودة الدستور الحالية حماية أساسية من الاعتقال والتعذيب دون قرار قضائي كما تضمن بعض الحقوق الاقتصادية. لكن بحسب منظمة «هيومان رايتس ووتش» التي مقرها نيويورك فإنها لم تحظر المحاكمات العسكرية للمدنيين ولم تضمن حرية التعبير وحرية الاعتقاد.

وفي هذا الدستور بقيت المادة الثانية التي كانت في الدستور السابق والتي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، كما نص على استشارة الأزهر الشريف «في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية»، ونص على أن «شرائع غير المسلمين من أتباع الديانات السماوية تطبق على أحوالهم الشخصية وممارسة شعائرهم واختيار قياداتهم الروحية».

وأضيفت مادة مثيرة للجدل والنقض، حيث لم تكن في الدساتير السابقة تفسر مبادئ الشريعة بأنها «تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة». ونص الدستور الجديد على حرمان أعضاء قياديين في الحزب الوطني الديمقراطي المنحل بحكم قضائي والذي كان يحكم مصر في عهد مبارك من حقوقهم السياسية، حيث تذكر المادة 232: «تمنع قيادات الحزب الوطني المنحل من ممارسة العمل السياسي والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور، ويقصد بالقيادات كل من كان عضوا بالأمانة العامة للحزب أو بلجنة السياسات أو بالمكتب السياسي أو كان عضوا بمجلس الشعب أو الشورى في الفصلين التشريعيين السابقين على ثورة الخامس والعشرين من يناير».

الفقيه الدستوري المستشار طارق البشري، رئيس اللجنة التي صاغت الإعلان الدستوري المعمول به حاليا والذي صدر في مارس 2011، ومهدت لكتابة هذا الدستور الجديد، يقول في تحليله لمسودة الدستور: «هذا الدستور تضمن عددا من الألغام والنقاط الشائكة، لا يجب تجاهلها، ولعل أبرزهما مسألتين أظنهما على مستوى مهم من الأهمية والخطورة، لا في أثرهما كأحكام دستورية فقط، ولكن فيما ينبئان عنه من منهج غير حميد، يخشى من إتباعه مستقبلا في شتى الأمور».

ويؤكد البشري: «إن هذين الأمرين وردا في آخر نصوص المشروع، وكأنهما تركا للنهاية حتى يغفل عنهما الحاضرون ولا يفطنوا إلى ما يدلان عليه من خلل عميق في الاستقامة النهجية لدلالتهما.. وهما المادتان المتعلقان بالمحكمة الدستورية، والأخرى الخاصة بالعمال والفلاحين».

وتنص المادة (233) على «يستمر رئيس المحكمة الدستورية العليا وأقدم عشرة أعضاء بالعمل في المحكمة، على أن يعود باقي الأعضاء إلى أماكن عملهم التي كانوا يعملون بها قبل تعيينهم بالمحكمة».

ويشرح البشري هذه المادة، قائلا: «إذا كانت المادة 176 (من نفس الدستور) قد حددت تشكيل المحكمة الدستورية برئيس وعشرة أعضاء فقط، فإن هذا يعني، والحديث على لسانه، أن المادة 235 فصلت ما يزيد من قضاة المحكمة على العشرة، من وظائفهم بها ونقلتهم إلى وظائف أخرى»، بما يعني أن مشروع الدستور الجديد تضمن قرارا بعزل قضاة من المحكمة الدستورية من وظائفهم.

ويتساءل: «أليس في ذلك نوع من التدليس؟»، مشيرا إلى أن «وجه التدليس أنك تفصل قضاة بأسمائهم في صيغة نص دستوري شديد العمومية والتجريد، وتختلس عليه موافقة الناخبين دون أن يدركوا»، مؤكدا أن «الدستور الذي سيستفتى عليه الشعب سيعزل قضاة من المحكمة الدستورية ويكون لرئيس الجمهورية من بعد سلطة التعيين في هذه المحكمة، فيحمل هذا الدستور الديمقراطي الناتج عن إرادة الشعب وثورته، وصمة الاعتداء على السلطة القضائية في تشكيل من أعلى تشكيلاتها، مع أن من أهم المطالب الديمقراطية ومن أهم خصائص الدستور الديمقراطي أن يصون مؤسسة القضاء ويحصن قضاتها». ويشدد البشري على أن مشروع الدستور المطروح الآن قد تجرد في المادة 176 من هذا الحكم بما يتيح من جديد عودة السلطة الطليقة لرئيس الجمهورية في تعيين رئيس المحكمة وقضاتها على ما كان عليه الوضع قبل الثورة، ويكشف ذلك عن أن ثمة تخطيطا لإقرار أوضاع قانونية تكفل لرئاسة الجمهورية نوعا من الهيمنة على القضاء الدستوري.

