برويز مشرف.. العودة إلى المجهول

الرئيس الباكستاني السابق.. تحدى تهديدات طالبان.. ومخاطر السجن من أجل عيون السياسة

TT

عاد اسم الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف ليتصدر صدر الصحف المحلية والعالمية على حد سواء، لكنه بات غير مؤثر في المشهد السياسي الباكستاني الذي يتسم بالتعقيد.

لا شيء يجسد ذلك أكثر من حقيقة أن عدد الصحافيين والإعلاميين الذين استقبلوه في مطار كراتشي عقب عودته من المنفى الاختياري الذي فرضه على نفسه لمدة أربع سنوات كان أكثر من عدد أنصاره ومؤيديه الذين جاءوا للترحيب به.

وبعد سنوات طويلة من فقدان السلطة وبريقها، عاد الرئيس السابق ليسيطر على عناوين الصحف المحلية والعالمية. ومع ذلك، يجمع المحللون السياسيون على أن مشرف لم يعد له مستقبل في الحياة السياسية الباكستانية.

فالرئيس السابق الذي حكم البلاد منذ انقلاب 1999 حتى استقالته في 2008، حطت طائرته في كراتشي في الرابع والعشرين من مارس (آذار) الماضي، معلنا لمستقبليه عودته. وقال مشرف (69 سنة)، الذي ارتدى قميصا تقليديا مع عشرات من أنصاره المقبلين من كندا والولايات المتحدة وبريطانيا «عدت اليوم إلى بلدي، أين هؤلاء الذين قالوا: إنني لن أرجع أبدا؟». وردد العشرات لدى مرور موكبه «ديكتاتور، اشنقوه» وقذفه أحدهم بحذاء لم يصبه. وأعلنت حركة طالبان باكستان، أنها «أعدت وحدة من الانتحاريين خصيصا لقتل مشرف».

وبسبب تلك التهديدات، لم يستطع أنصاره إقامة مهرجانات استقبال كانت مقررة عند ضريح مؤسس باكستان محمد علي جناح، مما أرغم الجنرال المتقاعد على ارتجال مؤتمر صحافي، قال فيه «إن شعبي قال لي أن أعود لإنقاذ باكستان، حتى ولو على حساب حياتي.. أريد أن أقول للذين يطلقون التهديدات: إني مبارك من الله». وأضاف: «لا أخشى سوى الله، وبعودتي أعرض حياتي للخطر». وتابع قائلا في لهجة استنكارية «أين باكستان التي تركتها قبل 5 سنوات؟ إن قلبي اليوم يعتصر ألما للفقر والبطالة والتضخم»، داعيا إلى إنهاء الأعمال العدائية في كراتشي، التي تشهد حرب عصابات على خلفية تنافس سياسي وإثني واقتصادي.

ومشرف متهم في 3 قضايا.. هي اغتيال قيادي انفصالي في ولاية بلوشستان (جنوب غرب) المضطربة «أكبر بوغتي» في 2006. وبي نظير بوتو في 2007. وإقالة قضاة بغير حق في العام نفسه.

وجمد القضاء الباكستاني مذكرات توقيف بحق الجنرال مقابل كفالة قيمتها 300 ألف روبية نحو (230 يورو). وسيترشح مشرف إلى الانتخابات التشريعية الوطنية التي ستنطلق في 11 مايو (أيار) تحت لواء حزب «رابطة كل باكستان المسلم» الذي أسسه في المنفى.

وفي تعليقه على مستقبل مشرف السياسي، يقول رئيس تحرير صحيفة «الأمة» الباكستانية فصيح الرحمن «الجنرال مشرف سياسي سيئ، لكنه قادر على اجتذاب وسائل الإعلام بصورة غريبة».

ويرى الكثير من خبراء الإعلام أن بعض السمات الشخصية لمشرف تجعله قادرا على جذب وسائل الإعلام الباكستانية بشكل استثنائي، ففي أعقاب تنحيه عن السلطة، على سبيل المثال، كان الشعب الباكستاني والقوى السياسية يصبون اللعنات عليه بسبب الإجراءات المستبدة التي فرضها على المجتمع الباكستاني للحد من المعارضة السياسية، ولكنه أظهر شجاعة كبيرة واعتذر للشعب الباكستاني عن القرارات الخاطئة التي اتخذها خلال السنوات الأخيرة.

