مرض «العم جلال» يفتح معركة مبكرة

تجاذبات في بغداد والسليمانية حول منصبي رئيس الجمهورية وزعامة «الاتحاد الوطني» الكردستاني إذا استمر غياب الرئيس طالباني

TT

مكاشفة الزعيم الكردي مسعود بارزاني لشعبه.. ولأنصار الحزب الاتحاد الوطني الذي يقوده الرئيس العراقي جلال طالباني، بالحالة الصحية لزعيمهم المريض، الذي يعالج في أحد المستشفيات الألمانية، واعتبار وعكته انتكاسة «جدية» وضع هذا الحزب في مواجهة تحد خطير مرة أخرى، قد لا تكون بمستوى التحديات السابقة التي واجهها عبر المسيرة النضالية والسياسية الطويلة، ولكنها، لن تمر مرور الكرام. كما أن بغداد التي تعج بالمشكلات الأمنية، والصراعات بين القوى السياسية، هي الأخرى ستدخل في نفق سياسي، في ظل التراشقات الكلامية والجدل السابق لأوانه حول من سيخلف الرئيس.

فعلى الرغم من التقارير الطبية المطمئنة عن صحة طالباني، الذي يحلو للأكراد تسميته بـ«مام جلال» (العم جلال)، تشير إلى إمكانية تجاوزه هذه الأزمة الصحية (الجلطة الدماغية) التي ألمت به، إلا أن المقربين منه لا يخفون حقيقة كون الرئيس سيحتاج إلى فترة طويلة من الراحة، قد تمتد لأشهر كثيرة، حسبما أكد ذلك رئيس المجلس المركزي (البرلمان الحزبي) للاتحاد الوطني القيادي المؤسس عادل مراد، حين أشار إلى أن «الرئيس حتى لو تماثل إلى الشفاء، فإنه سيحتاج إلى فترة نقاهة قد تمتد لأشهر».

فالحديث عن فترة نقاهة طويلة، وحديث بارزاني عن انتكاسة «جدية» يطرحان بإلحاح سؤالا حول مصير حزب طالباني من جهة، ومصير المنصب الذي يشغله الأكراد لأول مرة في تاريخهم ببغداد، وهو منصب رئيس الدولة.

وعلى الصعيدين تداولت تقارير وكثرت التصريحات والتكهنات حول الخليفة المحتمل لطالباني في المنصبين، وهما منصبان لم يستعد لهما الاتحاد الوطني وقيادته، كما لم تستعد بغداد، حيث يخلو الدستور العراقي عن معلومات مفصلة عمن يشغل منصب الرئيس، على الرغم من وجود «تفاهمات بين القوى» قد لا تكون ملزمة لبعض القوى.

فالاتحاد الوطني الكردستاني وهو أحد الأحزاب الرئيسية في إقليم كردستان العراق واجه الكثير من التحديات الخطيرة، سواء أثناء قيادته للثورة الجديدة بجبال كردستان بين أعوام 1975 - 1991، أو حين شارك حليفه الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود بارزاني الحكم في كردستان عقب نجاح الانتفاضة الشعبية في ذلك العام، أو أثناء مشاركته بحكم العراق إثر سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين. وترددت قيادة الحزب خلال السنوات الماضية، وحتى الآن من مجرد التطرق إلى هذا الموضوع مع طالباني، احتراما لشخصه وموقعه وثقله في الدولة وداخل الحزب. لكن مع الانتكاسة الصحية خرجت تصريحات هنا وهناك حول الخليفتين المحتملين، على الرغم من أن قيادة الاتحاد الوطني وهي المعنية بهذا الأمر ما زالت تلتزم جانب الصمت، فيما عدا خطوة صغيرة تقدمت بها قبل يومين بتعيين أحد القياديين البارزين بمثابة «الأخ الأكبر» بقيادة الاتحاد الوطني، خلال فترة غياب طالباني المرضية.

وفي بغداد تواردت التصريحات من قبل بعض قادة كتلة دولة القانون التي يتزعمها رئيس الوزراء نوري المالكي، حول خليفة طالباني، وآخرها تصريح القيادي الشيعي سعد المطلبي الذي أشار إلى أنه «في حال عجز الرئيس طالباني عن أداء مهامه يجب إجراء مفاوضات جديدة بين الكتل السياسية لانتخاب رئيس جديد للبلاد، وليس شرطا أن يكون من المكون الكردي». ولكن الدكتور سامان فوزي النائب في ائتلاف الكتل الكردستانية، يخالفه الرأي بقوله «صحيح أنه ليس هناك أي نص دستوري يلزم بأن يكون الرئيس من المكون الكردي، ولكن اتفاقية أربيل التي وقعتها الأطراف العراقية وتشكلت بموجبها الحكومة الحالية، أقرت بأن يكون المنصب من الحصة الكردية، ومنها من حصة الاتحاد الوطني، وعليه فإن البديل أو الخليفة يجب أن يكون من الأكراد وتحديدا من الاتحاد الوطني».

