«سجين مرمرة»

«العم» أوجلان.. من زنزانته لا يزال اللاعب الأول بين أكراد تركيا

TT

من سجنه الانفرادي في جزيرة قاحلة وسط بحر مرمرة، روادها الاعتياديون وحدات النخبة في الجيش التركي، يعود الزعيم الكردي عبد الله أوجلان إلى الساحة مجددا بعد نحو 13 سنة، ليتحول من سجنه في جزيرة إمرالي لاعبا أساسيا في الملف التركي الداخلي والوضع الإقليمي.

تقلبت أوضاع أوجلان في سجنه كثيرا، لكنها شهدت تحسينات نوعية، فبعد الصحف والمجلات التي أدخلها إليه شقيقه الأسبوع الماضي، حل التلفزيون ضيفا جديدا في غرفة أوجلان. وهذه التحسينات أتت بوصفها بادرة «حسن نية» من قبل الحكومة التركية التي بدأت معه حوارا بواسطة الاستخبارات التركية، ساهم في حلحلة كثير من الملفات وتخطي عدد من الأزمات كمقتل الناشطات الكرديات الثلاث في باريس مؤخرا. لكن مع هذا، فإن رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان لا يزال موصدا الباب في وجه تسوية تخرج أوجلان من السجن.. ولو إلى الإقامة الجبرية.

أوجلان «المحب للطبيعة» كما يقول عنه مؤيدوه، يحلم بأن يكون الأب الروحي للدولة الكردية التي يحلم بها كثير من الأكراد ولم تقم في تاريخها، وربما لهذا يحب لقب «العم» الذي يطلقه عليه أنصاره، فهو يريد أن يكون عم الأكراد، لكن أحفاد أتاتورك (أبو الأتراك) كما يطلق على مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال، يقفون في وجه هذا الحلم بشراسة منقطعة النظير.

عدة مشاهد تحدثت عن عودة أوجلان إلى الساحة، فبعد زيارة شقيقه محمد له مرتين خلال 3 أشهر، ورغم منع محاميه من زيارته منذ نحو 16 شهرا، فإن المشهد الأكثر حداثة كانت الزيارة النادرة من نوعها التي قام بها نائبان كرديان في البرلمان التركي لأوجلان في سجنه في 3 يناير (كانون الثاني) الحالي، بعد أيام من تصريح لكبير مستشاري رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان، يالجين أكدوغان، قال فيه إن حكومة بلاده تبحث نزع أسلحة حزب العمال الكردستاني. ورأى مراقبون في زيارة أيلا أكات آتا، النائب عن حزب «السلام والديمقراطية» المؤيد للأكراد، والسياسي الكردي البارز أحمد تورك، لأوجلان في سجنه «سعيا تركيا للتفاوض مع الزعيم الكردي، الذي يتمتع بنفوذ قوي، من أجل إنهاء صراع أسفر عن مقتل عشرات الآلاف على مدى ثلاثة عقود». وكان يالجين أكدوغان، كبير مستشاري أردوغان، قد اعتبر قبل الزيارة أن أنقرة «تعتبر أوجلان المحاور الرئيسي معها».

قبل هذه الزيارة، برز نفوذ أوجلان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما استجاب مئات من أعضاء حزب العمال الكردستاني المسجونين في أنحاء تركيا لأمر أصدره طلب فيه إنهاء إضراب عن الطعام كانوا قد بدأوا به. وتفيد تفاصيل الأخبار المتداولة عن تلك المسألة، أن اجتماعات عقدها وفد من الاستخبارات التركية مع أوجلان في سجنه في تلك الجزيرة القاحلة التي تبعد نحو 40 كيلومترا عن إسطنبول، من أجل إقناع السجناء الأكراد المضربين عن الطعام بالعودة عن إضرابهم الذي كاد يهز الساحة الداخلية التركية. وكان لافتا أن كلمة منه نقلها شقيقه إلى المضربين عن الطعام كانت كافية لوقف إضرابهم الذي كاد يودي بحياتهم بعد أن استمر لمدة 68 يوما، مما شكل بحسب المراقبين دليلا دامغا على التأثير الكبير لهذا الرجل على أكراد تركيا، ومقدمة للتفاوض الأخير معه.

