«حلم» الصين العظيم

صممت جوازات سفر جديدة تضم خريطة ما يعرف بـ «الصين الكبرى».. فأغضبت الجيران

TT

قامت الدنيا ولم تقعد.. واعترضت غالبية الدول الآسيوية على ما سمته بحادثة «اغتصاب الأرض» الذي قامت به بكين عندما وضعت علامة مائية جديدة على جوازات السفر الصينية التي أصدرتها مؤخرا ضمت مناطق متنازع عليها إلى السيادة الصينية. الخطوة أثارت غضب دول الدول الجوار الآسيوية وقلقا بشأن دوافع بكين.

أعاد الصينيون تصميم جوازات السفر الجديدة لتضم خريطة ما يعرف باسم «الصين» الكبرى، التي تضم البر الرئيسي في الصين وتايوان وبحر الصين الجنوبي إضافة إلى المنطقة التي تزعم الفلبين وفيتنام وبروناي وماليزيا وبعض أجزاء الهند وبوتان تبعيتها لها. كانت للصين مزاعم دائمة بالسيطرة على بحر الصين الجنوبي ومجموعة من الجزر قبالة ساحل اليابان. وعلى صعيد ذي صلة، دخلت الصين واليابان في نزاع على خمس جزر غير مأهولة، تعرف باسم دياو في الصين وسينكاكو في اليابان. بيد أن هذه الجزر لم تكن بين الخرائط المثيرة للخلاف. من ناحية أخرى لم يكن قرار بكين في إصدار جوازات سفر بيو مترية، تمثل ما تعتبره حدودا برية أصيلة لجمهورية الصين الشعبية، إجراء إداريا عاديا، بل هي خطوة علنية وتصعيدية مهمة باتجاه تنفيذ نواياها. وقد كشفت بكين صراحة عن طموحاتها في وقت تتزايد فيها قواتها العسكرية بشكل سريع وتجتهد لتصبح القوة الأبرز في المحيط الهادي في آسيا.

كانت الصين تراجع سياستها الخاصة بدول الجوار منذ العام الماضي، باستراتيجيات عسكرية صينية وبالتوصل إلى مفهوم يؤكد على أن سياسة استرضاء دول الجوار وتنحية الخلافات غير فاعلة. وأوصوا بضرورة استبدالها بأخرى ممتزجة بتعاون مع التزامات ذات مصداقية لاستخدام القوة. وأكدوا على أن مبدأ السيادة والمصالح الوطنية طويلة المدى تأتي على رأس أولويات الصين. وقد أعلنت القيادة العسكرية الصينية الجديدة عن تأييدها لهذه لسياسة الجديدة.

وعلى الرغم من إصدار جوازات السفر الجديدة في مايو (أيار)، فإن وسائل الإعلام لم تسلط عليها الضوء إلا في الآونة الأخيرة عندما أشيع على نطاق واسع أن كل صفحة من صفحات جواز السفر الجديد به خلفية مختلفة تظهر تايوان ومجموعة جزر سبراتلي أند باراسل ومناطق الهمالايا المتنازع عليها مع الهند.

تشهد العلاقات في الوقت الراهن توترا نتيجة المواجهات في بحر الصين الجنوبي، حيث تزعم الصين سيادتها على عدة جزر استراتيجية، حتى أنها أرسلت قوارب حربية لتعزيز الموقف العدائي. لكنها كشفت الآن عن طموحاتها الحدودية صراحة في الخريطة المطبوعة داخل جوازات السفر الصينية الجديدة التي تضم بحر الصين الجنوبي بأكمله.

ويحذر الخبراء من إمكانية تقويض الخطوة الصينية الجديدة للتوازن الدقيق للعلاقات الثنائية مع دول الجوار في آسيا على نحو خطير. واقتصر رد فعل الدول الغاضبة تجاه التحرك الصيني، في الوقت الراهن، على التصريحات واتخاذ الإجراءات البيروقراطية المعتادة للتعامل مع جوازات السفر التي أثارت المشكلة، حيث ردت فيتنام برفض منح تأشيرات دخول على هذه الجوازات وأصدرت بدلا من ذلك تأشيرات على أوراق منفصلة فيما ألغت الأصلية.