وبسؤاله عما إذا كانت الاتفاقات السياسية ترتقي إلى مستوى النصوص الدستورية قال فوزي «الدستور هو عقد سياسي، والاتفاقات السياسية أيضا هي عقد موقع بين الأطراف السياسية، وعليه فإن لها نفس مفعول العقد الدستوري».

وبهذا التوضيح القانوني يكون لزاما على الأطراف العراقية وتحديدا على التحالف الشيعي أن تقبل بترشيح بديل عن طالباني من نفس حزبه ومكونه الكردي إلى حين انتهاء ولاية الحكومة الحالية.

وعالج الدستور العراقي مسألة غياب الرئيس بعدة مواد ونصوص دستورية، منها المادة 75 التي نصت على ما يلي «أولا: لرئيس الجمهورية الحق في تقديم استقالته تحريريا إلى رئيس مجلس النواب، وتعد نافذة بعد مضي سبعة أيام من تاريخ إيداعها لدى مجلس النواب. ثانيا: يحل نائب رئيس الجمهورية محل الرئيس عند غيابه. ثالثا: يحل نائب رئيس الجمهورية محل رئيس الجمهورية عند خلو منصبه لأي سببٍ كان، وعلى مجلس النواب انتخاب رئيس جديد، خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما من تأريخ الخلو. رابعا: في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية، يحل رئيس مجلس النواب، محل رئيس الجمهورية في حالة عدم وجود نائبٍ له، على أن يتم انتخاب رئيسٍ جديد خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما من تاريخ الخلو، وفقا لأحكام هذا الدستور».

هذا هو النص الدستوري المتعلق بحالة غياب رئيس الجمهورية، ولكن الدكتور سامان فوزي (دكتوراه قانون) يرى بأن غياب طالباني حاليا لا يعد «خلو منصب» حتى يلزم مجلس النواب بانتخاب رئيس جديد للبلاد، وأن غيابه الحالي بسبب الأسباب الصحية مشمول بالفقرة الثانية من هذه المادة، والتي حددت «غياب» الرئيس وحلول نائبه محل الرئيس». عليه لا يجوز البحث في مسألة انتخاب رئيس جديد للبلاد ما دام طالباني موجودا على قيد الحياة.

أما البدلاء المطروحون لحد الآن فإن عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يقف في مقدمتهم رئيس الإقليم مسعود بارزاني. ولكن بارزاني سبق وأن رفض عروضا كثيرة بهذا الصدد، وكان الاتفاق الاستراتيجي الذي وقعه حزبه مع حليفه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني يقضي بانتخاب بارزاني رئيسا لإقليم كردستان، مقابل دعم حزبه لترشيح طالباني لرئاسة العراق.

ويقول مراقبون في هذا الإطار إن «بارزاني لا يريد التورط في مشكلات العراق السياسية المزمنة، وخاصة الصراعات السياسية والطائفية التي تظهر بين حين وآخر، فالرجل معروف باعتداله وحياديته بهذه المسائل ولا يرغب أن يكون طرفا في صراعات تعود جذورها إلى قرون سابقة».

الشخص الثاني المرشح للمنصب هو الدكتور برهم صالح وهو الأكثر حظا لتولي المنصب، وخاصة خلال المدة المتبقية من ولاية الرئيس طالباني التي تنتهي عام 2014، وعلى الرغم من أن برهم أكد لـ«الشرق الأوسط» أنه في ظل وجود الرئيس طالباني لا يطمح إلى احتلال أي موقع سيادي بدلا عنه في بغداد، ولكن كل التكهنات والمؤشرات تذهب إلى ترشيحه لعدة أسباب من أهمها، شخصيته المتزنة والمرنة في تعاملاته السياسية، وثقافته العالية من النواحي السياسية والدبلوماسية، ومكانته في الأوساط العراقية التي يحترمها الكثيرون من قادة وقيادات العراق، إلى جانب كونه وجها مقبولا من الأوساط الإقليمية والدولية، وحتى داخل حزبه الاتحاد الوطني الذي يدفع باتجاه أن يتولى هو المنصب.

كما أن حزب بارزاني يدعم ترشيحه للمنصب، ولكن القرار النهائي يبقى معلقا حاليا على الأقل بالنسبة لبرهم.

