بطرس الكبير وبناء الدولة الروسية الحديثة

TT

تابعنا في مقال الأسبوع الماضي نشأة القيصر بطرس الأكبر، وكيف أنه استطاع خلال السنوات الأولى من حكمه أن يبسط نفوذه على مقاليد الحكم، وكيف أنه بدأ يدخل الإصلاحات الجديدة لكي يضع روسيا على خريطة القوى الكبرى في القارة الأوروبية، وبمجرد أن بدأ يطمئن للظروف المحيطة به وتأمين جبهته الداخلية بنفي أخته، وسارع بإدخال الإصلاحات الإدارية في البلاد فقام بتقسيم روسيا إلى محافظات على رأس كل واحدة منها محافظ يتم تعيينه من موسكو ويساعده في إدارة المحافظة مجلس من النبلاء، كما قام بتنظيم الدواوين الداخلية بإقامة وزارات على نفس النمط الأوروبي ووضع عليها رجالا أكفاء لإدارتها.

ولقد بدأ بطرس مشروعه الخارجي فكانت أولى العقبات التي واجهت الرجل حالة العزلة الجغرافية التي أحاطت ببلاده، فهي لم تمتلك موانئ بحرية يمكن أن تربطها بالعالم الخارجي، وهو ما أدى إلى عدم قدرتها على التواصل تجاريا أو ثقافيا مع أوروبا كما كان يهدف، فضلا عن أن الطرق البرية كانت وعرة وغير صالحة للاستخدام لمدة أشهر طويلة في السنة بسبب البرد القارس إضافة إلى أنها كانت تمر ببولندا والتي كانت في حالة عداء شبه مستمر مع روسيا، وتكالب كل هذه العوامل دفع بطرس الأكبر للاتجاه غربا لإيجاد المنفذ البحري على بحر البلطيق، تماما مثلما فعل بالاستيلاء على ميناء أزووف في البحر الأسود من الدولة العثمانية بهدف إيجاد منفذ بحري جنوبي يضمن طرق التجارة لبلاده.

أما على الصعيد الدولي فلقد كانت روسيا تعاني من تعالي السويد والتي استطاعت خلال حكم الملك «جوستافوس أدلوفوس» أن تصبح القوة المهيمنة على شمال القارة الأوروبية بفضل جيشها القوى والذي لم يستطع أحد مواجهته خاصة أثناء «حرب الثلاثين عاما»، وبالتالي كان الصدام مع السويد أمرا حتميا حتى يمكن لبطرس أن يجد المنفذ البحري المطلوب، ولكنه لم يرد أن يكون وحيدا في هذا الصراع فعقد تحالفا مع الدنمارك وبولندا لمهاجمة السويد وكسر هذا المارد مستغلا حداثة سن الملك الشاب «شارل الثاني عشر» بعدما تولى مقاليد الحكم، ولكن على عكس كل التوقعات فإن الملك الشاب كان مولعا بالعلوم العسكرية وسرعان ما قام بتجهيز جيشه وقاد حملة عسكرية سريعة إلى الدنمارك فاحتل عاصمتها وفرض عليها صلحا مذلا، ثم استدار لمواجهة بطرس وجيشه والذي سعى بكل الوسائل للسلم معه وتفادي الحرب بعدما رأى هزيمة الدنمارك، ولكن الملك الشاب تجاهل كل شيء وقاد جيشه وهزم الجيش الروسي الوليد هزيمة ساحقة في معركة نارفا عام 1700 خسرت روسيا بسببها أراضي كثيرة ومعها كبرياءها، ومع ذلك لم يدخل اليأس قلب القصير الروسي إذ إنه سرعان ما بدأ يعيد بناء جيشه بشكل أكثر تنظيما متعلما من دروس الهزيمة، واعتمد في ذلك على المستشارين الأوروبيين لبناء الجيش الروسي الحديث حيث منحهم بطرس الأكبر تسهيلات كثيرة بما في ذلك الجنسية الروسية، وقام بتزويد هذا الجيش بالمعدات الحديثة التي بدأت صناعته تنتجها، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يجمع جيشه فبدأ يستعد للجولة الثانية مع الجيش السويدي، وبالفعل اندلعت الحرب وأصر الملك السويدي أن يلقن بطرس درسا عسكريا جديدا، ولكن الرجل كان قد تعلم من هزيمته السابقة ولجأ لاستخدام سياسة الأرض المحروقة حيث أصر على استدراج الجيش السويدي إلى موسكو تدريجيا وتركه فريسة للثلوج والجوع حتى استطاع أن يرهقه ثم واجهه في معركة بوتافا الشهيرة حيث استطاع أن يهزم الجيش هزيمة نكراء، وتشير المصادر التاريخية إلى أن آلاف الجنود السويديين ماتوا بينما استسلم باقي الجيش، وهو ما دفع الملك شارل الثاني عشر للفرار واللجوء لبلاط الدولة العثمانية ليقيم تحالفا جديدا ضد بطرس، وقد استمر الملك في منفاه إلى أن عاد لبلاده مرة أخرى ولكنه لقي حتفه في معركة بالنرويج، وبهزيمته انكسرت شوكة السويد واضطرت للتصالح مع روسيا بشروط مذلة في اتفاقية «نيشتاد Nystad» حيث استولت الأخيرة على أراض كثيرة من دول البلطيق وهو ما منح روسيا أخيرا المنفذ البحري الذي كانت تطمع فيه ليفتح لها منفذا للتعاون مع أوروبا.