بينما التزمت الفلبين بموقف أكثر حيادية حيث آثرت الترقب وانتظار تحرك الدول الأحرى ثم سارت على نهج فيتنام وبدأت في رفض منح التأشيرات على جوازات الزوار الصينيين الوافدين إلى مانيلا، لتصدر عوضا عن ذلك وثائق مستقلة خشية أن يؤدي ذلك إلى تعزيز المزاعم الصينية بشأن سلسلة جزر سبراتلي إذا اعترفت بجواز السفر الجديد.

لم تعترف تايوان بجواز السفر الصيني على أي حال، وحصل الزائرون الصينيون المقبلون إلى الجزيرة على وثائق سفر خاصة. أما بوتان فلم تقم أي علاقات دبلوماسية مع الصين حتى الآن.

وعلى الرغم من تعبير بعض الدول الأخرى عن غضبها وحنقها رفضت الهند هذا التحرك الصيني واتخذت خطوة أكثر جرأة وعرضت إحدى الخطط الأصلية. فقد بدأت السفارة الهندية في بكين إصدار تأشيرات مطبوع عليها خريطة الهند تضم المناطق المتنازع عليها في شمال شرقي ولاية أرونكال براديش وهضبة أكساي تشين في أقصى شمال الشطر الهندي من كشمير.

ما أثار المشكلات على نحو خاص كان قرار الصين ضم أجزاء من الهند في نسختها المطبوعة من خريطة الصين الأكبر الجديدة. ويأتي هذا في أعقاب الذكرى الخمسين للحرب الهندية الصينية عام 1962. ويعد جواز السفر الجديد تأكيدا واضحا على الحدود الإقليمية كما تراها الصين، وبات واضحا أنه يعكس حدود الدولة الصينية التي جاءت ضمن الخريطة التي نشرتها الصين عام 1954، والتي لا تزال تدرس في الصين حتى اليوم. كانت هذه الخريطة جزءا من كتاب بعنوان «مختصر تاريخ الصين الحديث»، الذي يزعم أنها تضم أراضي الصين التي استولت عليها الدول الاستعمارية في عهد الثورة الديمقراطية القديمة (1840 - 1919). وتضم الخريطة دول نيبال وسيكيم وبوتان، وشمال شرقي الهند الذي يتألف من ولايات آسال وإن إي إف إيه وولاية ناغالاند، وجزر أندامان وبورما.

وقال سلمان خورشيد، وزير الخارجية الهندي: «نحن غير مستعدين لقبول ذلك، ومن ثم فنحن نؤكد أن الخلافات ستستعر بمجرد أن يحدث شيء. يمكننا التوصل إلى حل للمشكلات بصورة مقبولة أو قد يتعذر التفاهم فلا يكون هناك سوى الوسائل غير المرغوب بها».

كانت الهند والصين قد دخلتا في مواجهات عسكرية حدودية عام 1962 في منطقة أروناكال براديش الجبلية ومنطقة الهيمالايا في آكساي تشين، حيث لم يجر ترسيم المنطقة الحدودية غير المأهولة على الأرض. وتتسم هذه المنطقة النائية بتضاريسها الوعرة التي يتعذر على الشرطة الوصول إليها وهو ما سمح لبكين ببناء واحد من أكثر الطرق ارتفاعا على الإطلاق في العالم في منطقة آكساي تشين. لم تكتشف نيودلهي وجود الطريق إلا بعد الإعلان عن بنائه في الصحافة الصينية.

وكانت الصين قد رفضت في الماضي مزاعم السيادة الهندية على كل من جامو وكشمير وقامت بإصدار تأشيرات للكشميريين على أوراق مستقلة تعترف بكشمير منطقة متنازع عليها، في الوقت الذي رفضت فيه بشكل واضح منح تأشيرات لسكان منطقة أرونكال براديش.

ويشير أدواي بهاسكار، المحلل السياسي في الهند إلى أن جوازات السفر الصينية الجديدة تسببت في ردود فعل قوية من دول آسيان، اتحاد دول جنوب شرقي آسيا، وأشعرتهم بالحاجة إلى اتخاذ موقف حاسم، وهو ما يعتبر تطورا غير مسبوق، إذ إنها المرة الأولى التي تقوم فيها إحدى هذه الدول بنقش خارطتها الخاصة على جواز السفر. وقد أثار التحرك الصيني ردود فعل قوية من جانب الهند التي انتهجت نفس الأسلوب في الرد على الصين.