وقال محمد علي بيراند، وهو صحافي تركي التقى بأوجلان مرتين في لبنان وسوريا في الثمانينات من القرن الماضي، إن الأخير «أثبت أنه ما زال القائد وأن كلمته هي القول الفصل». وأضاف: «أنه ليس مقاتلا أو خبيرا في ميليشيا الحرب وإنما العقل الذي يحاول صياغة المشكلة الكردية. يريد أن يكون زعيما لكل الأكراد هذه هي الصورة التي يقدمها». وقال محمد، شقيق أوجلان للصحافيين بعدما زاره في سجنه: «إنه بخير.. من الناحية النفسية. يمكنه تحليل العالم وتركيا والمنطقة بشكل جيد للغاية ولا يعاني من أي مشكلة صحية.. إنه في حالة جيدة من الناحيتين الجسدية والنفسية».

ونفى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلن رفضه التفاوض مع المضربين الأكراد عن الطعام ووصف احتجاجهم بأنه ابتزاز يدعمه تجار الموت، قطع أي وعود لأوجلان في مقابل تدخله. وقال للصحافيين: «لم يحدث مثل هذا الأمر»، لكن الحكومة التركية اقترحت إمكانية إجراء مزيد من المحادثات بين وكالات المخابرات وحزب العمال الكردستاني. وأظهرت تسجيلات سربت العام الماضي أن مسؤولين كبارا في المخابرات عقدوا اجتماعات سرية مع الحزب في أوسلو مما أدى إلى إدانة قطاعات من المعارضة القومية.

أما المشهد الثالث، فيتمثل في الصور التي رفعت لأوجلان قبالة الحدود التركية في المناطق ذات الغالبية الكردية في سوريا، التي تنازلت القوات السورية النظامية عنها لصالح الأحزاب الكردية، التي يقال إن تنظيم «حزب العمال الكردستاني» الذي أسسه أوجلان بات ناشطا فيها بقوة، مما أجبر الحكومة التركية على طلب ترخيص من البرلمان لجيشها للقيام بعمليات توغل في الأراضي السورية، فكان لها ما أرادت.

ورغم أن تركيا لم تنفذ بعد ما خولها إياه هذا التفويض، فإن تسارع الأحداث في الوضع بين تنظيم «الكردستاني» والجيش التركي في العديد من المناطق ذات الغالبية الكردية في تركيا يحمل كثيرا من الدلالات. وتخشى تركيا بشكل جدي قيام إيران وسوريا باستغلال هذا التنظيم المصنف تركيا وأميركيا وأوروبيا بأنه «إرهابي»، من أجل مشاكستها نتيجة دعمها المعارضة السورية. وكانت مصادر تركية قد أبلغت «الشرق الأوسط» أن لديها «أدلة قوية» على الدعم الذي يقدم لـ«الكردستاني» من قبل إيران وسوريا، مشيرة إلى أن معسكرات أقيمت في جانبي الحدود في سوريا وإيران يتسلل منها المقاتلون نحو الأراضي التركية. كما كشفت مصادر تركية في وقت سابق عن مراسلات بين القيادة السورية وأوجلان، يعرض فيها الأخير تأمين مقاتلين يساعدون جيش النظام، بالإضافة إلى ضمانات بعدم تحرك الأكراد في سوريا ضد النظام.

وكان قياديون في المعارضة السورية قد أبدوا لـ«الشرق الأوسط» خشيتهم في الفترة الأخيرة من الممارسات التي يقوم بها حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي»، الذي يعد الحزب الكردي السوري الرديف لحزب العمال الكردستاني الذي يتزعمه أوجلان. ويؤكد معارضون سوريون تصدي عناصر هذا الحزب المسلح لعناصر «الجيش السوري الحر» لدى دخولهم لتحرير مدينة رأس العين الحدودية الواقعة في محافظة الحسكة ووقوع اشتباكات، انعكست سلبيا على العلاقة بين مكونات المحافظة والسلم الأهلي فيها.

