ما بعد معركة «بلاط الشهداء»

TT

كثيرا ما تكون هناك معارك فاصلة في تاريخ البشرية، معركة تكون نتيجتها تغييرا كبيرا في النظام الدولي أو الإقليمي، ومثل هذه المعارك يكون لها آثار عميقة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي التقدير أن إحدى أهم هذه المعارك كانت معركة «بلاط الشهداء»، وفي التاريخ الغربي تشتهر هذه المعركة بمعركة «تورز» (Tours)، وفي مناسبات أخرى «بواتيه» (Poitiers)، ولعل كل مسمى له سببه، فـ«بلاط الشهداء» نسبة إلى شهداء المسلمين الذين سقطوا في هذه المعركة بعد هزيمة الجيش الإسلامي، أما المسميان الآخران فهما نسبة إلى المدينتين اللتين شهدتا على مقربة منهما أحداث المعركة، فتارة تنسب لمدينة تورز وتارة أخرى لمدينة بواتيه.

ولقد دارت رحى هذه المعركة في فترة مفصلية في التاريخ الإسلامي والغربي على حد سواء، فلقد كانت الدولة الأموية في أوج قوتها في عام 732 ميلادية في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، الذي شهد حكمه الذي دام عشرين عاما الاستقرار النسبي مقارنة بخلفاء بني أمية الآخرين، وقد كانت الدولة الأموية تسعى لتوسيع رقعتها السياسية والدينية على حساب الممالك الأخرى التي حولها، بينما كانت أوروبا تمر بمرحلة دقيقة للغاية، حيث كانت تستعد لملء الفراغ الناشئ عن انهيار الدولة الرومانية من خلال سعي الأسرة «الكارولنجية» لمحاولة تركيز السلطة لديها. وقبيل اندلاع معركة «بلاط الشهداء» بسنوات قليلة، كان الملك «بيبين الثاني » (Pepin) قد مات تاركا فراغا في السلطة، فدخلت البلاد في حرب أهلية قوية عام 714 ميلادية بين حفيده «إييدو» وابنه غير الشرعي «شارل»، وقد استطاع الأخير أن يهزم الأول وأن يستولي على الحكم، وبدأ يعضد من قوته من خلال التوسع شمالا في منطقة الراين الألمانية وشمال فرنسا، بينما فر الأخير إلى الجنوب. وقد استمرت حالة عدم الوفاق بين الطرفين طالما لم يظهر العدو الإسلامي أمامهم، وبمجرد أن هزم القائد الأموي عبد الرحمن الغافقي «إييدو» في معركة «بوردو» الشهيرة، فر الأخير إلى «شارل» وطلب منه التحالف ضد القوات الأموية الزاحفة على فرنسا، وقد وافق «شارل» على هذا التحالف شريطة أن يقسم «إييدو» على الولاء له وأن يضم جيشه إليه ليستعد لمحاربة المسلمين. لقد جاء عبد الرحمن الغافقي من الجنوب نحو الشمال، عابرا جبال البرانس التي تفصل الأندلس عن فرنسا، ومعه كثير من المسلمين الذين كان يأملون استيطان هذه الأرض الجديدة في جنوب فرنسا، وقد كانت قوات «الملك شارل» هي أهم عقبة أمام المسلمين للوصول لشمال القارة الأوروبية، وقد جهز المسلمون العدة لمواجهة هذا العدو الجديد من خلال تجميع الكثير من البربر والقبائل الأندلسية التي دخلت الإسلام إضافة إلى القوات العربية، وتختلف المصادر التاريخية في حصر عدد الجيش الإسلامي، فبعضهم يرى أنه وصل إلى ثمانين ألفا، بينما ترى مصادر أخرى أنه كان نحو ثلاثين أو خمسين ألفا، وذلك في الوقت الذي ترى المصادر الغربية أن جيش شارل بلغ قرابة ثلاثين ألفا، ولكن هذا الرقم غير دقيق، وفي التقدير فإن حجم قوات الجيشين كان متقاربا نوعا ما.

