بطرس الكبير صانع روسيا الحديثة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لا خلاف على أن بطرس الكبير Peter the Great هو من أهم الشخصيات التي غيرت مجرى التاريخ الروسي، فهو القيصر الذي أدت إصلاحاته ورؤيته لتغيير التاريخ الروسي ووضع هذه الدولة على مسار الدول المتقدمة في العائلة الأوروبية، وخلف هذه الأسطورة شخصية متناقضة الطباع، شديدة الهوى، عنيفة المنحي وشديدة البأس، وهي الصفات التي شاركه فيها كثير من الزعامات الروسية عبر التاريخ التي قُدر لهذا الشعب أن يتعامل معها لقرون ممتدة.

ولقد ورث بطرس الكبير حكم روسيا وهي في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية قاسية للغاية، فلقد سعى جدوده من قبله أن يوسعوا إقليم «موسكوفي» على حساب بولندا والسويد والقبائل التي تقطن أوكرانيا، وقد استطاع القادة الروس أن يطردوا التتار تدريجيا، وسعوا من أجل توسيع رقعة أراضيهم، ولكن روسيا لم تكن قوة عسكرية تُذكر كما أن اقتصادها كان بدائيا وهشا، فهي دولة كانت تعتمد على الزراعة في الأساس بينما كانت الصناعة مختفية تقريبا من الساحة الاقتصادية في البلاد، وقد نتج عن هذا التخلف الاقتصادي ظروف اجتماعية قاسية للغاية، فلقد استتب الفقر في البلاد ومعه جاء الجهل واللذان أنجبا حالة من العقم الفكري والاجتماعي حيث سيطر النبلاء أو «البويار Boyar» على الأراضي الزراعية ودخلت البلاد في نظام إقطاعي ليس ببعيد عن العبودية للمزارعين الذين أصبح أكثر من نصفهم مملوكين للإقطاعيين بسبب ارتفاع عبء الضرائب عليهم والاستدانة، ويلاحظ أيضا أن الكنيسة لعبت دورا هاما للغاية في الحفاظ على التقاليد المحافظة في البلاد وكانت عنصرا هاما في المعادلة السياسية تدفع نحو إبقاء الوضع على ما هو عليه.

لقد ولد بطرس الأكبر من الزوجة الثانية لوالده القيصر «أليكسيس» الأول، وقد تم وضعه مع أخيه في حكم مشترك تحت وصاية أختهما الكبيرة «صوفيا» بعد وفاة أخيه الأكبر، ولم تكن أخته بلا مطامع سياسية مع عشيقها، وقد كان أخوه يعاني من أمراض عضوية كثيرة كما أنه كان يعاني أيضا من خلل عقلي وبالتالي كانت الأعين كلها متجهة نحو بطرس على اعتباره المستقبل السياسي الحقيقي لروسيا.

لقد كان بطرس شخصية غير متوازنة لا جسديا ولا نفسيا، فلقد بلغ طوله أكثر من مترين وكانت تقاطيع وجهه تعكس صفات الخشونة، وكان يتحدث باعوجاج في فمه كما أنه كان يعاني من عدم اتساق يديه ورجليه مقارنة بجسده فكانت يداه صغيرتين للغاية مقارنة بجسده العملاق، أما شخصية هذا الرجل فقد كانت فريدة بعض الشيء في تاريخ القياصرة الروس، فلقد كان رجلا عنيفا، حاد المزاج، متقلب الهوى، ولم يكن قادرا على الجلوس إلا لدقائق معدودات يقوم بعدها بالتجول، وكان كثير العمل فلا ينام إلا القليل، ولم يعر الرجل في سلوكه أي اهتمام لتقاليد البلاط الملكي، فبعد فشل زواجه التقليدي تزوج خادمة من لاتفيا، وعلى غير عادة القياصرة فلم يحاول بطرس تعلم الرياضيات واللغات، ولكنه كان مولعا بأمرين هامين أثرا مباشرة على مستقبل روسيا وهما الفنون العسكرية والميكانيكية، كما أن فضوله دفعه لمحاولة فهم الأدوات والمعدات المختلفة وطريقة عملها، وهو ما ولد لديه حب التصنيع مما دفعه مستقبلا لمحاولة تحديث روسيا صناعيا، كما أن شغفه بالملاحة دفعه لبناء بحرية قوية وأسطولا تجاريا كبيرا.

