خواطر في قوة المارد الأميركي

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في المقال السابق ظهور المارد الأميركي ومقارنته بالإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية، وكيف أن ظهوره كان مختلفا عن هاتين الدولتين، وهو ما كان له أكبر الأثر في استقراره كأكبر قوة مهيمنة اليوم على الساحة الدولية، وقبل الخوض في الملاحظات على نمط القوة السياسية والعسكرية لهذا العملاق فإن عبارة مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيجنيو بريزينسكي تحضرني والتي يقول فيها «إن الهيمنة قديمة قدم الإنسان، ولكن وضع الولايات المتحدة الحالي كدولة متسيدة تختلف في سرعة ظهورها وفي حجمها الدولي والوسيلة التي تفرض بها هيمنتها، فلقد غيرت أميركا من نفسها في أقل من قرن من الزمان... فسارت من دولة معزولة نسبيا في الغرب إلى قوة غير منظورة في التاريخ...».

وفي التقدير فإن بريزينسكي والذي يعد من أفضل علماء الجغرافيا السياسية على المستوى الدولي اليوم، قد قدم لنا عبارة شارحة توضح كل الأبعاد لطبيعة القوة الأميركية على مدار القرن الماضي، ويمكن لنا هنا إبراز أهم النقاط التالية في هذا الصدد:

أولا: أن فلسفة القوة الأميركية تُجسدها فكرة القارة الجزيرية أو CONTINENTAL ISLAND والتي هدفها الأول كان حماية شواطئها من الغزو والذي لم تتعرض له منذ الاستقلال حتى يومنا هذا اللهم باستثناء الحملة البريطانية عليها في 1814. ولذلك فإن سياساتها أو بناء دولتها أو إمبراطوريتها كان منبعه هذه الحقيقة، وهو ما كان له أكبر الأثر في التركيبة العسكرية لها على المستوى الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وعلى مدار حقب الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي في عالم القطبية الثنائية، وقد وصف كثير من الساسة الحرب الباردة على أنها كانت صراعا بين القوة القارية أو الأرضية مقابل القوة البحرية ممثلة في الولايات المتحدة.

ثانيا: يلاحظ ارتباطا بالتحليل السابق أن الولايات المتحدة في طريقة نشر قدراتها العسكرية كانت تعتمد على فلسفة ضمان الدخول في حربين كبيرتين على مسرحين مختلفين في آن واحد، تماما مثل الحرب العالمية الثانية، ولهذا فقد لجأت لتطوير قوتها المسلحة ونشر أساطيلها حول المحيطات والبحار المختلفة مركزة قواتها البرية في مناطق كثيرة ذات الثقل الاستراتيجي بينما القوة البحرية كان المحيط الأساسي لها، وقد سمحت هذه التركيبة بنشر قواتها في أفغانستان والعراق من دون تعقيد ومن قبلهما في كوريا وفيتنام، وهو مرتبط بفكرة الاعتماد على عنصر الحركة السريعة MOBILITY لتعويض النقص العددي المقارن سواء في الدفاع أو الهجوم، فلقد حولت الأساطيل الأميركية بحارا ومحيطات إلى أقرب ما يكون للفلك الأميركي تماما مثلما حولت دولة روما البحر المتوسط إلى بحيرة رومانية ولكن على نطاق أوسع.