ويتردد أيضا اسم القيادي الشيعي عادل عبد المهدي كمرشح توافقي على اعتباره شخصية سياسية متزنة بالوسط الشيعي، وكونه (إذا ترشح) سيتمتع بدعم أكبر كتلة شيعية هي التحالف الوطني، ولكن ترشيح عبد المهدي يصطدم بدوره بجدار التوافق السياسي الذي جرى بموجبه توزيع المناصب السيادية الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان) بين المكونات الثلاثة الشيعية والكردية والسنية، وبذلك لا يجوز أن يكون منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من حصة مكون واحد.

وطرح اسم رئيس القائمة العراقية أياد علاوي، ولكن علاوي سارع بنفسه إلى نفى ذلك ما وضع حدا للتكهنات التي راجت بعودة منصب الرئاسة إلى شخصية عربية سنية، أو محسوبة على السنة مثل علاوي.

هناك من يتحدث عن ترشيح السيدة هيرو إبراهيم أحمد زوجة الرئيس أو نجلها قباد طالباني لشغل المنصب في حال وفاة الرئيس، ولكن هذا الترشيح يصطدم بدوره بعدة عقبات في مقدمتها عدم وجود مفهوم أو مبدأ توريث السلطة في العراق الجديد، ما يستبعدهما من شغل المنصب.

أما على الصعيد الحزبي، فقد أربك غياب طالباني صفوف حزبه، على الرغم من أن الاتحاد الوطني مر بمحطات ومعتركات خطيرة منذ تأسيسه منتصف السبعينات من القرن الماضي. ولكن هناك من يتوقع اشتداد الصراعات بين التكتلات الحزبية داخل الاتحاد الوطني مع غياب الأمين العام.

ومشكلة التكتلات الحزبية كانت دوما التهديد الأخطر لهذا الحزب على امتداد سنوات نضاله السياسي والعسكري، فهذا التنظيم تشكل أساسا من ائتلاف عدة قوى ومنظمات ثورية في إطار اتحاد وطني قومي أطلق عليه اسم «الاتحاد الوطني الكردستاني» ليبادر بإعلان الثورة المسلحة الجديدة بجبال كردستان عقب انهيار الثورة السابقة لها وهي ثورة أيلول التي قادها الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى بارزاني من 1961 - 1975.

ويعرف الاتحاد الوطني بأنه «أبو التكتلات»، ويرى الكثير من قياديي هذا الحزب أن هذا الأمر طبيعي، بل إنهم يبررون في بعض الأحيان الصراعات الفكرية داخل الحزب الواحد على اعتبار أنه حزب متعدد الأفكار والتوجهات.

ويحسب لطالباني الذي قاد هذا الحزب أثناء الثورة النضالية وما بعدها، أنه نجح إلى آخر لحظة في الحفاظ على وحدة الصف داخل هذا الحزب، على الرغم من اشتداد الصراعات الفكرية والتنظيمية بداخله في الكثير من المراحل التاريخية. فقد كانت شخصية طالباني الطاغية وزعامته الفذة لهذا التنظيم، وخبراته السياسية والتنظيمية والعسكرية الغنية، ساعدته على فرض إرادته التوحيدية على الحزب، وعدم إفساح المجال أمام أي انشقاقات خطيرة قد تودي بالحزب طوال أكثر من ثلاثين سنة من تأسيسه.

وكان طالباني هو الجامع والخيمة التي استظل بها الجميع، وكان هو المرجع والملهم للحزب لم ينازعه أحد مطلقا، ولذلك فإن الحديث عن خليفة له اليوم يواجه الكثير من الصعوبات، لأن شخصية طالباني وزعامته ودوره المؤثر في الحزب لا يمكن تعويضها من قبل أي من القيادات الحالية.

كانت هناك ثلاثة تكتلات أساسية داخل الاتحاد الوطني، وهي تكتلات معروفة داخل وخارج إطار الحزب، وما يحسب لهذه التكتلات أنها لم تتصادم أو تتواجه عسكريا، على الرغم من أنه غالبا ما تؤدي الخلافات الفكرية والآيديولوجية داخل الأحزاب الكردية إلى انقسامات تجر معها صدامات مسلحة، ولكن صراع التكتلات داخل الاتحاد الوطني بقي في إطاره الفكري، والحرص على إبقاء الحزب موحدا، خاصة في ظروف مثل ظروف كردستان التي تواجه تحديات متعددة في كل الأزمان.

