الدولة الآشورية بين العنف المفرط والفقر الثقافي

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تعد الدولة الآشورية نموذجا فريدا لحضارات ما بين النهرين، فهي لم تقدم للإنسانية جزءا مما قدمته الدولة السومرية من حيث الثقافة والحضارة والفكر، كما أنها لم تستطع منافسة الدولة البابلية الأولى أو الثانية في أي إنجازات لها، فهي دولة تكاد آثارها الحضارية تختفي من خريطة الحياة الفكرية للإنسانية، فلقد اعتمدت في الأساس على القوة العسكرية، فلم تستطع أن تقدم الكثير سوى الاحتلال والعنف واستغلال الدول الأخرى، فالقارئ لتاريخها سيدرك من الوهلة الأولي أنها دولة تشبه بشكل كبير دولة إسبرطة في اليونان ولكنها كانت تسبقها بمئات السنين، وليس من المستبعد أن تكون قد تأثرت بالفعل بالدولة الآشورية من خلال التجارة وانتقال الأفراد.

تذكر المراجع التاريخية أن الدولة الآشورية ترجع نشأتها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، حيث قامت بعض القبائل باستيطان منطقة آشور الواقعة في شمال سهل ما بين النهرين، والثابت أن هذه المنطقة لم تكن غنية بالزراعة مثل جنوب البلاد، بل إن شظف العيش كان السمة الرئيسية لهذا الشعب في هذه البقعة الجغرافية، وهو ما اضطره للتوسع خارج نطاق إقليمه الضيق، ولكن حركته تجاه الاستعمار الخارجي لم تكن إلا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد للبحث عن الخير في دول الغير، وسرعان ما سادوا منطقة السهول الشمالية بالكامل، ثم توجهوا جنوبا في محاولة منهم لإخضاع المناطق الزراعية الغنية، وبالفعل استطاعت الدولة الآشورية أن تُخضع الكثير من الدول الأخرى في وقت سريع، وبدأت تؤثر على حضارات قائمة منها الحضارة المصرية، ولكنها لم تستطع أن تقضي على مملكة يهودا (Judea) والتي استعصت عليها لأسباب مختلفة، ولكن العهد القديم أورد في إصحاح الملوك 19:35 أن السبب في ذلك يرجع إلى أن الإله أرسل ملائكة من عنده قامت بذبح الجيش الآشوري والذي كان يقرب من 185 ألف مقاتل.

حقيقة الأمر أن هذه الدولة كانت فريدة في التاريخ القديم، فهي دولة عسكرية مبنية على فكرة القوة والجيش، فالجندية كانت أهم سمة من سمات هذا المجتمع، فحلم أي شاب هو التدرج العسكري ليصبح قائدا عسكريا، فهذه الطبقة من المجتمع كانت أعلى طبقات السلم الاجتماعي، وقد حُرم على مواطني هذه الدولة من الذكور أن يعملوا إلا في العسكرية أو الزراعة، أما باقي المهن فكانت متروكة للشعوب التي احتلوها أو العبيد في تشابه ملحوظ مع النمط الإسبرطي، وهو ما يعكس تركيز سياسة الدولة على الجهد العسكري وتقوية الجيش، مما ضمن لهم آلة عسكرية قوية تستطيع أن تخضع أعتى الجيوش، وقد استثمرت الدولة الآشورية كثيرا في تقوية الجيش باعتباره حامي الدولة وقوتها الداعمة، فكان لديهم دائما التقدم العسكري والعلمي الذي يخدم هذا القطاع، ولكن الثابت أن هذه الدولة اتبعت وسائل قاسية وغير إنسانية لإرهاب الدول والجيوش التي كان من المقرر أن تواجهها، فلقد كان من المتبع أن يتم حرق الأسرى أو تقطيع أطرافهم وتعليق جثثهم أو تعذيبهم على مرأى ومسمع من الجميع ليكونوا عبرة أمام الشعوب الأخرى التي تسعى لمقاومتهم، وهكذا وصلت قوتهم التوسعية إلى أوجها بحلول القرن السابع قبل الميلاد باحتلال أجزاء كبيرة من منطقة ما بين النهرين.

