الثورة الفرنسية ومؤتمر فيينا

د. محمد عبد الستار البدري

TT

أشرنا في الأسبوع الماضي إلى تطور السياسة الأوروبية بعد اتفاقية وستفاليا في 1648 وكيف أن مفاهيم السيادة بدأت تتطور؟ وكيف أن الدول الأوروبية بدأت تطبق آليات توازن القوى للحفاظ على الأمن في مواجهة أي دولة تسعى لفرض الهيمنة على الساحة الأوروبية ككل؟ وهي السياسات الأوروبية التي ظلت قائمة حتى تاريخ الثورة الفرنسية في 1789. حيث كان لهذا الحدث أثره المباشر في تغيير مسيرة العلاقات الأوروبية بشكل غير مسبوق، فلم تكن الثورة الفرنسية مجرد حدث داخلي في فرنسا بل إن هذا الحدث يعد من أهم المؤثرات على الأحداث الخارجية.

لقد انطلقت شرارة الثورة الفرنسية من البرلمان وسرعان ما اندلعت في شوارع باريس وفي المدن الأخرى، وفي غضون أشهر قليلة عمت الثورة كل فرنسا وانتشرت معها قيم لم تكن معروفة لدى النظام الأوروبي وعلى رأسها فكرة المساواة والإخاء وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الليبرالية التي سعت الثورة لنشرها، وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على النظام الأوروبي ككل، فالدول المحيطة بفرنسا وعلى رأسها النمسا وبروسيا وبدرجة أقل روسيا كانوا من المؤمنين بنظريات الحكم المطلق للملوك، بالتالي كانت هذه الدول رافضة للفكر الليبرالي وما يمثله من خطر على مفهوم الشرعية السائد، وقد أدى تصميم النظام الثوري الفرنسي على مبدأ تصدير الثورة للخارج إلى اتجاه هذه الدول للتحالف ضد فرنسا من أجل حماية قيمها السياسية بعيدا عن هذا الفكر الجديد.

وبالفعل انجرف النظام الأوروبي نحو حرب ضروس ممثلة في نظام ثوري جديد ترأسه فرنسا مقابل سلسلة من التحالفات ضدها من قبل الدول المجاورة وغير المجاورة، وقد استمرت هذه الحروب الممتدة والتي لم يفرق بين مدتها سوى ثلاث هدن التقطت خلالها الدول جميعا أنفاسها لتستمر الحرب لمدة تكاد تصل إلى ثلاث وعشرين عاما حتى تم إلحاق الهزيمة بالنظام الثوري الفرنسي وتوقيع اتفاقية باريس في عام 1814. ثم تجدد الحرب مرة أخرى بعد هروب نابليون من منفاه في جزيرة «إلبا» والتي انتهت بهزيمة نابليون مرة أخرى في معركة ووترلو في 1815.

وحتى قبيل هزيمة فرنسا فإن دول التحالف الأوروبي الرابع عقدوا مؤتمرا مهما للغاية في فيينا عاصمة الدولة النمساوية من أجل تشييد النظام الأوروبي الجديد على أساس الفكر المحافظ والذي يلفظ كل التحركات والأفكار الثورية ويعيد إلى أوروبا الملوك والأمراء الشرعيين والذين غيرهم نابليون بونابرت بأقربائه وحلفائه، وقد أعاد هذا المؤتمر المهم التوازن للنظام الأوروبي من خلال الاتفاق على عدد من النقاط الجوهرية أهمها:

أولا: إعادة فرنسا لحدود عام 1792 دون القضاء عليها أو نزع أجزاء من أراضيها على النحو الذي كان متبعا في التسويات الأخرى، وذلك استنادا لمبدأ أن عدو الأمس قد يكون حليف الغد، وبالتالي ففرنسا دولة مهمة يحتاج لها التوازن الأوروبي، والهدف كان تقليم أظافر النظام الثوري الفرنسي وليس القضاء على الدولة.

