السيسي.. جنرال في قلب الأحداث

وزير الدفاع رقم 44.. من اتهامات بالميل لفكر «الإخوان» إلى الانحياز للمحتجين ضدهم

TT

يجمع وجه الجنرال عبد الفتاح السيسي بين البشاشة والصرامة، ويشبه وجوه ملايين المصريين ممن يعملون في ظروف صعبة، مع ابتسامة تعكس الإصرار والتحدي.

أطلق عليه قطاع عريض من الشعب «صوت الوطن» حتى قبل أن يعلن الجيش انحيازه للملايين التي خرجت للشوارع رافعة مطلبا واحدا: «رحيل الرئيس». وتولى الجنرال، السيسي، موقع وزير الدفاع والإنتاج الحربي، في ملابسات دراماتيكية اقترنت بمقتل 16 من جنود حرس الحدود في سيناء، وشائعات غير مؤكدة راجت وقتها عن مؤامرات حاكتها أطراف في جماعة الإخوان المسلمين، لإزاحة الرجال الأقوياء في الجيش من أمام الرئيس القادم من الجماعة، محمد مرسي.

وعند تولي السيسي موقعه في أغسطس (آب) العام الماضي ساد الاعتقاد بأن الجنرال يوالي الرئيس وأنه يميل لفكر جماعة «الإخوان» ويتستر على ملفات غامضة للجهاديين الإسلاميين الذين قتلوا الجنود المصريين في سيناء، رغم القيام بعملية هناك تحت اسم «نسر» لملاحقة الإرهابيين، لكن الجنرال بدأ يظهر رويدا رويدا رجلا هادئا وحازما في الوقت نفسه. وقال الجيش وقتها، ودون ضجيج، إنه سيكشف عن التحقيقات في مقتل جنوده، إلا أن الرئاسة ردت بأنه ليس من صالح الدولة الكشف عن قتلة الجنود الـ16 أو خاطفي جنود الأمن السبعة في سيناء في العملية التي جرت قبل شهرين. ومن هنا، بدأ يتضح للمراقبين أن العلاقة بين الرئيس المدني والجنرال ليست على ما يرام.

والسيسي هو وزير الدفاع رقم 44 في تاريخ وزراء الجيش المصريين، منذ الوزير الشهير أحمد عرابي الذي كان «ناظر الجهادية (وزير الدفاع)» في عهد الخديو توفيق، أواخر القرن التاسع عشر. ووفقا لمعلومات حصلت عليها «الشرق الأوسط» عن شخصية السيسي، فإنه هادئ الطباع، ويواظب على الصلاة بصفته رجلا مسلما وسطيا ومعتدلا، ومحب للقراءة، خاصة لكبار شيوخ الأزهر، ويحفظ مقاطع من الشعر العربي القديم، ومتابع ممتاز لمقالات كتاب الرأي في الصحف المصرية والعربية والأجنبية.

ويبدو أن التيار الإسلامي لم يدرك «استقلالية السيسي وثوابته الممتدة من ثوابت الدولة المصرية العتيقة» إلا بعد فوات الأوان. وترددت أنباء قبل أسبوعين عن أن بعض قادة «الإخوان» أشاروا على الرئيس بالتخلص من السيسي بتعيينه رئيسا للحكومة، بدلا من رئيس الوزراء الحالي هشام قنديل، المغضوب عليه من قطاعات شعبية واسعة، إلا أن المصادر قالت إن السيسي رفض.

ورغم نفي الرئاسة هذا الأمر، فإن الموضوع تمت إثارته في وقت شديد الحساسية تزامن مع تحركات فعلية للجيش على الأرض، بسبب تصاعد نبرة التهديدات التي أطلقتها تيارات الإسلام السياسي ضد معارضي الرئيس مرسي، والتلويح بنقل مقاتلين من الصعيد وبعض المحافظات إلى القاهرة لقتال من يرفض حكم الرئيس.

ولم يبدو على السيسي ردود فعل يمكن قراءتها بشكل واضح أثناء إلقاء الرئيس خطابه بمناسبة مرور عام على توليه منصبه، وقيامه بتهديد معارضيه. صفق السيسي في الاجتماع عدة مرات لكن دون حماس، ومع استمرار تهديدات الرئيس، في كلمته التي استمرت لأكثر من ساعتين، باتخاذ إجراءات ضد سياسيين وإعلاميين وغيرهم، بدا أن السيسي كان قد حسم أمره، وأرسل قواته لحماية الفرقاء المصريين، قبل أن يراق دم أي طرف من الأطراف.

