مالي.. على خطى أفغانستان

جماعات مسلحة على غرار طالبان.. وتدخل عسكري مبارك دوليا.. وتوقعات بحرب طويلة

TT

في مدينة غاو الواقعة على ضفاف نهر النيجر في شمال مالي، تعج باحة مركز الشرطة الإسلامية المسؤولة عن تطبيق الشريعة، بمئات الشبان الأفارقة حديثي التجنيد.. جاءوا من عدة بلدان أفريقية منها النيجر والجزائر والصومال وموريتانيا وغامبيا «طلبا في الجهاد». وأول الغيث قطرة كما تقول «حركة التوحيد والجهاد» في غرب أفريقيا التي تسيطر على هذه المدينة تحت إشراف «تنظيم القاعدة».

أما في مدينة تمبكتو حيث دمر الإسلاميون أضرحة أولياء صالحين، انخرط مئات المقاتلين الذين غادروا ليبيا ويتحدرون منها ومن الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا وبوركينا فاسو في صلب جماعة «أنصار الدين» التي تحولت هي الأخرى إلى حركة جهادية منظمة لها معسكراتها ومراكز تدريبها على نهج «تنظيم القاعدة». كما أن لها أتباعها في الخارج وتنسق مع قياديي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».

وتعج المنطقة بالجماعات والمليشيات المسلحة.. التي تتباين في الرؤى.. والأساليب.. لكنها تتفق في هدف واحد هو الحصول على النفوذ والسلطة. وتذخر المنطقة أيضا بقبائلها المتنوعة، والتي تتنافس فيما بينها لحد المعارك، في وقت تنقسم فيه البلاد التي تعاني من الفقر المدقع، ويعشعش الفساد فيها، إلى شطرين متناحرين، لا يربط بينهما رابط. تلك مالي بكل تعقيداتها وأزماتها.. الممتدة على كل أطرافها.

ويجيء التدخل العسكري الفرنسي ليضع فصلا جديدا، من فصول الأزمة، وبعدا خارجيا، لم يكن في الأصل غائبا عن مشهدها. فمن دون سابق إنذار انفجرت «القنبلة الموقوتة» في منطقة الساحل، ونقلت فرنسا عدتها وعتادها على عجل إلى دولة مالي، وبدأت المواجهات بين الجيش الفرنسي والجماعات المسلحة التي ترى أنها نجحت في استدراج «الغربيين» إلى أرض معركة يعرفونها كما يعرفون تفاصيل أيديهم.

تقول مصادر دفاعية فرنسية إن السلطات في باريس «تترك الباب مفتوحا لتواصل عمليتها العسكرية حتى تحقق أهدافها من غير تحديد سقف زمني من شأنه أن يضع الأغلال في يدي الرئيس فرنسوا هولاند».. ثم عاد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس ليتحدث عن «أسابيع للحسم» قبل أن يضع وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، موعدا جديدا، بتصريح أطلقه قبل أيام، يؤكد فيه أن «الحرب ستطول».

أطراف كثيرة تتصارع. ولكن الأبرز الآن هما جهتان.. فرنسا ومن خلفها المجتمع الدولي.. الغربي والأفريقي، والجماعات الإسلامية المسلحة بأطيافها ومن ورائهم تنظيم القاعدة بكل فروعه.

كل المشاهد تبدو قاتمة.. ولكن حقيقة واحدة باتت شبه جلية في نظر خبراء ومحللين تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، تشير إلى أن أفغانستان جديدة، تولد في أفريقيا.

يصف الوزير الموريتاني السابق إسلم ولد عبد القادر، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» الوضع بأنه «صعب ومعقد ويطرح الكثير من الأسئلة». ويقول: إن «الحرب بدأت في شمال مالي وبشكل سريع، ولكنها ستطول وسيتحول مركزها من هناك.. إلى النيجر وموريتانيا».

سقط الكثير من المقاتلين الإسلاميين في المواجهات الأولى، قبل أن يتمكنوا من الاختلاط بالسكان المحليين والذوبان في الصحراء، مما جعل المهمة الفرنسية تبدو صعبة بعد أن ظنوها سهلة المنال، فخرج وزير الدفاع الفرنسي ليعلن أن «الوضع صعب» في غرب البلاد.

