نكبة أسرة

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي بعض نماذج من الساسة الذين تم التخلص منهم على أيدي الخلفاء العباسيين بعد أن استتب لهم الحكم، وهو ما يكاد يكون نمطا تقليديا للخلفاء العباسيين، بما يشبه حالة من بارانويا سياسية ممتدة، حيث عانى الخلفاء العباسيون من الخوف المستمر من أي نفوذ ممتد داخل البلاط السلطاني، ولكن العباسيين لم يكن هذا شأنهم وحدهم، فهناك نماذج كثيرة لمن أطيح بهم على مر التاريخ وفي بقاع الدنيا المختلفة، ولكن التاريخ لم يسجل نماذج كثيرة لأسر ممتدة النفوذ عبر أجيال يتم القضاء عليها من قبل السلطة الحاكمة في لمح البصر، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي أسرة قدمت رجال دولة على مدار أجيال تم الإطاحة بها مثل أسرة البرامكة في العهد العباسي، فكانت نهايتهم على أيدي الخليفة هارون الرشيد.

ترجع العديد من المصادر بداية النفوذ السياسي للبرامكة إلى عهد الخليفة السفاح أول الخلفاء العباسيين، واستمر قرابة نصف قرن من الزمان حتى عام 187هـ، وكان خالد بن برمك هو مؤسس هذه الأسرة، وهو من أصول فارسية، وينسب إلى جده الذي كان أحد الكهنة المجوس، وقد انضم خالد إلى جيش قحطبة بن شبيب فأبلى بلاء حسنا حتى لفت انتباه السفاح فعينه على الخراج، فنظم التحصيل وضبط الأموال والدفاتر ثم أصبح أحد وزراء الخليفة، وبدأ نجمه يسطع في سماء القصر، ورغم المحاولات اليائسة لضرب نفوذه داخل القصر على أيدي الوزراء الآخرين فإن الرجل صمد أمام هذه المحاولات، ونرى أن ابنه يحيى بدأ يتربى في القصر مع أولاد أبي جعفر المنصور كأنه واحد من الأمراء، بل إن بعض المصادر التاريخية تؤكد أن أولاد الرجل كانوا إخوة في الرضاعة للرشيد وغيره من الأمراء والخلفاء العباسيين، وهو ما دفع الرشيد ليلقب يحيى بن خالد «يا أبت»، حيث كلفه الخليفة المهدي بكفالة ابنه الرشيد فنشأ مع أولاده الأربعة: الفضل وجعفر ومحمد وموسى.

ولقد استوزر العباسيون البرامكة جيلا بعد جيل إلى أن جاء الدور على أولاد يحيى بن برمك الأربعة، وقد قوي نفوذهم بشكل كبير في عهد الرشيد، ليس فقط لكونهم إخوة في الرضاعة، ولكن لأن الرشيد في النهاية مدين لوالدهم يحيى بالفضل في السلطان، فلولا يحيى وإصراره وضغطه على الرشيد لعدم التنازل عن العرش لصالح ابن أخيه الهادي معرضا حياته للخطر، لكان الرشيد قد تنازل عن الخلافة مقابل الزواج من زبيدة ابنة عمه التي كان شغوفا بها، ولكن يضاف إلى كل ما سبق أن الإخوة البرامكة كانوا على دراية كاملة بفنون إدارة الدولة والبلاط، فكانوا بحق تربية أبيهم يحيى، فلقد برع الفضل أخو الرشيد في الرضاعة في مجالات إدارة الدولة، فعهد له الرشيد بالديوان والختم، فكان هو الحاكم والناهي لا سيما مع تقلبات المزاج التي كان يعاني منها الرشيد، وينسب للرجل أنه استطاع أن يقضي على فتنة يحيى بن عبد الله، كما أنه كان من ذوي القدرات الفائقة في التنظيم الداخلي، وكان لجعفر بن يحيى بدوره نفوذه الذي لا يقل أهمية عن أخيه، بل إن جعفرا أخذ الخاتم من أخيه الفضل، وأصبح الاثنان يسيطران معا على جانب كبير من النفوذ لدى الرشيد، فذهب بعض المؤرخين إلى اعتبار البرامكة أقوى من الرشيد نفسه في مناسبات عديدة.

وكما هي طبيعة السياسة والدسائس، فإن أسرة البرامكة لم تتمكن من السيطرة على نفوذها لدى الرشيد مدة طويلة، فهم لم يكونوا وحدهم في الصراع المباشر على امتلاك مفاتيح دولة العباسيين، فلقد كانت هناك تيارات مناوئة وشخصيات هدفها الأساسي هو الانتقاص من البرامكة لإحلال الفراغ السياسي المناسب ليستطيعوا هم ملئه، خاصة شخصية مثل الفضل بن الربيع، وهو ابن الربيع بن يونس الذي كان يعمل أيضا في وزارة العباسيين، وكانا الأب والابن على قدر كبير من الوضاعة والدنو الأخلاقي، فسعى الفضل إلى التقرب من الرشيد تدريجيا على مدار سنوات حتى استطاع أن يعكر صفو السكينة التي كانت بين الرجل والبرامكة، خاصة عندما بدأ يوشي له بأن الفضل وأخاه جعفرا لا يقدمان فروض الاحترام والطاعة الواجبين للخليفة، ثم بدأ يهاجمهم من حيث زيادة رقعة نفوذهم وسيطرتهم على خيوط اللعبة السياسية، وهو ما بدأ يقلق الرشيد تدريجيا.

لقد بدأت نكبة البرامكة كما تسجلها كتب التاريخ أثناء عودة الرشيد مع جعفر من الحج، وكان الرشيد قد نوى التخلص من الأسرة تماما، ولذلك بدأ الرجل يضمر المكيدة لهم، فكلف الرشيد أحد رجاله عقب عودته من الحج بالذهاب إلى قصر جعفر مطالبا برأسه، فتردد الرجل لأنه كان يعرف مدى نفوذهم، ولكن الرشيد كان أقوى منه، فما كان من عامله إلا أن أطاع الأمر، ولما استنجد جعفر بعامل الرشيد تحت حجة أن الرشيد قد لا يكون في وعيه، أخذ الرجل جعفرا معه إلى القصر، ولما تأكد من أن الرشيد يريد فعلا التخلص منه خرج وضرب عنقه، وأتى بها له، وفي الليلة نفسها أرسل الرشيد لكل عماله يطلب منهم التنكيل بالبرامكة، فصادر كل ممتلكاتهم وقصورهم كما أمر بهم في السجون دون أن تأخذه أي شفقة بهم، وهكذا فإن ما بنته الأسرة من مجد ونفوذ سياسي على مدار نصف قرن أضاعه الرشيد بقرار منه في ليلة واحدة.

لقد كانت هذه قصة البرامكة، وهي في حقيقة الأمر رمز من رموز ضحايا ما يمكن وصفه بشهوة الاقتراب من دائرة السلطة، فكم من الساسة والأسر تم القضاء عليهم بقسوة بعدما قدمت أياديهم من خدمات! ولكن هذه سنة السياسة، خاصة عندما لا يدرك المرء أين يقف نفوذه، فتقنين السلطة والنفوذ والقدرة على تخفيف وطأة الاستعداء هي مفتاح البقاء في هذه الدائرة الصغيرة المقربة من الحاكم، وأمام هذا المثال السياسي لأسرة البرامكة فلا يستطيع المرء إلا أن يتذكر حكمة المولى عز وجل: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير». فضلا عن المثال القائل «إن السلطان هو من بعد عن السلطان».