أما المادة الثانية، التي استنكر البشري وجودها في مشروع الدستور الجديد، فهي المادة (229) المتعلقة بإبقاء نسبة 50 في المائة للعمال والفلاحين في البرلمان لمدة دورة برلمانية واحدة. يقول: «مناقشات الجمعية التأسيسية لوضع الدستور لم تأت فقط خالية من تبنى هذا الموضوع أو أثارته والتمسك به بوصفه تقليدا تشريعيا دستوريا، وبوصفه يمثل إتاحة لحق التعبير والمشاركة في التقرير لأصحابها، ولكن هذه المناقشات تكاد تكون كشفت عن أن الغالب من أعضاء الجمعية التأسيسية كانوا متواصين على إسقاط هذا الحق في صمت وكتمان، وكادوا يكونون متفقين على ذلك، وكان كلما أثار أحد الأعضاء القليلين هذا الأمر، يجرى الحرص على تأجيله على وعد لا يتحقق أبدا بمناقشته فيما بعد».

ويشير البشري إلى أن هذه المادة، تعترف بحق العمال والفلاحين الوجود في المجلس وفقا لنسبة الـ50 في المائة لدورة واحدة فقط، مع تعريف لكل من العامل والفلاح لا يفيد ضبطا ولا تحديدا، مع إسقاط هذا الحق بانتهاء الدورة البرلمانية الأولى مباشرة، ولو لم تكمل سنواتها الخمس، مضيفا أنه مع إسقاط هذا الحق الذي كان معترفا به دستوريا للجماهير الغفيرة في مصر، فإن تشكيل مجلس البرلمان أيضا بالغ في الترفع غير المحمود وفى النخبوية التي وصفها بـ«المذمومة» لأنها تقوم معزولة عن جماهير الشعب المصري، حيث لم يكتف التشكيل البرلماني بأن يشترط في المرشح لعضوية مجلس النواب أن يكون عارفا بالقراءة والكتابة، كما كانت النظم الدستورية في مصر تكتفي منذ 1923، بل أضاف لأول مرة في التاريخ الدستوري المصري أن يكون المرشح لمجلس النواب حاصلا على «شهادة إتمام التعليم الأساسي»، مما تفتقده نسبة كبيرة من المصريين، نسبة لا يحق لأحد تجاهل أهلها ووجودهم وحقهم في المساهمة في شؤون بلادهم.

وقال البشري في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إن من ضمن ملاحظاته على نص الدستور، تلك المواد المتعلقة بوضع رئيس الجمهورية، وهى تشمل عدة نقاط، ومنها نص المادة (132) التي ذكرت أن «رئيس الجمهورية يراعي الحدود بين السلطات»، مؤكدا أن «هذا يمكن أن يجوز في النظم الديمقراطية». وأضاف «هذه العبارة وضعت لتمكن الرئيس من ألا يكون رئيسا للسلطة التنفيذية فقط ولكن أن يكون فوق السلطات وليس رئيس السلطة التنفيذية فقط، وبالتالي هو نص يبرر الطغيان لرئيس الجمهورية من بعد». كما أن المادة 150 من الدستور تمكن رئيس الجمهورية من «أن يدعو الناخبين للاستفتاء في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح الدولة، وأن نتيجة الاستفتاء ملزمة لجميع سلطات الدولة وللجميع في كل الأحوال».

النقطة الأخرى في اعتراضات البشري على مواد رئيس الجمهورية في الدستور، تلك التي تتعلق بشروط الترشيح لرئيس الجمهورية، وهي أن يكون مصريا من أبوين مصريين، فهي بذلك تسمح للرئيس أن يكون مزدوج الجنسية يحمل مع الجنسية المصرية جنسية دولة أخرى حلف لها يمين الولاء وأقسم بانتمائه لها، وهي تجيز له أن يكون من أبوين مزدوجي الجنسية، وأن يكون متزوجا من أجنبية، رغم أن الدبلوماسيين حتى من أصغر الرتب ممنوع عليهم التزوج من أجنبية، فما بالك برأس الدولة الذي يمثلها بين دول العالم أجمع، ورغم أن العسكريين حتى من أصغر الرتب ممنوع عليهم ذلك أيضا، فما بالك بالقائد الأعلى للقوات المسلحة.