وتستغرب المصادر التركية «الحماسة» التي يبديها قادة هذا التنظيم الذي يهدف إلى إقامة دولة كردية تضم 22 مليون كردي يعيشون في سوريا وتركيا والعراق وإيران، حيال النظام الذي طرده في عام 1989، ويعود الآن ليفتح أبوابه أمام قيادات الكردستاني التي توافدت إليه من مناطق أوروبية مختلفة. وكان أوجلان قد دفع في ذلك التاريخ، ثمن تحسن العلاقة بين أنقرة ودمشق، بعد أن وصلت الأمور بينهما إلى حافة الحرب بسبب أوجلان نفسه، الذي كان يتخذ من سوريا مقرا له. فمنذ أن غادر تركيا في عام 1980، لجأ الزعيم الكردي إلى سوريا، التي سهلت له ولقياداته الإقامة في لبنان الذي كانت تسيطر عليه آنذاك سياسيا وعسكريا، فأقيمت له مراكز تدريب في سهل البقاع اللبناني، أقفلت في وقت لاحق ليختفي أوجلان بعد أن رفعت أنقرة من ضغوطها على دمشق. وقد وصلت هذه الضغوط إلى ذروتها في عام 1989. ويقول وسيط اطلع على مسار هذه الأزمة إن الرئيس المصري السابق حسني مبارك كان قد انتقل إلى دمشق حاملا التحذير التركي. وقيل إنه التقى الرئيس السابق حافظ الأسد باسم القيادة التركية ليطالبه بتسليم أوجلان، فكان رد الأسد أن أوجلان ليس في سوريا، ليعود الجانب التركي فيزود مبارك بصورة لأوجلان خارجا من منزله القريب من السفارة الإماراتية في دمشق، ثم تظهر الحشود التركية على الحدود مع سوريا، ويقال إن القوات التركية قد دخلت بالفعل جزءا من الأراضي السورية انطلاقا من نقطة غازي عنتاب الحدودية.

عندها اتخذ الأسد الأب قرارا بالتضحية بأوجلان لصالح تحسين العلاقة مع تركيا التي رأى فيها سندا مهما لخليفته بشار الذي كان يتهيأ للحكم. غادر أوجلان إلى روسيا، لكنه سرعان ما أعيد إلى أوروبا، فحلّ في إيطاليا ضيفا على الحكومة التي يتمتع فيها الشيوعيون بنفوذ قوي، ثم إلى اليونان التي كانت تحظى بعلاقات مميزة مع روسيا، قبل أن يغادر إلى أفريقيا نتيجة الضغط التركي والمطالبة بتسليمه. وأخيرا استطاعت الاستخبارات التركية القبض عليه في مطار نيروبي في عملية لا يزال يكتنفها الغموض، ويقال إن الاستخبارات الإسرائيلية لعبت دورا كبيرا فيها.

ولد أوجلان في الرابع من أبريل (نيسان) 1948 في منطقة أورفة بجنوب شرقي تركيا، وهو يعرف باسم «آبو» بين مريديه. ويقال إن أصل التسمية يعود إلى الكردية، حيث تعني هذه الكلمة «العم»، فيما يذهب آخرون إلى اعتبارها اختصارا لاسم عبد الله. ويقال إنه تأثر بالانقلاب الذي حصل في 27 مايو (أيار) عام 1960 كثيرا وهو في المرحلة الابتدائية، مما أدى إلى تطور اهتمامه السياسي واعتباره أن الجيش هو المصدر الأساسي للقوة، لذلك كان حلمه أن يكون قائدا للقوات الجوية.