ويتوقع خبراء أن تحقق الحرب أهدافها في «المنطقة الرخوة»، أي المثلث الواقع بين مدن غاو وكيدال وتمبكتو، والتي يمكن أن تصبح في يد القوات الفرنسية خلال أيام قليلة، نتيجة لقوة القصف الفرنسي، ولكن الجماعات المسلحة ستلجأ إلى الجبال وعندها سيكون الوصول إليها صعب جدا.. وبالتالي فإن مالي قد تستعيد السيطرة على المدن الكبرى، ولكن بقية المناطق الصحراوية والجبال ستبقى تحت رحمة هذه الجماعات المسلحة.

الدكتور يحي ولد البراء، من موريتانيا، وهو أستاذ في جامعات أوروبية من بينها «السوربون» وباحث في تاريخ منطقة الساحل الأفريقي، يرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحل العسكري غير مضمون النتائج، بل إنه قد يزيد الطين بلة، خاصة أن هذه المجموعات المسلحة تسكن المنطقة منذ سنوات، وتعرف مسالكها وخفاياها ومدربة بشكل جيد على حرب العصابات».

ويؤكد ولد البراء أن «الحرب ستكون عنيفة جدا، وستؤدي إلى إضعاف الجماعات الإسلامية بشكل كبير من الناحية العسكرية، لكنها لن تحل قضايا الأمن كالانفجارات والعمليات الانتحارية واختطاف الرعايا الغربيين، والتي ستتواصل وقد تأخذ منحى آخر أكثر خطورة».

وأول من أمس احتجز مسلحون إسلاميون يطلقون على أنفسهم «الموقعون بالدماء»، عشرات الرهائن بينهم أكثر من 20 غربيا، في الجزائر، كرد فعل على التدخل العسكري الفرنسي في مالي، وتعاون الجزائر مع الحملة العسكرية.

يقول المحلل السياسي الجزائري المقيم بفرنسا، أنور مالك ومنطقة الساحل، إن «العواقب وخيمة وخطيرة على استقرار الجزائر، وحتى وحدة ترابها التي ستبدأ في التزعزع من الجنوب مستقبلا». ويضيف «هذا الخطر يعود لاعتبارات كثيرة من بينها، أنه توجد نسبة كبيرة من عناصر تنظيم القاعدة هم من الجزائريين، وتدربوا على القتال في الجزائر وستكون وجهتهم الجزائر عبر مسالك مفتوحة ويعرفونها جيدا، وبأسلحة ثقيلة بينها حتى المضادة للطيران وهو ما سيعيق المراقبة الجوية الجزائرية وحتى الأجنبية.. وقد تضطر السلطات بأن تسمح للطيران الفرنسي للقيام بعمليات عسكرية على التراب الجزائري، وهذه كارثة حقيقية وتطور خطير».

ويرى مالك وهو مراقب الجامعة العربية بسوريا سابقا، أن التغطية العسكرية الجزائرية للصحراء «محدودة وواهم من يدعي أنها تحت سيطرة الجيش، بل توجد مئات الكيلومترات فارغة لم تصلها يوما جنود الجزائر، أو غيرها وصارت مرتعا للتهريب والجماعات الإرهابية وكل صنوف الجريمة المنظمة». وأضاف مالك أن الجزائر «ستكون وجهة للنازحين والهاربين من جحيم الحرب، بسبب صلة القرابة بين الأزواد والطوارق، وهذه الحرب ستطول فلا يمكن استعمال الطيران ضد جماعات مدربة جدا على حرب العصابات، التي ستكون استنزافية للكل وعلى رأسهم الجزائر التي تورطت في مستنقع مالي».

وتابع أنور «الأخطر أن الحرب في مالي أخذت بعدا دينيا حيث صار الكثيرون يعتبرونها حربا صليبية على المسلمين. وبما أن الجزائر انحازت إلى التدخل الخارجي بالسماح للطيران الحربي الفرنسي باستعمال أجوائها، فإنها بهذه الخطوة ستكون في نظر الجماعات المسلحة العدو الأساسي». وبما أن المغرب اتخذ الخطوة الجزائرية نفسها.. ويتوقع أن تلحق بهما موريتانيا فإنهما ستكونان أيضا على خط مرمى الجماعات أيضا.

وفي ذات السياق يقول الدكتور قوي بوحنية، باحث متخصص في التحولات السياسية وقضايا التحول الديمقراطي وعميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة الجزائرية، إن كثيرا من الباحثين يعتقدون أن الدبلوماسية الأمنية الجزائرية «بحاجة إلى إعادة قراءة سياسية وأمنية، بسبب حجم المتغيرات الجسيمة حولها».