ويتابع البشري: «الغريب أن مشروع الدستور ذاته الذي أجاز لمزدوج الجنسية أن يكون رئيسا للجمهورية قد حرم رئيس الوزراء والوزراء من أن يكون أي منهم مزدوج الجنسية وشرط فيهم جميعا أن يكون مصريا غير حامل لجنسية دولة أخرى.. وأن التناقض بين النص واضح».

من جانبه، يقول الدكتور زياد بهاء الدين، الخبير الاقتصادي، العضو المنسحب من الجمعية التأسيسية للدستور، في إحدى دراساته المنشورة مؤخرا، والتي فند فيها أسباب رفض للدستور، إن «الخلاف حول الدستور الجديد تم تصويره على موضوع الشريعة الإسلامية كما لو كان خلافا على قيمة الشريعة ذاتها أو على العقيدة، بينما الحقيقة أن القضية تتعلق بمسألة قانونية محضة، وهى ما إذا كان التشريع يظل في يد البرلمان المنتخب وحده والقضاء في سلطة المحاكم وحدها، أم تكون هناك مرجعية جديدة لهيئة كبار علماء الأزهر وأن يكون لأحكام الشريعة تعريف قانوني محدد».

ويوضح بهاء الدين: «لقد كان هناك من البداية، ولا يزال، اتفاق تام بين جميع الأطراف السياسية على المادة الثانية من دستور 1971 والتي كانت تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، أما مشروع الدستور الجديد فقد كرر ذات المادة، إلا أنه أضاف أمرين جديدين: الأول هو نص المادة (4) بأن (يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية)، والثاني هو المادة (219) التي عرفت الشريعة الإسلامية بأنها تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة، والمشكلة أن هذه النصوص الثلاثة، مجتمعة، تغير من طبيعة النظام القانوني المصري من نظام تكون الشريعة الإسلامية فيه مصدرا رئيسيا للتشريع (أي يحتكم لمبادئها عند وضع القوانين الصادرة من البرلمان) إلى نظام غير واضح المعالم من حيث من تكون له المرجعية الأخيرة في التشريع والتفسير: البرلمان المنتخب؟ أم هيئة كبار العلماء؟ أم المحاكم والسلطة القضائية؟ الخلاف إذن على الطبيعة القانونية للدولة ولا شأن له بالشريعة أو بالعقيدة، ولكن تم تصوير الأمر على أنه صراع بين أنصار الشريعة وأعدائها من أجل تحقيق مكاسب جماهيرية وسياسية لا شأن لها بالموضوع الدستوري أصلا».

وأضاف: «الدستور الذي كان مأمولا أن يحقق مكاسب واضحة للشعب المصري في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتنمية البشرية، يتضمن في الواقع كل الجمل الإنشائية المعتادة دون أن يلزم الدولة بمعايير أو مستهدفات محددة، وبالتالي لا يقدم جديدا، ولا يحمي المساواة بين المواطنين ولا يمنع التمييز بينهم، وأبقى على مجلس الشورى، رغم أنه لم يعد له داع، خاصة أنه سيتم انتخابه وفقا لذات النظام الانتخابي لمجلس النواب، وبالتالي يصبح لدينا مجلسان منتخبان بنفس الطريقة ولهما تقريبا ذات الصلاحيات».

أما عن وضع القوات المسلحة في الدستور، فقد جاء أقل من البدائل التي طرحتها القوى السياسية، فبعد أن كان مبدأ عدم جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري قد بدا أنه استقر، إذا بالمادة (198) تتجاهل كل ذلك وتعيد العمل بجواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة، على نحو يفتح الباب على مصراعيه أمام عودة ولاية القضاء العسكري على المجتمع المدني، وفيما يتعلق بموازنة القوات المسلحة، فقد تجاهلت المادة (197) الكثير من البدائل والأفكار المتوازنة والمعمول بها في بلدان العالم، للحفاظ على التوازن بين حق الشعب في الرقابة على مالية الدولة واعتبارات الأمن القومي، واختارت إعطاء حق مناقشة موازنة القوات المسلحة لمجلس الدفاع الوطني وحده، الذي لا يضم من السلطة التشريعية سوى رئيسي مجلسي الشعب والشورى.