أما على الصعيد الجنوبي فإن القصة كانت مختلفة تماما، فجهوده لفتح منفذ بحري جديد على حساب الدولة العثمانية باءت بالفشل حيث وجد نفسه محاصرا من القوات العثمانية بسبب اندفاعه العسكري وهو ما اضطره لتسليم ميناء أزوف بالبحر مقابل الهروب من الهزيمة المحققة.

وهكذا استطاع بطرس الكبير أن يحقق لروسيا الكثير من خلال سياسته العسكرية والخارجية، وتشير الإحصائيات إلى أن الرجل استطاع أن يزيد رقعة بلاده من 2.1 مليون ميل مربع إلى 5.9 مليون وجعلها القوة الإقليمية المهيمنة في الشمال الأوروبي بدلا من السويد، وهو الموقع الذي لم تفقده روسيا حتى في أحلك الظروف السياسية.

أما على الصعيد الداخلي، فلقد كان بطرس الكبير هو مؤسس روسيا الحديثة، فهو الذي اتخذ الخطوات الجريئة والقوية لوضع بلاده كقوة صناعية وليدة، كما أنه قاد الحملة القوية التي أدخلت روسيا ضمن القوى الأوروبية وفتح جسور العلم والتعليم في بلاده، كما أنه بنى عاصمته الجديدة في مدينة سان بطرسبورغ حيث أصر على أن تكون العاصمة الجديدة بعيدة عن القوى الروسية التقليدية وليسمح لنفسه بنسج فكر سياسي واجتماعي جديد في هذا المدينة بعيدا عن مراكز الجذب المحافظة التقليدية، ومع ذلك فإن القدر لم يمهله كثيرا حيث مات الرجل عن عمر لم يتخط الرابعة والخمسين، ولكنه ترك روسيا دولة مختلفة، دولة على أعتاب التقدم فاستطاعت خلال فترة وجيزة أن تصبح من أهم القوى الدولية.

حقيقة الأمر أن الجدل حول بطرس يظل محتدما، وأغلبية الآراء رغم التحفظات التي أبدتها على وسائله إلا أنها ترى أن الرجل استطاع بالفعل أن يقود روسيا إلى عالم أفضل ما كان من السهل أن تصل إليه في ظل الظروف الاجتماعية والثقافية المتردية وحالة التخلف الحضاري والفكري والعلمي، فلقد استخدم الرجل سياسة الصدمات ولكن الثمن كان باهظا، كما أن طريقته كان قاسية للغاية، بل إن الثابت تاريخيا أن الرجل عذب ابنه عذابا شديدا لأنه كان يعتقد أنه يتآمر مع أمه ضده، وأيا كان حكم التاريخ على بطرس الكبير، إلا أن الثابت والذي لا مجال للشك فيه هو أن هذا الرجل كانت له رؤية سياسية وقدرة حقيقية على تنفيذها، مما جعله مؤسس روسيا الحديثة.

* كاتب مصري