الأسس التاريخية للسياسة الدولية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

يعكس النظام السياسي الدولي القائم حاليا حقيقة أساسية وهي أننا كعرب لم يكن لنا دور في صناعة مفرداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لأسباب تتعلق بأن هذا النظام هو في الأساس صناعة غربية مرتبطة بشكل محوري بالتجربة الأوروبية في الأساس، فالنظام الدولي بمفاهيمه وتطبيقاته وأغلبية اللاعبين المؤثرين فيه حتى فترة قريبة كان جزءا لا يتجزأ من هذه التجربة، وقد كانت أوروبا شأنها شأن باقي العالم القديم في ذلك الوقت، تتميز بنفس مقوماته الأساسية وطرق الإنتاج الاقتصادي ووسائل التنظيم السياسي، ولكن هناك عددا من العوامل التي دفعت أوروبا نحو مسار يختلف تماما عن الدول الأخرى، ويمكن لنا أن نبدأ رصد هذه المحطات في أواخر القرنين الخامس والسادس عشر، وكان من شأنها بناء منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة تماما عما كانت عليه، إلى الحد الذي بدأ النظام الدولي معه يدين بأساسيات فكرها وتطور تجربتها، وفي التقدير أنه يمكن رصد هذه المتغيرات في المحطات التالية:

المحطة الأولى: لقد خرجت أوروبا من القرون المظلمة في حالة سياسية واجتماعية واقتصادية متردية للغاية فكانت اقتصادياتها مبنية على الاقتصاديات السائدة وعلى رأسها الزراعة والرعي وبدرجة أقل الصناعة، فكانت الصناعة بدائية مبنية على أسس الورش فيما عرف بالـGuild System، فكانت هذه الورش هي عماد العمل في المدن الكبرى والمتوسطة، وقد ولّد هذا النظام المبني على أسس الإقطاع حالة من الركود السياسي والاجتماعي استمرت لقرون ممتدة، ولكن بحلول مطالع القرن السادس عشر بدأت المعادلة السياسية لأوروبا تتغير بسبب الاستكشافات الجغرافية خاصة اكتشاف كولومبس للقارة الأميركية واكتشاف البحارة البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح وهما الاكتشافان اللذان فتحا على أوروبا طاقات متجددة من الثروة والفائض المادي والذي بدأ بدوره يؤثر على التركيبة الاقتصادية ومن بعدها الاجتماعية والسياسية، خاصة بعدما بدأت أوروبا تستعد لعمليات استعمار موسعة في القارات الجديدة، لا سيما في أميركا اللاتينية وآسيا.

أدى هذا التغير إلى بداية ظهور ما يسمى بالنمط الذي يسبق المرحلة الرأسمالية Pre - capitalism والذي بشر ببداية انقشاع سحابة النظام الإقطاعي وما مثلته من تخلف طال أمده، فلقد أدى الأمر إلى استعداد أوروبا لاحتضان الثورة الصناعية الأولى والثانية والتي منحت للأقطار الأوروبية ميزة لم تكن موجودة لدى الدول الأخرى وعلى رأسها الصين واليابان والعالم الإسلامي، وقد أدى هذا لاعتناق أوروبا للنظام الرأسمالي تدريجيا مما فتح المجال أمام بزوغ طبقات اجتماعية جديدة كسرت بدورها الحكر الارستقراطي.

المحطة الثانية: بدأت أوروبا تمر خلال مطلع القرن السادس عشر بعملية حراك فكري وسياسي واسعة النطاق، فلقد نتج عن حركة الإصلاح الديني في أوروبا والتي قادها الراهب مارتن لوثر عام 1517 حالة من التحرر الفكري، حيث أدت هذه الحركة إلى كسر الحكر الفكري الذي فرضته الكنيسة على النظام الاجتماعي الأوروبي، فلقد تحدى هذا الراهب الشاب الكنيسة الكاثوليكية بكل ثقلها وناقض تعاليمها، بل إنه ترجم العهدين القديم والحديث إلى الألمانية كاسرا بذلك الحكر الكنسي على الدين وتعاليمه، وقد أدت هذه الحركة بشكل عام لظهور تيارات فكرية وسياسية واجتماعية واسعة النطاق وهو ما مهد لبداية ظهور الفكر التعددي في القارة الأوروبية.

