وقفة أمام البيت الأبيض

د. محمد عبد الستار البدري

TT

أذكر أنني توقفت متأملا أمام البيت الأبيض في أول زيارة لي لواشنطن؛ هذا القصر الشامخ الذي آوى رؤساء كثيرين وصنعت فيه السياسات الدولية وحيكت فيه الحروب؛ بل والمؤامرات أيضا، وقفت أتأمل هذا المبنى الضخم، فطاف بذهني فجأة «الكوليسيوم» في روما الذي يعكس عظمة الدولة الرومانية، كما جال ببالي قصر باكنغهام الشهير ومبنى البرلمان في لندن، فأدركت أنني بدأت أربط بين الإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية والعملاق الأميركي، فبدأت رحلة مقارنة تاريخية وسياسية لم أستيقظ منها إلا إثر البرد الشديد بعد قرابة نصف الساعة.

حقيقة الأمر أن هذه الدول الثلاث، في أزهي عصورها، قد تميزت بخاصتين؛ الأولى أنها كانت مثالا للقطبية الأحادية في العلاقات الدولية بدرجات متفاوتة، والثانية مرتبطة باستمرار هذه القطبية لمدة طويلة بشكل أو بآخر أكثر من غيرها في التاريخ، فلا أحد ينكر أن الإمبراطورية اليونانية أو المغولية أو الإسبانية في القرن السادس كانت كلها أمثلة على أحادية القطبية في فترة من الفترات، ولكنها كانت قصيرة العمر بمعايير التاريخ المقارن لهذه الإمبراطوريات، فلم تبق إلا روما وبريطانيا والولايات المتحدة قوى عظمى ممتدة على مر الزمن.

لقد كانت الإمبراطورية الرومانية على مدار قرون طويلة تؤثر بشكل مباشر على السياسة الدولية من خلال السيطرة على البحر المتوسط وتحويله إلى ما عرف باللاتينية «MARE NOSTRUM » أو «بحيرتنا»، فدانت لها شمال أفريقيا بعد الدخول في حروب متتالية مع قرطاج فيما عرف «بالحروب البونيقية»، ثم دانت لها اليونان وبلاد الجول (فرنسا) فالشام فمصر فليبيا وأرمينيا.. إلخ، فشيدت المباني ونشرت الثقافة اللاتينية على أيدي الفيالق الرومانية القوية، فاعتمدت هذه الإمبراطورية على قدرتها العسكرية للإبقاء على دورها القوي في السياسة الدولية مع الاحتفاظ بعلاقات تحالف مع القيادات المحلية في الأقاليم التي لم تكن تحتلها مباشرة.

لقد كفل كل هذا الحجم من القوة لمواطني ولساسة هذه الإمبراطورية شعورا بالعظمة السياسية والتفرد الثقافي إلى أن بدأت عوامل الانحسار تؤثر على مستقبل هذه الدولة حتى سقطت في القرن الخامس الميلادي بعد ترنح دام بضعة قرون بسبب الامتداد الجغرافي -OVER STRETCHING والإنهاك السياسي والعسكري. فحقيقة الأمر أن الدولة الرومانية وصلت لمرحلة من الامتداد الجغرافي التي صعبت من مهمة الإبقاء عليها كيانا مستقلا، إضافة إلى أنها جمعت حجما كبيرا من المعارضة والقوة المضادة بما صعب من مهمة هذه الدولة في الإبقاء على كيانها متماسكا، خاصة مع ظهور عدو قوي جديد على الحدود الشمالية متمثلا في القبائل الجرمانية، يهدد حدودها الشمالية.

أما الإمبراطورية البريطانية فلم تحظ في أي وقت بالقوة نفسها مقارنة بالإمبراطورية الرومانية، والسبب الحقيقي في ذلك هو أنها كانت دولة «جزيرية» معزولة في شمال غربي أوروبا وتعدادها محدود مقارنة بالدول القارية الأوروبية الكبرى، وهي الحقائق التي دفعت الساسة البريطانيين إلى الاقتناع بأن المزاد على القوة العظمى يحتاج إلى رؤية مختلفة تعتمد على تكريس القدرات البشرية والجغرافية لتحقيق أكبر استفادة سياسية، ولهذا تم التركيز على إقامة بحرية قوية لا تضاهيها أية بحرية أخرى، وذلك حماية لأمنها عقب فشل «الأرمادا» الإسبانية في احتلال إنجلترا في 1588، فعمدت السياسة البريطانية إلى سياسة فرض السيادة البحرية ونشر المستعمرات وما تشمله من توسيع نطاق التجارة وفتح الأسواق وتوليد رأس المال.