ثانيا: وتأكيدا لضرورة موازنة القوة الفرنسية فقد قرر المؤتمر محاصرة فرنسا بسلسلة من التوزيعات السياسية والعسكرية لضمان عدم قيامها بتهديد النظام الأوروبي مرة أخرى، فتم توحيد هولندا وبلجيكا من أجل ضمان وجود قوة عسكرية شمال فرنسا، كذلك تم تقوية الدور النمساوي من خلال منحه مزيدا من النفوذ في إيطاليا من أجل ضمان التدخل ضد فرنسا عسكريا لو استدعي الأمر.

ثالثا: تم تحجيم التطلعات الفرنسية من خلال تقوية إسبانيا والبرتغال في الغرب لضمان قيامها بموازنة أي قوة فرنسية.

رابعا: تمت صياغة توزيعات القوة في شرق أوروبا بين دولة روسيا وبروسيا لضمان عدم قيام أي منهما بالسيطرة على شرق القارة وتهديد الأمن الأوروبي ككل.

هذا وقد حرص الساسة الأوروبيون على خلق نوع من التعاون على المستوى القاري من أجل دعم المبادئ المحافظة والتي تحارب أي فكر ثوري، وقد قاد هذا التحرك شخصية نمساوية لها وزنها على المستوى الدولي وهو «مترنيخ» والذي كان وزيرا للخارجية ثم أصبح فيما بعد رئيسا للوزراء، وقد عمد هذا الرجل إلى خلق نوع من التعاون المؤسسي والذي يعد في تقدير البعض اللبنة الأولى لأول تعاون متعدد الأطراف من خلال ابتكار نظام معروف باسم «نظام الكونغرس» (Congress) والذي بمقتضاه تجتمع لأول مرة الدول الأوروبية دوريا على مستوى القمة أو كبار المسؤولين من أجل مراجعة أحوال القارة وصياغة الأسس الشرعية التي يقوم عليها النظام الأوروبي، وبناء على هذه الاجتماعات للقوى الأوروبية الكبرى فقد تمت المحافظة على روح الفكر المحافظ في أوروبا حيث نظم مؤتمر «إيكس لاشابل» عام 1818 انسحاب القوى الدولية من فرنسا بعد عودة النظام الملكي إليها، بينما كفل مؤتمر «كارلسباد» سبل ضرب الحركات الليبرالية في الكونفيدرالية الألمانية، على حين كفل مؤتمر «تروبو» عام 1820 ضمان التدخل لضرب الحركات الثورية في مقاطعة نابولي، وقرر مؤتمر «فيرونا» تدخل فرنسا الملكية لضرب الحركات الثورية في إسبانيا والقضاء على التمرد الذي بدأ يواجه الملك الإسباني.

ومع مرور الوقت بدأ المسرح الأوروبي يواجه نوعا من الفرقة خاصة بعدما بدأت فرنسا تميل للتعاون مع بريطانيا على ضوء عودة الروح الثورية إليها بعد عام 1830 ثم 1848، وقد كان هذا التحالف الجديد بداية لتحالف استمر لمدة حقب طويلة وكان من السمات الأساسية التي ميزت النظام الأوروبي فيما بعد، فلقد أعيدت صياغة عملية التوازن الأوروبي بتحويله إلى فريقين الأول يضم روسيا وبروسيا والنمسا من ناحية والثاني يضم فرنسا وبريطانيا من ناحية أخرى.

ورغم ذلك، فإن الملاحظ هو أن التوازن السياسي الأوروبي الذي صاغه مؤتمر فيينا عام 1815 ظل بكل المعايير ناجحا لأنه استطاع أن يضمن حالة من السلم الأوروبي العام لمدة 99 عاما تخللتها حروب قصيرة ومحدودة على رأسها «حرب القرم» و«الحرب البروسية الفرنسية» عام 1870. ولكن أوروبا كانت على موعد مع قدر مخيف تمثل في الحرب العالمية الأولى والتي اندلعت نيرانها بعدما فشل النظام السياسي في المحافظة على توازنه الداخلي كما سنرى في الأسبوع القادم.