بدأ بالدراسة الإعدادية في عام 1963 في نيزب. ورغم أنه كان يفضل مواصلة التعليم لنيل شهادة الثانوية العامة، فإن الفقر جعله أمام خيارين: أما الثانوية المجانية أو الأكاديمية المهنية، فاختار الثانية، حيث نجح في دراسة «المساحة والطابو» في المدرسة. بدأ بعمله عام 1970 في ديار بكر موظفا فنيا في دائرة المساحة هناك، وكان ينضم إلى النقاشات الكردية ولكن هدفه بقي النجاح في المواد المختلفة للثانوية ليذهب إلى الجامعة، ونجح في امتحان قبول الجامعة، حيث حصل على حق الدخول إلى كلية الحقوق في جامعة أنقرة. درس العلوم السياسية فيها لكنه لم يكمل دراسته وعاد إلى مدينة ديار بكر بعد مضايقات تعرض لها بسبب نشاطه السياسي، ومنها سجنه لستة أشهر بعد قيامه بالمشاركة في أحد الإضرابات. وفي حين تقول بعض الروايات إن أوجلان ينتمي إلى الأقلية الكردية العلوية، إلا أن أنصاره يؤكدون أنه من الطائفة السنية، وقد تنقل بين الحركات الإسلامية وصولا إلى اليسارية حيث مستقره النهائي، ومنها انطلق فكر التنظيم الذي أسسه في عام 1978 تحت شعار «تحرير كردستان».

تأثر بالقومية الكردية ونشط في الدعوة لها وأسس في عام 1978 حزب العمال الكردستاني واستمر قائدا له حتى الآن. وفي عام 1984، بدأ حزبه عملياته عسكرية في تركيا والعراق وإيران بغرض إنشاء وطن قومي للأكراد. بعد القبض عليه، وزعت الاستخبارات التركية صورة لأوجلان معصوب العينين، مقيدا في طائرة يحيط به جنود ملثمون، ووُضِعَ في الحجز الانفرادي في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة بتركيا منذ أن قبض عليه. حاول أوجلان تجنب عقوبة الإعدام بقيامه باعتذار مفاجئ من أسر الضحايا الذين سقطوا في الصراع، ويبلغ عددهم نحو 40 ألف شخص، لكن المحكمة التركية لم تجد بدا من إصدار حكم بالإعدام بسبب الكراهية الكبيرة التي يكنها له الأتراك. وبعد محاكمته التي نقلها التلفزيون حكم على أوجلان بالإعدام مع وقف تنفيذ الحكم وسط هتاف الحشود خارج المحكمة التي نادت بشنقه. ولو كان قد أعدم لأصبح أول سجين يعدم في تركيا منذ 25 عاما. لكن الحكم أوقف تنفيذه بضغوط أوروبية وغربية، كما أن الحكم حُول إلى «السجن مدى الحياة» عندما ألغت تركيا عقوبة الإعدام في آب (أغسطس) 2002 سعيا منها إلى «التطابق» مع القوانين الأوروبية.

وتم تخفيف السجن الانفرادي الذي يقبع فيه أوجلان في عام 2009 عندما نقل خمسة سجناء جدد إلى إمرالي. والتقى عدد قليل من الأشخاص بأوجلان في السنوات القليلة الماضية. ويقول محامون إنه لا يحق له استخدام الهاتف أو التلفزيون وتخضع الصحف التي يطلع عليها للرقابة.

وفي عام 2006 أطلق أوجلان عبر محاميه إبراهيم بيلمز دعوة لوقف إطلاق النار في مسعى للمصالحة مع تركيا. وطلب أوجلان من حزبه عدم استخدام السلاح إلا في الدفاع عن النفس وركز على ضرورة إنشاء علاقات جيدة مع الشعب الكردي التركي والحكومة التركية.

تزوج أوجلان فجأة في عام 1972 من رفيقته في النضال «كسيرة يلدرم» التي شاركته في تأسيس الحزب، لكن بعد 10 سنوات اكتشفا «عدم توافقهما»، غير أن العديد من قيادات «الكردستاني» يتهمونها بأنها كانت عميلة للاستخبارات التركية، ويلقون باللوم عليها في عمليات قتل وتصفية قياديين بارزين في التنظيم.

منذ بداياته، عرف عن أوجلان حبه للأدب، حتى إن أنصاره يقولون إن أستاذه كان يوزع مواضيعه في الآداب بين الطلاب بوصفتها مثالا يحتذى، وهذا ما شكل منعطفا بارزا على طريق ثقته بنفسه. وقد تجلى هذا الهوى في «المطولات» التي يقوم بإرسالها عبر محامييه إلى المحكمة الأوروبية، بالإضافة إلى مقالاته التي تنشرها مواقع التنظيم.