ومن المستغرب له أنه على الرغم من ذلك، فإن بريطانيا كانت دائما أضعف الدول الأوروبية الكبرى من حيث الجيش وتكوينه وتعداده، إلا أنها تغلبت على ذلك بصياغة سياسة خارجية لا يقدر على قيادتها إلا ساسة عظماء وعلى رأسهم شخصيات مرموقة مثل «ويليام بيت» و«كاسلري» و«كاننج» و«بالمرستون» و«ديزرايلي» و«تشرتشيل».. إلخ، ومن خلفهم نظام دبلوماسي وإداري قوي وعريق، مطبقين جميعا ما عرف بسياسة «توازن القوة» التي كان عمادها تفتيت القارة الأوروبية بحيث لا تتسيد أية دولة القارة فيكون التحالف دائما على الدولة القوية التي يمكن أن تهدد الأمن القاري، وذلك من خلال التحالفات المستمرة مع القوى الأضعف في مواجهة القوى المتوسعة أو الواعدة، وبالطبع تم ذلك من خلال توظيف الأسطول والذهب البريطانيين؛ فبريطانيا لم تكن خلال تاريخها دولة ذات جيش قوي مقارن، ففي هذا المجال كانت روسيا وفرنسا دائما تتسيدان هذا القطاع، ثم ورثت ألمانيا هذا الدور في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتالي، فإن بريطانيا كانت دائما تستطيع أن تحدد دفة الفريق المنتصر من خلال تدخلها. وبهذه السياسة، استطاعت بريطانيا في فترة من الفترات السيطرة على قرابة 24% من الأراضي المأهولة بقوة برية لا تتخطى في أزهى عصورها المائتي ألف جندي إلى جانب الأسطول البريطاني العتيد، ومع ذلك، نشرت بريطانيا ثقافتها وتقاليدها في معظم مستعمراتها بدرجات متفاوتة، وكانت تعتمد في السيطرة على هذه المستعمرات على نظرية «فرق تسد»، فمثلا شبه الجزيرة الهندية تم إخضاعها للسيطرة البريطانية من خلال نشر الفتن بين القبائل وتأليب العرقيات المختلفة لتستطيع أن توازن وجودها في هذه الدولة، ولعل هذا ما يبرر أن التركة البريطانية خلفت أكبر المشكلات السياسية حتى اليوم التي يستعصى حلها وعلى رأسها قبرص وفلسطين والهند وباكستان وكشمير.. إلخ. وهذا يرجع في الأساس لهذه السياسة. ومن ناحية أخرى، فإنه لا يمكن إغفال الدور الحيوي والمحوري لساستها الذين لم يسعوا لمحاولة تغيير كينونة مستعمراتهم مثل الاستعمار الفرنسي على سبيل المثال الذي حاول في مناسبات عديدة أن يفرض هويته، وبالتالي، فإن سياسة عدم التضييق أطالت من أمد هذه الإمبراطورية بدرجة كبيرة، ولم تجعلها دائما مصدر ثورات ومحاولات للقضاء على حكمها.

وقد أخذت العوامل الداخلية والخارجية تلعب دورها في تآكل القوة البريطانية وضرب السلام البريطاني PAX BRITANICA، وذلك على عكس الدولة الرومانية، فإن نهاية الإمبراطورية البريطانية جاءت مختلفة بشكل كبير، فقوة هذه الدولة تآكلت بشكل ملحوظ بعد حربين عالميتين خارت على أثرهما قوى هذه الدولة وأصبحت تعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي لها لاستمرار جهود الحرب، كما أن في هذه الفترة التاريخية بدأت السياسة الدولية تغير مسارها بشكل كبير حيث انتفضت المستعمرات ضد حكم الاستعمار وتغيرت الخريطة الدولية، وأصبح من الطبيعي أن يتراجع الدور البريطاني ليصبح مجرد دولة قوية في فلك المارد الأميركي تتأثر به ولكنها تؤثر فيه بشكل كبير للغاية من خلال علاقة متميزة عرفت في ما بعد بـ«الرباط عبر الأطلنطي»TRANSATLANTIC LINK، وبالتالي، فبريطانيا لم تعد مثل روما، كما أنها لم تقسم إلى دولتين مثل روما فماتت واحدة وبقيت الأخرى لمدة قرابة ألف عام إضافي ممثلة في الدولة البيزنطية، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن المارد الأميركي الحالي له قصة مختلفة نوردها في مقال الأسبوع المقبل.

* كاتب مصري