الرشيد بين العظمة والسياسة

TT

هناك شبه اتفاق بين المؤرخين على أن خلافة هارون الرشيد تعد بكل المقاييس أعلى نقطة مجد وصلت إليها الخلافة العباسية، فلقد كان هارون الرشيد أحد أقوى وأعظم الشخصيات السياسية في التاريخ الإسلامي، فهو ليس رجل دولة حازما وقويا فقط، بل هو مثال للترف والبذخ والعظمة والهيبة والرهبة، فهو مزيج مختلف لمفهوم الخلافة لم ينافسه فيه أحد من الخلفاء العباسيين قبله أو بعده، ففي عهده قويت الدولة الإسلامية واستتب الأمن والأمان في ربوعها، وشهدت نهضة عظيمة في كل المجالات.

حقيقة الأمر أن الرشيد ورث دولة قوية من أخيه الهادي الذي يقال إنه مات في ظروف غامضة، بل إن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن أمه الخيزران كان لها دور في موته، وفي كل الأحوال فإن الخلافة آلت للرشيد وهو في الخامسة والعشرين، ولكن خبرته في الحياة السياسية كانت قوية، حيث كان والده قد عهد إليه بعدة ولايات من قبل فتعلم كيف يقود ويدير دولة، فلما آلت إليه الخلافة استطاع أن يسيطر على مقاليد الأمور بلا مشكلات تذكر، وهو ما أسهم في الانطلاقة الحضارية للدولة الإسلامية في عهده.

وتشير أغلبية من المصادر التاريخية إلى أن الرشيد كان قوي الشخصية حاد المزاج، ولكنها تجمع على أنه كان كريما مع من يستحق ومن لا يستحق، كما أنه كان فصيحا بليغا، يحيط نفسه بالشعراء مثل أبي العتاهية، كما أنه كان واسع الصدر والعطاء للعلماء، والذين كانوا مقربين له ولمجالسه في القصر، وفي عهده تم تأسيس بيت الحكمة الذي أصبح منارة فكرية وعلمية واسعة النطاق، وتم الاهتمام في عهده بعلوم الدين والعلوم الأخرى وأصبحت بغداد بالفعل منارة للعالم الإسلامي وغير الإسلامي على حد سواء، وقد اشتهر عهده ببناء القصور العظيمة في ربوع بغداد، والتي صارت من أجمل مدن العالم.

وعلى الرغم من القوة والعظمة التي كثيرا ما توصف بها دولة هارون الرشيد، فإن خلافته لم تكن خالية من المشكلات والثورات الخارجة عليه، ونرصد هنا أهم الحركات التالية:

أولا: حركة يحيى بن عبد الله، وهو أحد الفارين من معركة «فخ» التي انتهت بهزيمة الثائر الشيعي الحسين بن علي بن الحسن، فما كان من الرجل إلا أن هرب إلى «الديلم»، حيث بدأ يجمع القوى والأنصار حوله ضد الخلافة، والتي آلت إلى الرشيد في ذلك الوقت، فاشتد عوده فأرسل له الرشيد الفضل بن يحيى على جند كثيف، ولكن الأخير آثر استمالته بدلا من قتاله، فأمنه الرشيد بكل الكتب، ولكنه سرعان ما ألقي القبض عليه ناقضا عهده تماما مثل أجداده مع أعدائهم، ولكنه أفرج عنهم بعدما تأكد من عدم خطورته.

ثانيا: حركة إدريس بن عبد الله، وهو أيضا أحد الفارين من معركة «فخ»، فهرب إلى مصر ثم توجه إلى المغرب، حيث التف حوله البربر واعتنقوا فكره ودانوا له بالولاء، وسرعان ما بدأت تقوى شوكة الرجل، فما كان منه إلا أن أعلن دولته المعروفة بدولة الأدارسة، ولكن هارون الرشيد تعامل معه بحرص شديد، حيث كان يخشى من إرسال جيش يلقى هزيمة على أيدي البربر المعروفين بشدة بأسهم، فيكون ذلك نموذجا ناجحا للانفصال عن المظلة العباسية، فأرسل له أحد رجاله ويقال إنه دس له السم، فمات الرجل ولكن البربر لم ينفضوا من حوله، فدانوا بولائهم لابنه الذي ولد بعد مماته، فاستمرت دولة الأدارسة، وبالتالي لم يجد الرشيد بدا من إسناد ولاية تونس إلى إبراهيم بن الأغلب ليقف حائلا أمام هذه الدولة الصاعدة.

ثالثا: لعل الخوارج كانوا العدو والقاسم المشترك للدولتين الأموية والعباسية على حد سواء، فلقد ثاروا في العهد العباسي منذ بدايته، وقد شهدت فترة حكم الرشيد خروجا للخوارج مرة أخرى، خاصة حركة الوليد بن طريف سنة 178 هجرية، فأرسل لهم يزيد بن مزيد والذي استطاع أن يهزمهم ويقضي على خطورتهم، ولكنهم ظلوا قرحة سياسية في الخلافة العباسية.

ولعل من أهم إنجازات هارون الرشيد صراعه مع دولة بيزنطة، فيدون لنا التاريخ أنه قاد أثناء خلافة والده الجيش العباسي في معركة خليج القسطنطينية، حيث هزم جيش بيزنطة هزيمة نكراء استسلم بعدها لمطالب الجيش العباسي ومنها دفع جزية قدرها سبعون ألف دينار، ولكن بعد اعتلاء الرشيد سدة الحكم حدث انقلاب في القصر البيزنطي أطاح بالمرأة التي كانت تحكم وأتي بشخص يدعى «نقفور»، والذي سرعان ما أرسل للرشيد كتابا وقحا تضمن قوله «من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب.. لتعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ، فأد إليَّ ما كانت المرأة تؤديه إليك»، أي أنه يطلب منه أن يدفع قيمة الجزية له، فما كان من الرشيد إلا أن انفعل، فكتب على ظهر الرسالة رده، والذي جاء فيه: «من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.. أما بعد فقد فهمت كتابك والجواب ما تراه لا ما تسمعه»، وبهذه البلاغة غير الدبلوماسية كانت نية هارون واضحة، فلقد تجددت الحرب بين الرشيد وبيزنطة مرة أخرى، فدارت معركة هرقلة الشهيرة وانتهت بهزيمة جيوش «نقفور»، والذي عاد ليدفع الجزية مرة أخرى، ولكنه سرعان ما نقض عهده فأرسل له هارون جيشا جديدا ضرب هرقلة مرة أخرى فاضطر الرجل للخضوع لشروط هارون الرشيد مرة أخرى.

وعلى الرغم من العلاقات المتوترة مع دولة بيزنطة، فإن الرشيد كانت له علاقة قوية مع الإمبراطورية «الكارولنجية» المكونة من القبائل الفرانك Franks ممثلة في الملك شارلمان العظيم، وهذه العلاقة كانت ممتدة قبل وبعد خلافة الرشيد لأسباب تتعلق بسعي العباسيين لاحتواء الدولة الأموية في الأندلس، مثبتين حقيقة أساسية وهي أن السياسة تعتمد على توازن القوى لا على الولاءات الدينية، فها هي دولة إسلامية تفتح جسور الود مع دولة متاخمة لدولة إسلامية معادية.

وحقيقة الأمر أن خلافة الرشيد ستظل تمثل في وجدان كل مسلم المثال الحي للقوة والعظمة والعلم والفن والفكر وبالأخص الهيبة السياسية، وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن الدولة تعتمد على رجال دولة لتتبوأ مكانتها في كتب التاريخ وبين الدول.