تتفق مصادر كثيرة على أن الجيشين تواجها لمدة سبعة أيام تقريبا، واقتصرت هذه المدة على المناوشات فقط، وتشير المصادر الغربية إلى أن السبب في ذلك هو أن شارل كان يخشى بأس الجيش الإسلامي الذي كان يفوق عدد جيشه، بينما ترى المصادر الأخرى أن هذه الفترة كان سببها ترقب القائدين لإيجاد الثغرة في الجيش الآخر، ولكن المؤكد أنه بمجرد أن بدأت المعركة شد المسلمون على جيش شارل بكل قوة، ولكن سلاح الفرسان لم يستطع أن يقهر العدو، وقد استمرت المحاولات دون فائدة، ولكن قبل انتهاء اليوم استطاع شارل أن يبعث بجزء من جيشه لتهديد معسكر المسلمين في الجنوب، وهو ما أدى لانكسار الجيش الإسلامي ومقتل الغافقي في المعركة. ترجع الكثير من المصادر الغربية هزيمة الجيش الأموي إلى أن المسلمين كانوا مكبلين بالغنائم إثر هجماتهم على المدن الفرنسية قبيل الدخول في معركة «بلاط الشهداء»، وبالتالي سعى المسلمون لمحاولة حماية الغنائم من الوقوع في أيدي فرسان العدو وهو ما سبب انسحابهم من أرض المعركة، بينما ترى بعض المصادر الإسلامية أن ما حدث كان سعي الكثير من المسلمين لمحاولة حماية أسرهم وذويهم من الوقوع في الأسر وهو ما كسر صفوفهم، ولكن أيا كانت الأسباب فالنتيجة واحدة وهي هزيمة الجيش الأموي وتوقف الزحف الإسلامي حتى سبعين كيلومترا من مدينة باريس، ولكن هذه المعركة كانت لها نتائج فاصلة في التاريخ الأوروبي والإسلامي على حد سواء، ومن أهم هذه النتائج ما يلي:

أولا: توقف الزحف الإسلامي الأساسي على غرب وشمال أوروبا، فلقد أدت هذه المعركة إلى كسر فرص المسلمين في تدشين دولة قوية لهم بعد سلسلة جبال البرانس، فلقد فشل المسلمون في إيجاد موطئ قدم لهم في هذه المنطقة تكون انطلاقة مستقبلية لغزو الشمال والغرب الأوروبي، وبذلك اقتصر الوجود الإسلامي على الأندلس، بينما وقفت آخر محاولات الدولة الأموية لفتح القسطنطينية في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو ما وضع الهيكل العام لتماس للدولة الإسلامية في القارة الأوروبية.

ثانيا: أدت هذه المعركة إلى تقوية الدور الهام لإمبراطورية الفرانكس Franks في القارة الأوروبية وملء الفراغ السياسي الناتج عن سقوط دولة روما، فلقد أدت هذه المعركة إلى بداية دولة قوية للغاية أسسها «شارل مارتل» (الذي لقب في ما بعد بـ«المطرقة»، لأنه كان يحمل الحديد في يديه أثناء هذه المعركة)، ولم يكن حفيده إلا الملك شارلمان العظيم الذي نصبه البابا إمبراطورا على الممالك الغربية في عام 800.

ثالثا: يقال إن هذه المعركة أدت إلى نشأة النظام الإقطاعي في أوروبا، حيث إن «شارل مارتل» وزع الكثير من الأراضي على قواده خلال هذه المعركة ثمنا لوقوفهم معه، ومن هنا بدأت فكرة ربط الإقطاع بالملك والنظام الحاكم في أوروبا.

والسؤال الذي حير الكثير من المؤرخين هو: ماذا كان سيحدث لو أن الغافقي استطاع أن يهزم شارل مارتل؟ وهنا، تثور عدة استنتاجات، أولها: أن القوات الإسلامية ما كان له أن تتقدم كثيرا، فالجو لم يكن مناسبا، كما أن القبائل الجرمانية كانت عدوا مهولا لم يكن للمسلمين طاقة بهم، خاصة أن الحرب كانت ستصبح حروب غابات وجبال، بينما يرى فريق آخر أن هذه الحرب لم تكن مستحيلة وكان يمكن للمسلمين أن يتغلبوا على هذه القبائل وكان يمكن مد حدود الدولة إلى مناطق الشمال والغرب الأوروبي ومنافسة الديانة الكاثوليكية، ولكن ظروف الدولة الأموية ما كانت لتسمح لها بلعب دور في هذا الإطار، فبعد خلافة هشام بن عبد الملك بدأت الدولة الأموية تضعف تدريجيا، وسرعان ما دخلت في حرب أهلية جديدة انتهت بخلافة بني العباس، ولو أن الدولة الإسلامية ركزت جهودها على الحرب لكان التاريخ قد تغير، ولكننا نعرف أن التاريخ لا يتغير.