ويشير إلى أن «كل الدراسات الاستراتيجية تشير إلى أن الجزائر ستجد نفسها أمام دولة فاشلة تجسدها الحالة المالية، لتكون أشبه بخصائص دولتي الصومال وأفغانستان».

ومثل الجزائر فإن شظايا الحرب ستمتد لتصل إلى دول مجاورة، أخرى، مثلما توعد بذلك أغلب زعماء الجماعات المسلحة، وعلى رأسهم أمير تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود «دركودال».

يقول إسلم ولد عبد القادر، الوزير الموريتاني السابق، إن «الحرب ستتسع رقعتها إلى النيجر وموريتانيا»، مشيرا في نفس السياق إلى أن «انعكاسات الحرب على موريتانيا ستكون خطيرة جدا، لأنه في موريتانيا يوجد مخزن بشري هائل لتكوين وتأطير وتمويل الجماعات المسلحة، وهي الحلقة الأضعف من بين دول الطوق (النيجر، الجزائر، موريتانيا) لأنها تفتقد إلى نظام سياسي قادر على حفظ الوئام وتدعيم الجبهة الداخلية لمواجهة هذه المخاطر التي تحدق بها».

ويقول الباحث الدكتور يحيى ولد البراء، إن «موريتانيا توجد بها استثمارات دولية من طرف شركات كبيرة مثل (كينروس الكندية، وتوتال الفرنسية)، وهي أهداف محتملة لهذه الجماعات المسلحة»، مشيرا في هذا السياق إلى ما حدث في الجزائر لشركة «بريتش بيتروليوم» البريطانية.

وأضاف ولد البراء أن «موريتانيا متشابكة قبليا وبشريا مع سكان شمال مالي، وبالتالي فإنها ستجد صعوبة كبيرة في متابعة العناصر المرتبطة بتنظيم القاعدة داخل أراضيها، نتيجة لاندماجهم في المجتمع الموريتاني الشبيه بسكان إقليم أزواد».

* المصالح الخفية:

منذ بدء العملية العسكرية الفرنسية في مالي، يحرص الرئيس فرنسوا هولاند على التأكيد على أن المبادرة الفرنسية «غير مرتبطة بالدفاع عن أي مصالح لأنه لا مصالح لنا في مالي». وبحسب هولاند، فإن باريس استجابت لنداء الاستغاثة الذي وجهه لها رئيس جمهورية مالي المؤقت ديوكندا تراوريه وقادة مجموعة غرب أفريقيا وهي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة وتحديدا القرار 2085 الصادر في 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وبالفعل، فإن الرئيس هولاند مصيب في قوله إنه لا مصالح اقتصادية كبيرة لفرنسا في مالي. فهذا البلد هو الزبون الـ87 لفرنسا وهو المصدر الـ165 لها. ولا تشكل الواردات الفرنسية من مالي سوى 0.002% من الواردات الفرنسية فيما المبيعات الفرنسية، وفق أرقام عام 2010 لا تزيد عن 280 مليون يورو ونسبتها 0.065% من الصادرات الفرنسية عبر العالم. ومع ذلك، فإن ستين شركة فرنسية حاضرة في مالي حيث يتواجد ستة آلاف فرنسي فيما يبلغ عدد الماليين في فرنسا نحو 80 ألفا. كذلك، فإن الثروات الطبيعية لمالي التي كان يمكن أن تغري فرنسا ليست كبيرة. ومع ذلك، فإن مالي ثالث منتج للذهب في أفريقيا كما أن أرضها تحتوي على اليورانيوم.

غير أن القيمة الاقتصادية للمستعمرة الفرنسية السابقة ليست الأساس في العلاقة الفرنسية مع مالي إذ أن قيمتها الأولى استراتيجية. ومنذ اليوم الأول، شدد الرئيس الفرنسي ووزراؤه على أن امتناع باريس عن التحرك بعد أن احتل مقاتلو الشمال مدينة كونا التي تعد «المفتاح» للنزول نحو باماكو، كان سيعني سيطرتهم على مجمل مالي وتهديد استقرار المنطقة كلها والمس بأمن ومصالح فرنسا وأمن ومصالح أوروبا بأكملها.