المحطة الثالثة: في حقيقة الأمر فإن العاملين السابقين تفاعلا بقوة ليلدا لنا نظاما أكثر انفتاحا وتعددية يفتح المجال أمام مزيد من التعامل التفاعل الاجتماعي والسياسي بحيث أصبح الفكر الشمولي الديني محل شك، ومع مرور الوقت بدأت فكرة الحرية تخرج من تحت عباءة القهر السلطوي سواء السياسي أو الديني في القارة الأوروبية والتي كرسها الشعار الشهير «إله واحد وإمبراطور واحد» ممثلا لاتحاد الكنيسة الكاثوليكية مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة لاحتكار السلطة في العالم الأوروبي، فكان ذلك بداية للبنة الأساسية للفكر التعددي والديمقراطي ولكنه أمر أخذ قرونا ممدة ليتطور ليصبح على شكله الحالي.

المحطة الرابعة: على الرغم من تفاعل العوامل السابقة فإن هناك عاملا أساسيا دفع بقوة لهذا التغيير على الساحة الأوروبية وهو ظهور طبقة البرجوازية الجديدة على الساحة، فلقد بدأت طبقة الرأسماليين تظهر تدريجيا في أوروبا مع التطور الصناعي وتغيير النظم الإنتاجية بها، خاصة في الدول المتقدمة صناعيا وأكثرها رأسمالية، فقد بدأت هذه الطبقة تسعى لاستيعاب القوى الارستقراطية التقليدية ومعها طبقة الإقطاعيين، وبدرجة أقل رجال الكنيسة، وكان الهدف الأساسي لهذه الطبقة هو الحصول على نصيب في عملية صنع السياسة والتأثير عليها، وهو أمر طبيعي بالنظر لأنهم أصبحوا متأثرين بنظام الحكم، كما بدأوا يسعون لتعديل الهيكل السياسي ليكون أكثر تعبيرا عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي للقارة الأوروبية خاصة مع وجود المصانع الجديدة وتحكمهم فيها، وهو أمر طبيعي فلقد كان النظام الرأسمالي منذ ميلاده يخلق رباطا بين هذه الطبقة والأنظمة الحاكمة سواء كان مستترا أو منظورا، فهناك مصلحة أساسية لهذه الطبقات مع الحكام والعكس صحيح، تماما كما كانت هناك مصلحة واضحة ومباشرة بين الملوك من ناحية والإقطاعيين من ناحية أخرى وهي المصلحة التي ولدت فكرة البرلمان والذي كان أساسا هدفه إيجاد علاقة تمنح الإقطاعي الحق في مناقشة الملك في فرض الرسوم أو الضرائب عليه، ومن هنا جاءت لبنة الشعار المعروف للثورة الأميركية «لا ضرائب بلا تمثيل»، ولكن مع تبدل دور الطبقات الاجتماعية بدأت عملية توريث السلطة من الطبقة الإقطاعية للطبقة الرأسمالية، وهو ما استدعى بدوره اهتماما واسعا بتطوير الفكر الديمقراطي والذي كان هدفه العملي والأساسي ضمان مشاركة رأسمالية في عملية اتخاذ القرار بما يحافظ على مصالح هذه الطبقة البازغة.

لقد كانت هذه هي العوامل الأساسية في تقديري التي وضعت أوروبا على طريق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أصبحت عليه اليوم، فتفاعلها هو الذي أدى لخلق شبكة من المفاهيم التي سنتناولها في المقالات التالية والتي أدت بدورها إلى تغيير أساسيات السياسة الدولية وخلق نظام أوروبي أصبح فيما بعد دوليا.