ويعتقد بهاسكار أن الصين شرعت في شيء دون منطق استراتيجي يدعمه.

وأكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينغ في تصريحات للصحافة أن هذه الخرائط أو الصور المطبوعة في جوازات السفر الجديدة، التي استقر عليها اختيار السلطات الصينية، تم اختيارها بعناية.

وقالت في إشارة إلى أن بكين لن تحيد عن موقفها، وفي محاولة خفية لتحويل اللوم عن أي اضطرابات في العلاقات الثنائية التي تتسبب فيها الأعمال الاستفزازية الصينية: «نأمل أن تأخذ الدول المعنية موقفا عقلانيا ومعقولا لتجنب التسبب في اضطراب العلاقات الطبيعية الهندية الصينية. والخريطة الصينية التي على جواز السفر غير موجهة ضد دولة بعينها، فالصين ترغب في التواصل مع الدول المعنية ومواصلة تعزيز العلاقات الثنائية مع جميع الأطراف».

وتبدي دول جنوب شرقي آسيا هي الأخرى مخاوف بشأن الصين وأن ذلك قد بدا واضحا في الاجتماع الذي عقدته دول جنوب شرقي آسيا مؤخرا في كمبوديا، عندما شكا قادة الفلبين وسنغافورة وفيتنام من التهجم الصيني، بل الاعتداء والسعي وراء مصالحها الاقتصادية في المنطقة، ووجودها العسكري الضخم في بحر الصين الجنوبي.

بينما تشهد بعض الدول في المنطقة سياسات توسعية، يشهد كثير من الصينيين استردادا لأراضٍ. إن رؤية بكين يعاد صياغتها. وينظر إلى «الصين العظمى» على نطاق واسع بوصفها أحد الاهتمامات المحورية للدولة. ومدفوعة بصعود القومية الصينية التي تتطلب مزيدا من السيطرة القوية على الأجزاء الصغيرة المتنازع عليها من الأراضي، دخلت بكين في عدد من المطالبات المتشابكة بملكية أراض عبر منطقة آسيا - المحيط الهادي، بدءا من جزء مهجور من جبال الهيمالايا إلى عدة أجزاء صخرية نصف مغمورة بالماء في بحر الصين الجنوبي.

ويقول مجلس شؤون البر الرئيسي في تايوان، وهو الهيئة الوزارية المسؤولة عن العلاقات مع بكين: «هذا جهل تام بالحقائق ويثير فقط نزاعات». وقال المجلس إن «الحكومة لن تقبل بتلك الخريطة».

وانشقت تايوان عن الصين بعد حرب أهلية اندلعت في عام 1949. وقد طالبت الصين بأحقيتها فيها منذ ذلك الحين. وأصبحت العلاقات بين البلدين التي شهدت تحسنا خلال الأعوام القليلة الماضية مهددة الآن.

وأخبر وزير خارجية الفلبين، ألبرت ديل روساريو، الصحافيين في مانيلا بأنه قد أرسل رسالة موجزة إلى السفارة الصينية يشير فيها إلى أن بلده «تعارض بشدة» ذلك المشهد. وقال إن مطالبات الصين تضمنت منطقة تعتبر «بشكل واضح جزءا من الأراضي الفلبينية ونطاق البر الرئيسي».

وجاء رد فعل فيتنام مماثلا. فقد بعثت بالمثل برسالة دبلوماسية إلى السفارة الصينية في هانوي. وفي الرسالة، شدد المسؤولون على ضرورة أن تزيل بكين «المحتوى المغلوط»، على حد تعبيرهم.

إن طباعة خريطة في جواز سفر وهو ما تعتبره دول أخرى إجراء غير صحيح هو إجراء تحريضي على وجه الخصوص، من الناحية الدبلوماسية، لأن تلك الدول مجبرة على ختم الخريطة، وبالتبعية التصديق على المحتوى.

