أميركا ستظل متفردة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في المقال السابق تطورات قوة المارد الأميركي خلال القرن الماضي وكيف أصبح يمثل اللاعب الأساسي في نظام ثنائي القطبية، كما تتبعنا عناصر القوة لهذه الدولة وكيف استطاعت في فترة وجيزة أن تتبوأ الصدارة، ولكن ما يهمنا إبرازه هنا هو كيف تفردت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة ومستقبل هذه القوة مستوحاة من تجارب الماضي.

الملاحظة الأولى التي تضع الولايات المتحدة في وضعية منفردة هي الطريقة التي تفردت بها لتصبح القوة العظمى الأولى أو المهيمنة على النظام الدولي، وهناك مقولة في أروقة العلاقات الدولية تقول «..إن الإمبراطوريات لا تقع ولكنها تتفكك EMPIRES DO NOT FALL, RATHER THEY FALL APART،» وإذا ما كانت هذه حقيقة شبه مؤكدة إلا أن ما حدث بانهيار الاتحاد السوفياتي كان مختلفا نوعا ما، فلأول مرة في التاريخ المعروف يتغير النظام الدولي دون صراع معلن وحروب ناشئة، فالنظام الدولي الحديث بدأ باتفاقية وستفاليا عام 1648 والتي كانت نهاية لحرب الثلاثين عاما، بينما ولد نظام فيينا عام 1815 على أثر الحروب النابليونية التي شهدت هزيمة فرنسا، ثم ولد نظام فرساي بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919، ثم النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، أما في التاريخ الماضي، فبريطانيا بدأ قيامها على أنقاض هزيمة الأسطول الإسباني في معركة «الأرمادا» الشهيرة، أما روما فقامت على جثة دولة قرطاج وبدرجة أقل دول أخرى مجاورة، وهذه كانت سنة السياسة الدولية.

كل هذه المؤشرات تعكس حقيقة أننا أمام مولد نظام دولي بولادة غير تقليدية، فالهيمنة الأميركية وأحاديتها القطبية جاءت بتهاوٍ سلمي للاتحاد السوفياتي دون طلقة نارية واحدة، فالتغير جاء نتيجة انهيار داخلي سببه الأساسي يمكن إرجاعه للعبارة الشهيرة بأن الاتحاد السوفياتي كان «عملاقا عسكريا وقزما اقتصاديا»، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة عملاقا في أغلبية أفرع معادلة القوة، فكان اقتصادها يمنحها الميزة النسبية ويضخ دماء جديدة لجيشها وقدراتها العسكرية، وليس أدل على ذلك من أن سباق التسلح فرض على الاتحاد السوفياتي منافسة لم يكن قادرا على الاستمرار فيها بأي وسيلة خاصة ما تعلق منها بمبادرة الدفاع الاستراتيجية SDI والتي كان يمكن أن تضرب التوازن النووي بما يمكن أن يكسر معه حالة الردع المتبادل بين الطرفين، ومن ثم فإن ميخائيل غورباتشوف آخر رجال هذه الإمبراطورية المتهالكة لم يستطع إلا أن يفتح المجال أمام التطوير، وهو ما كان متوقعا معه سقوط الهيكل بالكامل لفقدانه المقومات الأساسية للاستمرارية الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء. الملاحظة الثانية هي أن وسيلة نشر القوة الأميركية في النظام أحادي القطبية لم تختلف كثيرا عن الحرب الباردة، فعلى الرغم من زوال الخطر السوفياتي فإن تحالف الدفاع المشترك ممثلا في حلف شمال الأطلنطي لم يتغير، فأصبح للولايات المتحدة رؤية جيوستراتريجية وسياسية تختلف عن أي قوة مهيمنة على المستوى الدولي، فلأول مرة يلجأ القطب الأوحد إلى سياسة مزدوجة لنشر القوة مبنية على فكرة ما يسمى في أدبيات العلاقات الدولية بالمجتمعات الآمنة SECURITY COMMUNITY، من خلال تحويل حلف شمال الأطلنطي من منظمة دفاع مشترك فقط إلى أداة تساهم في خلق كيان من أقصى غرب الولايات المتحدة وحتى قرب الحدود الروسية ليكون مبنيا على أسس وقيم مشتركة تجعل الحرب مستبعدة تمام الاستبعاد وتُدخل الأمن المشترك والتعاون على أسس القيم المشتركة والأدوات المتفق عليها ليكونوا وسيلة إدارة العلاقات بين الأطراف المختلفة فيها، فيصبح العالم مُقسما إلى كتلة جيوستراتيجية موحدة لا يفرقها إلا المحيط الأطلنطي، وهو شكل جديد لم يشهده النظام الدولي على مدار تاريخه حتى على الرغم من فكرة الكومنولث لم تقارب هذا النمط في توزيعات القوى.