وليس سرا أن فرنسا ترتبط مع غالبية مستعمراتها السابقة باتفاقيات دفاعية ولها انتشار عسكري ملحوظ في القارة الأفريقية وبالتالي فإنها تتحمل «مسؤوليات» خاصة تجاهها ما يجعلها تلعب، بالفعل، دور «شرطي أفريقيا» رغم أن الرئيس الاشتراكي يريد «القطيعة» مع السياسات السابقة التي كانت تدفع إلى الاعتقاد أن فرنسا ما زالت تتصرف كأنها «القوة المستعمرة».

يقول الباحث الاستراتيجي الفرنسي أنطونان تيسرون إن مالي تقع على «تقاطعات استراتيجية بالغة الأهمية» بالنسبة لفرنسا. وبرأيه أن تمدد النزاع في مالي إلى شمال النيجر «كان سيعني تهديد تموين شركة (أريفا) من اليورانيوم وتهديد أمن توفير الطاقة لفرنسا نفسها». وتستخرج شركة «أريفا» الضالعة في النووي الفرنسي نصف إنتاجها من اليورانيوم من مناجم النيجر ما يشغل ثلث المفاعلات الفرنسية. ومن هذا المنطلق، تتمتع النيجر بقيمة استراتيجية بالغة الأهمية لفرنسا ما يدفعها بالتالي إلى التحوط من أي تطور من شأنه أن يهز أمنها واستقرارها.

وفي 16 سبتمبر (أيلول) من عام 2010. تعرض خمسة فرنسيين يعملون في مناجم اليورانيوم التي تشغلها «أريفا» للخطف وما زالوا حتى اليوم بأيدي «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». ورغم أن مالي لا تنتج اليورانيوم، فإن الخبراء الفرنسيين يعتبرون أنها تحتوي على هذه المادة الاستراتيجية. وقد عمدت شركة «روك غيت» الكندية إلى تقديم طلب للتنقيب عن اليورانيوم في منطقة فاليا التي تبعد مسافة 350 كلم غرب باماكو قريبا من حدود السنغال وغينيا. ويبدو أن الشركة الكندية قد عثرت على اليورانيوم ولكن أيضا على الفضة والنحاس. وتقدر الشركة كميات اليورانيوم بـ12 ألف طن أي ما يساوي أربعة أضعاف ما تنتجه «أريفا» من أهم مناجمها «أرليت» في النيجر.

وتؤكد ميشال ريفازي، النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي أن «أريفا» و«روك غيت» قد أبرمتا اتفاقا لاستغلال مشترك لليورانيوم في مالي.

ومن ناحية أخرى، لا تخفي باريس قلقها من انعكاسات الوضع في مالي على دول الجوار الأخرى وتحديدا موريتانيا وساحل العاج وخصوصا الجزائر إذ لفرنسا مصالح رئيسية فيها. فمالي غنية بالنفط وشركة «توتال» الفرنسية حاضرة فيها منذ عام 2005. أما ساحل العاج الذي تدخلت فرنسا فيه عسكريا لإزاحة الرئيس السابق وتسهيل تولي الرئيس الحالي مسؤولياته فتشكل العماد لمنطقة الفرنك الأفريقي أي عمليا منطقة النفوذ الاقتصادي الفرنسي في أفريقيا. أما الجزائر فإن قيمتها لا تقدر بالنسبة لفرنسا إذ أنها ثالث أهم شريك اقتصادي لها خارج إطار منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.

لكن باحثين ومسؤولين إقليميين يشيرون إلى دور آخر لفرنسا. يقول إسلم ولد عبد القادر (الوزير الموريتاني السابق) إن «فرنسا لديها مصالح في هذه المنطقة، وهي لا تختلف كثيرا عن المصالح التي تسعى إليها الصين والولايات المتحدة في هذه المنطقة، حيث تعرف هذه القوى العظمى أن القارة الأفريقية قارة واعدة في الخمسين سنة القادمة».

وفي السياق نفسه يقول الدكتور يحيى ولد البراء، إن «فرنسا تتدخل لأنها تعتبر أن منطقة الساحل تابعة لها، وأي فوضى فيها تضر بمصالحها السياسية، ومصالحها الاقتصادية ذات الأهمية الكبرى، حيث تعتبر هذه المنطقة واعدة بالنفط واليورانيوم والذهب، وذلك ما يفسر السعي الفرنسي إلى إرغام المجموعة الدولية للتدخل في مالي، ويفسر أيضا تحفظ الجزائر على هذا التدخل، وبالتالي فإن الصراع إقليمي ودولي بامتياز».