ومع ذلك فإن الثقافة والحضارة لم تكونا هدفين في حد ذاتهما للدولة الأشورية، فالتوجه العسكري طغى على كل شيء، حتى إنهم لم يكن لديهم اهتمام بالعلوم أو الهندسة أو غيرهما باستثناء الطب والصيدلة لأسباب متعلقة بالجيش، ويستثنى من هذا الفقر الثقافي الفن الآشوري والذي كان مستخدما بشكل كبير لوصف الحروب أو الرياضة دون غيرهما من الأمور التي تخص الحياة، فلقد كان الآشوريون من أكثر الثقافات امتصاصا للثقافات الأخرى دون أن تكون لهم قيمة مضافة، فلم يكن لها طابعها المميز، اللهم إلا في بعض التوجهات المعمارية.

ونظرا للطبيعة العسكرية المسيطرة على هذا المجتمع، فلقد كان هناك الكثير من القوانين التي كانت تخدم هذا التوجه، فعلى الرغم من أن الآشوريين قد سعوا لاقتباس «قانون حمورابي» من الحضارة البابلية نقلا عن الحضارة السومرية، فإنهم عدلوه لخدمة عسكرة الدولة، فلقد خفضوا حالات تطبيق عقوبة الإعدام ولم تطبق إلا على حالات محددة أهمها الإجهاض، فلقد كان محظورا على المرأة أن تجهض نفسها، والسبب في ذلك لم يكن دينيا على الإطلاق، ولكن لرغبة الدولة في أن تكون لها نسبة مواليد مرتفعة تستطيع من خلالها أن تنمي قوتها العسكرية مقارنة بغيرها من الشعوب لتضمن السيادة العسكرية، وقد سمحت هذه الحضارة بتعدد الزوجات وكل ما كان من شأنه أن يزيد من عدد السكان، كما أنها فرضت على الزوجات تغطية الرأس دون غيرهن من النساء كنوع من الفضيلة والعفة.

لقد أبقت الدولة الآشورية حياتها المتوسعة لقرابة سبعمائة عاما عاشت خلالها أقوى مراحلها ما بين الدولتين البابليتين، وقد استطاعت الدولة البابلية الحديثة أن تكسر سلطتها العسكرية في عام 612 قبل الميلاد وهو العام الذي سقطت فيه هذه الدولة غير مأسوف عليها على أيدي أحد محافظي هذه الدولة في الجنوب والذي يدعى «نابوبالاسار» والذي استطاع أن يحتل «نينيفي» عاصمة هذه الدولة ليبدأ الدولة البابلية الحديثة على أنقاض الدولة الآشورية.

والثابت تاريخيا أن نهاية هذه الدولة جاء سريعا وعنيفا للغاية، فلقد انهارت الدولة تماما في زمن قياسي، وقد لجأت الشعوب المجاورة لقتل الآشوريين بمجرد سقوط دولتهم، فتم تشتيت المجتمع الآشوري بكل وحشية وقمعية وعنف، فبيعت النساء والأطفال كعبيد، بينما قُتل الرجال، خاصة العسكريين منهم، فلقد انتقمت الشعوب المجاورة من الحكم الآشوري المستبد بكل ما أوتيت من قوة، حتى أنه تم محو الكثير مما يربط هذه الدولة بالتاريخ باستثناء بعض الألواح والجدران، فلقد دفع الآشوريون ثمن حياتهم العسكرية المتعالية، فعاشت هذه الدولة بالقوة وبظلم واستعباد وتسخير الشعوب التي حولها حتى فتكوا بها، فعاشت بالعنف وماتت بالعنف المضاد، وهذه هي سنة الحياة، فالعسكرية والقوة ليستا السبيل لحياة الأمم ولكنهما وسيلتان، فأعظم الأمم هي التي تتعايش مع من حولها، وأضعف الأمم هي التي تسعى لتسخيرهم، فالإفراط المستمر في القوة كثيرا ما يكون مكمن ضعف يدفع الأجيال التالية ثمنه، وعبرة الآشوريين واضحة لمن جهل بالتاريخ وكفر بالسياسة.

* كاتب مصري