الملاحظة الثالثة هي أن الولايات المتحدة بدأت تنشر قوتها على المستوى الدولي في العالم الخارجي بمزيج من القوة والأدوات الأخرى في العلاقات الدولية، ولكن هذه الملاحظة ارتبطت بشكل كبير بأحداث ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وهو التاريخ الذي شهد بدء التحول في مفهوم التهديد من الخطر العام MACRO - THREAT إلى ما يمكن أن نسميه بالخطر الجزئي MICRO - THREAT على نحو لم يواجه أي قوة مهيمنة في التاريخ من قبل، فالصراع تحول من صراع أمني تقليدي بين الدول إلى صراع مع هياكل لا تأخذ شكل الدولة، وهذه الخاصية تنفرد بها الولايات المتحدة على المستوى الدولي فحتى دولة روما عندما هاجمتها القبائل الجيرمانية في الشمال فإنها كانت تمثل تهديدا تقليديا.

الملاحظة الرابعة هي استمرار الولايات المتحدة في دعم قدراتها الناعمة من خلال التركيز على البعد الثقافي على الساحة الدولية استمرارا لدورها السابق والذي بدأ مع الرئيس الأميركي وودرو ويلسن عقب الحرب العالمية الأولي كما تعرضنا له في المقال السابق، فهي لا تزال تمثل مصدرا هاما للقيم على المستوى الدولي، سواء من خلال السعي لحمل لواء المعادلة الليبرالية ممثلة في حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد واقتصاديات السوق، أو من خلال دورها في دفع العلم والبحث العلمي، وأذكر هنا كتاب ليستر ثورو LESTER THORROW بعنوان «وجها لوجه» والذي تضمن أطروحة هامة مفادها أن الولايات المتحدة تمثل أكبر تجمع علمي على المستوى العالمي ولا تجاريها أي قوة أخرى، فلديها أقوى وأفضل الجامعات عالميا كما أنها تمثل مركز البحث العلمي في العالم، وهو ما يؤهلها للاستمرار في الصدارة لأنها تملك القوة التحتية العلمية.

الملاحظة الخامسة هي اختلاف الرؤى حول مستقبل النظام الدولي فهل يتجه نحو الإبقاء على القطبية الأميركية أم أنه في سبيله ليتحول لنظام متعدد الأقطاب خاصة مع وجود لبنة الاتحاد الفيدرالي الأوروبي ودور صيني وروسي متصاعد، وهو أمر غير محسوم بعد، فالإرهاصات متعددة في كل الاتجاهات ولكن تبقى حقيقة واحدة ثابتة ألا وهي أن الولايات المتحدة تظل تتميز عن أي قوة عظمى شهدها العالم كما تابعنا على مدار ثلاثة أسابيع، فلا الدولة الرومانية تنافسها، ولا حتى الإمبراطورية البريطانية تناطحها، فهي ستظل متفردة في قوتها داخل النظام الدولي، خاصة أنه ليس في الماضي ما يمكن الاستدلال به ولا في الحاضر ما يمكن القياس عليه، ولكن يظل للمستقبل كلمته.

* كاتب مصري