وقال خبير إعلامي رفض الكشف عن هويته: «لا أعتقد أن دوافع الإيثار وحب الآخرين هي التي دفعت مشرف للاعتراف بأخطائه على الملأ. في الحقيقة، ربما يكون مشرف أكثر الحكام دهاء ومكرا في تاريخ باكستان من حيث التعامل مع وسائل الإعلام».

وبدأ مشرف مسيرته السياسية بانقلاب عسكري، وعقد مؤتمرا صحافيا وقتها، قوبل باستنكار شديد من جانب الإسلاميين الباكستانيين وترحاب كبير من جانب وسائل الإعلام الغربية. وفي صباح الثالث عشر من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1999 (أي بعد يوم واحد من الانقلاب وإقالة الحكومة)، ظهر مشرف أمام مجموعة من الصحافيين الغربيين في مدينة روالبندي وهو يمسك بكلبين صغيرين. ويقول فصيح الرحمن «كان هذا هو اليوم الذي بدأت فيه وسائل الإعلام الغربية تدرك أن الجنرال مشرف ليبرالي التوجه».

وخلال أول زيارة له للهند عام 2000 لعقد قمة مع رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجبايي، أبهر مشرف وسائل الإعلام الهندية بشجاعته وجرأته، حين أعرب عن استعداده للدخول في مناقشات حول الأخطاء التي تنطوي عليها سياسة باكستان المتعلقة بإقليم كشمير، والتي ظلت لفترات طويلة إحدى النقاط التي يتجنب الحكام الباكستانيون الحديث عنها، ولا سيما أثناء زيارة الهند.

ولم يكتف مشرف بذلك، ولكنه أعرب عن استعداده لمعالجة الأخطاء الموجودة في السياسة التي تتبعها باكستان فيما يتعلق بدعم الجماعات المتشددة. وقال صحافي باكستاني بارز: «هذا هو ما جعله يحظى بحب وسائل الإعلام الهندية. واستمرت علاقة الإعجاب المتبادل بين مشرف ووسائل الإعلام الهندية حتى رحيله عن السلطة عام 2008».

وخلال فترة حكمه، أقام مشرف علاقات شخصية مع الكثير من الصحافيين الهنود البارزين الذين كانوا يؤيدونه في كتاباتهم عندما كان يواجه مشاكل مع معارضيه السياسيين في إسلام آباد. وعلى الجانب الآخر، كان الأمر يختلف تماما مع وسائل الإعلام الباكستانية، ففي بادئ الأمر نال مشرف إعجاب واحترام الصحافيين الباكستانيين ووسائل الإعلام الباكستانية بفضل شجاعته وجرأته. وعن ذلك يقول الصحافي الباكستاني البارز صهيل ناصر: «دائما ما كانت خطاباته ومؤتمراته الصحافية محط أنظار وسائل الإعلام».

والآن، عاد مشرف إلى باكستان في الوقت الذي تتجه فيه البلاد نحو مرحلة انتقالية سياسية جديدة وانتخابات ستكون هي الأقوى في تاريخ باكستان في ظل المنافسة الشرسة من الأحزاب السياسية الكبرى مثل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز شريف) وحزب الشعب الباكستاني، وعمران خان الذي اخترق الحياة السياسية بعد سنوات طويلة من احترافه للعبة الكريكيت. وفي ظل الأجواء السياسية التي تتسم بالغدر والخداع في باكستان، فقد تخلى الحلفاء السياسيون عن مشرف، رغم أنه هو الذي كان يدعمهم بكل قوة من خلال مؤسسات الدولة القوية عندما كان في السلطة. وقالت المتحدثة باسم حزب الرابطة الإسلامية لعموم باكستان آسيا إسحاق لصحيفة «الشرق الأوسط» إن الحزب، الذي تأسس قبل عامين عندما كان مشرف في منفاه الاختياري، كان بحاجة شديدة لوجود مشرف، مضيفة: «كان من المستحيل أن ينبض الحزب بالحياة في غياب مشرف، أما الآن فقد بعث الحزب من جديد بعد مجيئه».

وقالت إسحاق إن الرئيس السابق يعتزم خوض الانتخابات من دائرتين انتخابيتين في البلاد، مشيرة إلى أنه «سيخوض الانتخابات أولا من كراتشي ثم من مدينة شيترال في أقصى شمال البلاد».