بدأ بطرس صراعه مع أخته «صوفيا» من خلال انقلاب في القصر بمساعدة رجال والده الذين رأوا فيه القائد الأقدر على إدارة البلاد والحفاظ على مصالحهم أمام أخته وعشيقها، فدان له حكم البلاد بعد أن نفى أخته عن العاصمة وقضى على طبقة «الاسترلتسي Streltsi» العسكرية والتي كانت تشبه الانكشارية في الدولة العثمانية أو المماليك في مصر بعد محاولتهم القضاء على حكمه، وقد كان بطرس يضمر لهم الشر منذ أن عايش إحدى ثوراتهم وهو صغير وألقوا الرعب في قلبه فقرر التخلص منهم من خلال الإعدامات الجماعية وبدرجة أقل غرف التعذيب، وتشير المصادر التاريخية إلى أن الرجل قام بقطع رقاب الكثير منهم بيديه على مرأى ومسمع من الجموع الغفيرة.

وبالتخلص من هذه المجموعة دانت له البلاد ولكنه بدأ يواجه معارضة شديدة من الداخل، سواء من زوجته أو طبقة النبلاء وبالأخص الكنيسة ورجالها، فلقد كانت أطواره غريبة عليهم جميعا خاصة بعدما سافر في رحلة طويلة متنكرا إلى أوروبا قام خلالها بالعمل في موانئ روتردام بهولندا ليتعلم كيف يبني السفن، وقام بزيارة العلماء والمخترعين في الربوع الأوروبية، وعمل عاملا في إحدى المصانع الصغيرة، كما تعلم من البلاط الملكي في الدول التي زارها المراسم والأزياء الأوروبية الحديثة، فكانت محصلة الرحلة سعي الرجل لتحويل روسيا من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية كبرى أسوة بالدول الأوروبية الأخرى بما في ذلك تغيير العادات والتقاليد الروسية، وعند عودته بدأ يضع اللبنة الأولى من أجل تحقيق حلمه الكبير.

كانت أولى خطوات بطرس هي وضع اللبنة الأولى للجيش الروسي الحديث وهو نفس ما فعله محمد علي فيما بعد، فبنى الرجل جيشا على الطراز الأوروبي الحديث واستقدم الخبراء العسكريين من سائر الأنحاء الأوروبية كما أدخل الصناعات العسكرية الحديثة للتخديم على مشروع الجيش الوليد، ونظرا لاهتمامه بأن يكون الجيش الروسي وطنيا فقد أدخل نظام التجنيد، وهو بذلك من أوائل الملوك في أوروبا الذين قاموا ببناء جيش وطني نظامي في ذلك الوقت بعيدا عن المرتزقة والفيالق مدفوعة الأجر، وهو ما ساهم أيضا في تغذية الروح الوطنية. كذلك اهتم بطرس بإقامة أسطول بحري قوي من خلال شراء السفن أو بنائها في الموانئ الروسي بمجرد أن استطاع الجيش فتح منافذ بحرية، وتشير التقديرات التاريخية إلى أن البحرية بلغت قرابة خمسين سفينة كبرى وأكثر من ثمانمائة سفينة صغيرة.

أما في المجال الاقتصادي فقد أصر الرجل على تطوير البلاد صناعيا من خلال بناء المصانع الحديثة ونشرها في المدن الهامة بالبلاد، كما قام بالعمل على فتح مجالات أوسع للتجارة الخارجية كما سنرى من أجل تنشيط الاقتصاد الداخلي، وعلى الصعيد الاجتماعي قرر بطرس أن يُدخل تغييرات اجتماعية بقوة السلاح فأصر على أن يحلق للرجال لحاهم تشبثا بالغرب وعين حلاقا عند كل قرية ليجبر ذكورها على ذلك ومن اعترض منهم كان مصيره الضرب، كذلك أصر على تغيير الزي القومي في البلاد ليتواكب مع الغرب، فضلا عن إصراره على تحرير المرأة الروسية من خلال منحها الحقوق الأساسية وعلى رأسها الحق في الزواج بمن تختاره، وهي المتغيرات التي وضعته في معارضة شديدة مع تيارات الشعب المختلفة والتي بدأت تنظر له على اعتباره حليف الشيطان وعدو المسيح، وكانت الكنيسة تؤيد هذا التيار خاصة بعدما قرر عدم تعيين بطريرك جديد عام 1700 بعد وفاة الأخير، وأصر على أن تُحكم الكنيسة الروسية بمجمع من الأساقفة يرأسه أحد المعينين من طرفه كخطوة نحو تقليم أظافر الكنيسة.

وهكذا بدأ بطرس الكبير يستعد من أجل جعل روسيا قوة أوروبية كبيرة ويضعها على خريطة الدول الكبرى في القارة من خلال سلسلة من المناورات السياسية والعسكرية كما سنرى.