وتؤكد دول جنوب شرقي آسيا على مواقفها بصورة دبلوماسية قدر الإمكان. إنه إجراء يهدف لتحقيق التوازن. فهي تعلم أنه من الحصافة من الناحية الاقتصادية بالنسبة لها أن تحافظ على علاقاتها بالصين، لكنها متمسكة بمواقفها وثيقة الصلة بشأن القضايا الإقليمية.

وعلى الرغم من علمها بجواز السفر الجديد، وتأثيره على العلاقة بالهند واتحاد دول جنوب شرقي آسيا (أسيان)، أصدرت الحكومة الصينية قرابة 6 ملايين جواز سفر جديد. وقال إس دي برادهان، نائب سابق لمستشار الأمن القومي في الهند والذي ترأس أيضا لجنة الاستخبارات المشتركة في الدولة، إن الصين استمرت على مدى أعوام كثيرة في شن «هجوم متعلق برسم الخرائط».

وفي تعليق له، وجه برادهان للصين تهمة «التدخل السافر» في مناطق الحدود الهندية، و«القيام بأنشطة جريئة مثل تدمير ملاجئ تحت الأرض أو حفر كلمة (الصين) على الصخور الهندية أو إزالة علامات تعيين الحدود». وأشار أيضا إلى أنه كانت هناك «الكثير من المواجهات التي تعكس الأبعاد الخطيرة للموقف».

وأضاف برادهان: «أعتقد أنها خطوة خبيثة جدا من جانب بكين من بين آلاف الإجراءات الحاقدة».

إن كلا الطرفين قلق من الآخر لمجموعة معقدة من الدوافع الموروثة، والتي قد أضيف إليها الآن الجوانب الجذابة الحالية للعولمة، حسبما يشير بهاسكار. وقال: «إن هذا يحدث بالفعل، لكن الآن باتت الهند والصين متورطتين في هذه القضية الغريبة المتعلقة بجوازات السفر، حيث دخلت النزعة الإقليمية المجال الدبلوماسي». وعلى الرغم من ذلك، فإنهما في الوقت نفسه مشتركتان في حوار اقتصادي استراتيجي، يعتبر دليلا على الأوجه المتعددة للعلاقة التي تربط بينهما، حسبما يوضح بهاسكار.

ويشرح قائلا: «لا أرى أي من دول اتحاد آسيان أو دول جنوب شرقي آسيا قادرة على تبني موقف أكثر حسما تجاه الصين نظرا لأن جميعها تربطها علاقات تجارية واقتصادية قوية بالصين، وتعتبر تابعة لها».

وبالنسبة لتي سي إيه رانغاتشاري، مدير قسم دراسات العالم الثالث بالجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي، لا يمكن أن تبقى الهند غافلة عن حقيقة أن النفقات العسكرية الصينية أكبر من نفقات الهند والصين مجتمعة، ومع نمو الاقتصاد، سوف تصبح الصين دولة أقوى من الناحية العسكرية.

علاوة على ذلك، فإن ما ترمز إليه المنافسة بين الصين والهند وأعضاء اتحاد آسيان هو انهيار البحرية الأميركية كقوة عسكرية مهيمنة أحادية الجانب في منطقة المحيط الهادي ما بعد الحرب وظهور بيئة جيوسياسية متعددة الأطراف أكثر تعقيدا مع الثقل الذي سيلقي به كل لاعب من الدول على الطاولة.

إن ما لا تتمناه الصين على وجه التحديد هو أن تدفع مطامحها الإقليمية البارزة في جواز سفرها الجديد القوى الأقل تنافسا إلى الارتماء في أحضان الولايات المتحدة للاتحاد ضد بكين بوصفها تمثل تهديدا مشتركا.

فقط هذا الواقع السياسي الصريح يمكن أن يدفع هؤلاء الأعداء العنيفين أمثال فيتنام والولايات المتحدة للاتحاد أو يشجع الهند التي «مالت» من قبل إلى كفة الاتحاد السوفياتي إلى الميل نحو كفة واشنطن. والسؤال هو: إلى أي مدى تبدو الصين عازمة على تحقيق مصالحها، بما فيها مطالبها الإقليمية؟