ويرى محللون سياسيون أن كبرى الأحزاب السياسية ستدخل في منافسة شرسة في الانتخابات القادمة، وأن حزب الحركة القومية المتحدة، الذي كان في تحالف مع مشرف أثناء فترة حكمه الممتدة لمدة تسع سنوات، يهيمن على مدينة كراتشي، التي يعتزم مشرف الدخول في الانتخابات من خلالها. وعندما سألت «الشرق الأوسط» المتحدثة الرسمية باسم مشرف، آسيا إسحاق، عما إذا كان مشرف سوف يخوض الانتخابات ضد حلفائه السابقين أو ما إذا كان التحالف السابق سينسحب من الانتخابات لحساب مشرف، قالت إسحاق: «أنا لا أعرف، دعونا نرى ما سيحدث».

أما المدينة الثانية التي يعتزم مشرف المنافسة من خلالها فهي مدينة شيترال الواقعة في أقصى شمال البلاد والتي يهيمن عليها أحزاب دينية ليس لديها أي نية للانسحاب لصالح مشرف.

لكن مشرف لا يبدو مستعدا لرفع الراية البيضاء بعد، فقالت المتحدثة باسمه آسيا إسحاق إن الجنرال مشرف سيدشن قريبا حملة انتخابية في جميع ربوع باكستان، وإنه سيتوجه إلى المناطق المختلفة من البلاد للاجتماع بالأفراد ومخاطبة الحشود والترشح للانتخابات.

ومن المثير للاهتمام، أن الأحزاب السياسية الرئيسة في البلاد، مثل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز شريف) وحزب الشعب الباكستاني خططت لشن حملة انتخابية شرسة بدأت معالمها بالفعل في الظهور. فعلى سبيل المثال، انتقد رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف بشدة في مؤتمراته الانتخابية الدور الذي لعبه الجيش في السياسة. وبالمثل تباهى قادة حزب الشعب الباكستاني بهزيمة القوى المعادية للديمقراطية في البلاد. وقد تحاشى الحزبان ذكر اسم الجنرال مشرف صراحة في حملاتهم الانتخابية لكن كليهما كان يستهدف دون شك التاريخ الديكتاتوري للجنرال مشرف.

على الجانب الآخر، يمكن وصف أولى كلمات الجنرال مشرف في مطار كراتشي بغير المترابطة على الأفضل، والتي انتقد فيها مشرف الحالة السيئة التي صارت عليها باكستان في غيابه، بيد أنه كان مترددا في تحميل أي من الأحزاب المسؤولية على هذه الحالة. هذا التردد كان أكثر وضوحا في سياسة حزبه، فتقول آسيا إسحاق لمراسل «الشرق الأوسط»: «نحن ندخل السياسة بنبرة تصالحية».

لكن الخصوم السياسيين يرون في هذه النبرة التصالحية علامة على الضعف. برغم ذلك لم يظهر مشرف أي إشارة على التصالح مع الخصوم السياسيين خلال حكمه الذي امتد على مدى تسع سنوات، والتي حكم فيها مشرف باكستان دون تقاسم للسلطة مع أي مؤسسة أو شخصية عامة.

وقد ساعدت الصداقة الشخصية بين مشرف بالرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في تعزيز قبضته على السلطة في باكستان، بعد نجاحه في بعث الحياة في الاقتصاد الباكستاني الميت خلال بضع سنوات قليلة لحكومته.

وقال تنوير أحمد خان، وزير الخارجية الباكستاني الأسبق: «غيرت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة، الموقف وأسهمت بشكل كبير في تعزيز موقف الجنرال مشرف في هيكل السلطة وأخذ بيد باكستان للخروج من العزلة الدولية».

وعندما وقعت أحداث الإرهاب، كانت باكستان تواجه عامها الرابع من كساد شديد الوطأة. فشهد عام 2000 نسبة نمو بلغت 2.6% فقط، في انخفاض كبير عن متوسط معدل النمو 6.0% الذي شهدته البلاد في الثمانينات والتسعينات، وأدت أحداث 11-9 إلى تراجع حاد في الثقة في الأعمال التجارية في باكستان.