التكتل الأول كان تابعا للأمين العام ذاته، وهو طالباني الذي تجمع حوله عدد من القيادات المحسوبين عليه، فشكلوا تكتلا عرف داخل الحزب بكتلة «مام جلال» ومنهم عدد من القيادات القديمة من الرعيل الأول، وآخرون من القيادات التي نشأت بكنفه سواء أثناء ثورة الجبال، أو بعد عودة الحزب إلى كردستان إثر الانتفاضة الشعبية، وكان الكثير من هؤلاء يحتمون بكتلة طالباني لاعتبارات تتعلق بالانتخابات الحزبية والترشح للمواقع القيادية، على اعتبار الكلمة المسموعة والمؤثرة لطالباني في المؤتمرات الحزبية.

والتكتل الثاني قاده النائب السابق للأمين العام نوشيروان مصطفى، الذي تزعم عصبة الشغيلة وقاد التيار الفكري المرتبط بها، وحول مصطفى تكتله هذا بعد سقوط النظام السابق وظهور حالات الفساد داخل الاتحاد الوطني إلى حركة إصلاحية داخل الحزب أولا، تمهيدا لإجراء إصلاحات سياسية أشمل على صعيد إقليم كردستان، ولكن عندما حان وقت إظهار قوة تكتله من خلال الانتخابات الحزبية، تعرض إلى مؤامرة كبيرة من قبل قيادات الاتحاد الأخرى، وتنكر له الكثير من الكوادر وأعضاء الحزب، ما دفعه أخيرا إلى الخروج من صفوف الاتحاد وتشكيل حركة التغيير الإصلاحية، ليسعى من خلالها إلى إجراء التغيير المطلوب بالعملية السياسية في الإقليم.

التكتل الثالث داخل الاتحاد كان «تكتل كوسرت» وهو النائب الأول حاليا للأمين العام، وعرف هذا التكتل بـ«تكتل الأربيليين» على اعتبار انتماء كوسرت إلى مدينة أربيل، وأغلب الأعضاء الذين انضموا إلى هذا التكتل كانوا من سكان أربيل أو قراها، وكان لكوسرت نفوذ قوي في أوساطهم، وخاصة عندما انتقلت قيادة الاتحاد الوطني إلى السليمانية بعد أحداث القتال الداخلي، وتمكن كوسرت من تعزيز موقعه وسط الآلاف من الاتحاديين الذي توجهوا إلى السليمانية مع الحزب.

ومرض طالباني واحتمالات غيابه عن المسرح السياسي من جهة، وكذلك غيابه أو عجزه عن أداء مهامه الحزبية، أمر لم يتحسب له قادة الاتحاد الوطني كثيرا، وأدى مؤخرا بقيادات هذا الحزب إلى نوع من مراجعة الذات وبحث الوضع الداخلي للحزب بكل جدية. فمع التحديات التي تواجه الاتحاد الوطني من عدة مستويات، إقليمية وعراقية وكردستانية وحزبية أيضا، برزت حاجة لمعالجة الأزمة القيادية الداخلية بالحزب، أو على الأقل تأجيل الصدامات بين الكتل إلى حين آخر ريثما يتمكن الاتحاد الوطني من تجاوز هذه المرحلة الخطيرة، واحتواء تداعيات غياب طالباني.

ولذلك بادرت مجموعة قيادية من الصف الأول للحزب إلى إجراء لقاءات بين الأجنحة والشخصيات المتصارعة لتسكين الصراعات في هذه المرحلة، وتوصلت إلى تفاهمات محددة بطرح بديل مؤقت لطالباني إلى حين الوصول إلى عقد المؤتمر الحزبي الرابع المزمع عقده العام المقبل.

ونقل قيادي بالمكتب السياسي لـ«الشرق الأوسط» أن «أجواء تلك اللقاءات كانت مفعمة بالعواطف الجياشة، والتأثر بمشهد غياب طالباني، ولذلك كان هناك إصرار من الجميع على ضرورة تأجيل الخلافات، والسعي نحو حماية وحدة الحزب، وهذه الإرادة هي التي لعبت دورا في تقريب القيادات المتصارعة والاتفاق على صيغة جامعة للكل».

لقد تغلبت العواطف الجياشة على المصالح الحزبية والشخصية من خلال الاتفاق على تشكيل لجنة قيادية خماسية برئاسة كوسرت رسول علي لقيادة الحزب بالمرحلة المقبلة، ولكن السؤال المطروح حاليا هو، هل أن العواطف الجياشة وحدها قادرة على إنهاء صراع التكتلات الحزبية داخل الاتحاد الوطني وهو «أبو التكتلات»، وهل ستتمكن القيادة الجماعية الجديدة من تعويض غياب طالباني؟.