ثالثا: يلاحظ في هذا الصدد أن هناك معضلة واجهت نشر القوة الأميركية التي ارتبطت بالحفاظ على الأمن القومي الأميركي ممثلا في غرب أوروبا أمام التوسع السوفياتي خلال الحرب الباردة، فلقد مثّل الأمن الأوروبي وبالأخص أمن غرب أوروبا على ضوء الانقسام الفلسفي بين معسكر غربي نواته الولايات المتحدة وقاعدة دفاعه المشترك حلف شمال الأطلنطي من ناحية، ومعسكر شرقي قاعدة دفاعه حلف وارسو من ناحية أخرى، وكانت هذه المعضلة مرتبطة بفلسفة القوة البرية مقابل البحرية، فالاتحاد السوفياتي في هذه الحرب الباردة كان قادرا على حشد قرابة مائة فرقة عسكرية جاهزة للانقضاض على شرق أوروبا، بالتالي لجأت الولايات المتحدة إلى تركيبة مفهوم عسكري واضح الأبعاد مبني على فلسفة الرد المكثف MASSIVE RETALIATION أي أن أي هجوم سوفياتي سيواجه بضربات نووية موجعة، ولكن بمجرد أن دخلت موسكو النادي النووي بدأ حلف الأطلنطي يؤقلم استراتيجية الردع على أساس الاستخدام المشترك للقدرات التقليدية والنووية على حد سواء ليغطي بها ضعفه النسبي في القوات التقليدية، ولكنها لم تكن استراتيجية نشر قوة مناسبة في حقيقة الأمر لأن كل الدول الأوروبية كانت تخشى الاستخدام النووي على أراضيها ولو تكتيكيا نظرا لما سيمثله من دمار جزئي فكانت هذه الدول تدفع نحو تعزيز القدرات التقليدية دون جدوى، وقد ظلت هذه المعضلة قائمة حتى انهيار الاتحاد السوفياتي وتحلل حلف وارسو.

الملاحظة الرابعة هي أن الولايات المتحدة تفردت بعنصر هام توازى مع نشر قوتها العسكرية وهيمنتها السياسية وهو قدرتها على نشر أبعادها الفكرية والثقافية، فإذا ما تأملنا الدولة الرومانية أو الإمبراطورية البريطانية، فسنجد أن الولايات المتحدة تتفرد في كونها قد تقدمت لعضوية النظام الدولي بمنظومة فكرية/ ثقافية نابعة من فلسفة وجودها الذاتي، وهو ما يمكن لنا مجازا أن نسميه «بثالوث التعددية» أو مثلث أضلاعه الثلاثة ممثلة في الديمقراطية وآليات السوق الحرة والمثالية السياسية ممثلة في فكر والنقاط الأربع عشرة للرئيس وودرو ويسلون في محادثات صلح فرساي؛ ورغم أننا لا يمكن أن نعتبر أن الولايات المتحدة كانت لها الريادة في هذا المجال، فإنه مما لا شك فيه أن الطاقة القوية والمتجددة التي حقنتها الولايات المتحدة في هذا المجال كان لها أكبر الأثر في خلق الأساس الفكري أو شرعية التواجد السياسي لها داخل القارة الأوروبية والتي أصبحت الأساس التي اعتمد عليه الأمن الأوروبي بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى ثم الثانية.

الملاحظة الخامسة والأخيرة هي أن الولايات المتحدة لم تكن قوة عسكرية فحسب بل كانت قوة اقتصادية أيضا، وقد اختلفت كثيرا عن الدولة الرومانية والبريطانية حيث إن قوتها العسكرية خاصة بعد الحربين العالميتين لم تكن وحدها أداتها، فالبعد الاقتصادي قد يكون بنفس القدر والأهمية، فلقد بلغت القوة الاقتصادية للولايات المتحدة ذروتها فأصبحت تنتج ما يقرب من 50% من مجمل الإنتاج الصناعي العالمي، وقد ركزت الولايات المتحدة في تخصيص جزء من فوائض ميزانياتها إلى دعم حلفائها الخارجيين، وليس أدل على ذلك من الدعم المالي الذي قدمته الولايات المتحدة إلى بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية لضمان صمودها أمام القوة الألمانية، وأيضا ما عرف بعد الحرب «بخطة مارشال» والتي بمقتضاها ضخت بلايين الدولارات في الاقتصاد الأوروبي لتساعده على النهوض، ولا مجال للخلاف على أن الولايات المتحدة كانت مصدر طاقة اقتصادية وتمويلية لكل حلفائها.

لقد كانت هذه مجرد خواطر حول قوة المارد الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة، وسنتابع في الأسبوع القادم الملاحظات الخاصة بالقوة الأميركي خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة وحتى اليوم.

* كاتب مصري