والجدير بالذكر أن باكستان واجهت ثلاث جولات من العقوبات في التسعينات 1990 بسبب برنامجها النووي والانقلاب، بيد أن انضمام باكستان في ظل قيادة مشرف إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، شجعه ذلك على طلب دعم اقتصادي طارئ من الولايات المتحدة. فأسقط الكونغرس الأميركي كل العقوبات السابقة قبل أن تنهال المساعدات الأميركية على باكستان، إضافة إلى ذلك قدمت الحكومة الباكستانية طلبا إلى واشنطن لإلغاء كل العقوبات الأميركية، وإسقاط الدين الباكستاني البالغ ثلاثة مليارات دولار، واستئناف المساعدات العسكرية والإسراع في صرف القروض من الولايات المتحدة والبنك الدولي. كانت استجابة الرئيس الأميركي جورج بوش سريعة، فتم رفع كل العقوبات الأميركية والسماح بتدفق المعونات. وككل القادة العسكريين السابقين استغل مشرف المساعدات الاقتصادية والعسكرية لدعم موقفه في بنية السلطة الباكستانية.

في الوقت ذاته شرع الرئيس مشرف في إنشاء بنية سياسية طيعة تدين بولائها الأول له. فأنشأت وكالات الاستخبارات الباكستانية بناء على أوامر منه حزب الرابطة الإسلامية الموالي له بعد إجبار سياسيين بارزين على تبديل ولاءاتهم والانضمام إلى حزب الرابطة الإسلامية الموالي للجنرال مشرف. تلا ذلك انتخابات 2002 التي شهدت، بحسب زعم أحزاب المعارضة، تزويرا فاضحا.

ويقول سهيل ناصر، الصحافي البارز في صحيفة بارزة تصدر باللغة الأردية: «سارت كل الأنظمة العسكرية السابقة على نفس الطريق، بتجديد حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية وعقد صفقات مع سياسيين بارزين لإكراههم على الحفاظ على ولائهم لحكم الجيش». استغل الرئيس مشرف وكالة الاستخبارات الباكستانية الرئيسية (آي إس آي) لإجبار السياسيين والإقطاعيين السياسيين على نطاق واسع للانضمام إلى حزب الرابطة الإسلامية الموالي لمشرف.

ويقول جواد هاشمي، المسؤول البارز في حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز) في لقائه مع «الشرق الأوسط»: «تم تجاهل الشعب الباكستاني بشكل كامل خلال سنوات حكم مشرف الذي امتد على تسع سنوات، حيث استغلت آلية الدولة لإنشاء حزب موال لمشرف».

امتزجت جهود مشرف بإنشاء كيان سياسي موال له بهجومه على الرموز المعروفة ورئيسي الوزراء السابقين بي نظير بوتو ونواز شريف، حيث ظل كلاهما في المنفى الاختياري طوال السنوات التسع لحكم الرئيس مشرف.

عندما صعد حزب الشعب الباكستاني إلى السلطة عام 2008. جاء دور مشرف في الخروج إلى المنفى، إذ لم يكن لديه خيار آخر فقد كان يواجه تهديدات أمنية على حياته من خصومه السياسيين والجماعات الجهادية مثل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز) الذي طالب الحكومة برفع دعوى الخيانة العظمى ضد مشرف. وبعد رحيله عن باكستان واجه الكثير من الاتهامات الجنائية بالقتل، حيث اتهم بمساعدة الجماعات المتشددة في قتل رئيسة الوزراء السابقة بي نظير بوتو، كما اتهم بقتل الزعيم القبلي، أكبر بوغتي في بلوشستان.

في الوقت الراهن، ونتيجة لعدم توافر آلية الدولة القوية لمساندته وحزبه السياسي في الانتخابات القادمة، لا يسع مشرف سوى الأمل في أن يتمكن من مواجهة التحديات القانونية التي تنتظره في صورة الاتهام بالقتل. وقالت المتحدثة باسمه، آسيا إسحاق لـ«الشرق الأوسط»: «أول ما يود مشرف القيام به هو المثول أمام المحكمة ومواجهة القضايا التي حيكت ضده. لكن برغم هذه الحالة من العجز، سيظل الرئيس السابق مصدرا جيدا للأخبار بالنسبة لوسائل الإعلام المحلية والعالمية».