ومنذ بيان الجيش الأول، قبل نحو عشرة أيام، الذي أعطى فيه مهلة مدتها أسبوع للفرقاء السياسيين لإيجاد حل للأزمة التي تمر بها البلاد، بدأت قيادات من التيار الإسلامي تحذر مما تسميه مخاطر الخروج على شرعية الرئيس المنتخب. وحين لم تظهر أي حلول، عاد الجيش وأعطى مهلة 48 ساعة فقط، مما زاد من هجوم التيار الإسلامي على السيسي، والتحذير من مغبة وقوع انقلاب على الديمقراطية التي جاءت بمرسي رئيسا للبلاد. لكن يبدو أن الوقت قد فات.

ومكتوب على صفحة السيسي على «فيس بوك»: «الشعب المصري هو مصدر السلطات، والجيش المصري هو درع الوطن».

يقول أحد المقربين من السيسي إن الرجل، شديد الانضباط عسكريا، لم يكن يعلم أنه سيكون وزيرا للدفاع في مرحلة غير مسبوقة في تاريخ مصر.. أو على الأقل في ظل تركيبة سياسية لم تمر على البلاد منذ عام 1952. وكانت المعادلة الصعبة التي ينظر إليها كثير من المدققين في شؤون الحكم، هي كيف سيعمل الرئيس الإسلامي الذي لا يتمتع بأي خلفية عسكرية، مع الجيش.

وبدأت الأمور تزداد تعقيدا بسبب الاختلافات الجوهرية في التعامل مع الدولة المصرية. الإسلاميون الداعمون لرئيس الدولة يضغطون عليه في طريق ما يرون أنها «اللبنات الأولى لحكم يحقق الخلافة الإسلامية تكون فيه مصر مجرد ولاية ضمن الولايات الإسلامية». والجيش يرى أن حدود مصر الجغرافية المتعارف عليها، ومحيطها العربي، هي «حدود الأمن القومي»، وأن «الدولة لها أسرار وأولويات قد تتعارض مع تنظيمات إسلامية، لها ارتباطات إقليمية ودولية، وتتحكم في قرارات القاهرة».

ومنذ تولى مرسي الحكم في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كان الكل يراقب الوجهة التي تمضي إليها البلاد، وكان التيار الإسلامي، وعلى رأسه رئيس الدولة، يريد التخلص من كل الرموز التي تعارض ما يسمى «أخونة» المؤسسات المصرية، وسط تهميش للدور القوي الذي عرفت به الخارجية المصرية لعقود، لصالح أحد مستشاري الرئيس لمجرد أنه من جماعة الإخوان المسلمين.

وتواكب مع هذه الإجراءات تخبط في السياسة الخارجية سواء مع بعض الدول العربية أو دول العالم. وكان العديد من تقارير الأمن القومي والأمن الوطني تراقب هذا الوضع، بينما كان الشارع يشعر بخيبة أمل، وهو يرى انشغال الإسلاميين بترسيخ دولتهم، في مقابل إهمال الحكومة والرئاسة قضية الاقتصاد المتهاوي وتدهور الخدمات العامة، ومعاداة قيادات التيار الإسلامي للفنون والآداب والثقافة والإعلام والتظاهر ضد «ولي الأمر».

ودفع هذا الأمر بعض التيارات المدنية، منذ فبراير (شباط) الماضي، إلى مطالبة الفريق أول السيسي بتولي قيادة البلاد على نطاق واسع. وأخذ بعض السياسيين على السيسي البطء في حسم الأمور، بالتزامن مع مهاجمة عدد من قادة التيار الإسلامي للجيش بضراوة ومهاجمة من يستنجدون به.. وبعد ذلك خرجت إلى النور حركة «تمرد» في أبريل (نيسان) بوصفها ذراعا وطنية تمكنت من حشد ملايين المصريين في صوت واحد ينادي بـ«استعادة ثورة يناير» التي قام بها المصريون ضد الرئيس السابق حسني مبارك في 2011، من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وليس من أجل إقامة دولة الخلافة.

ظهر اسم السيسي لأول مرة، بعد يوم واحد من قرار الرئيس السابق، حسني مبارك، التخلي عن موقعه رئيسا للجمهورية، وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. وكان السيسي، القادم من موقعه مديرا للمخابرات الحربية، أحد أعضاء المجلس العسكري، بل أصغرهم سنا.. ومن أشهر كلماته التي يتناقلها المصريون، وكان قد ذكرها في لقاء تثقيفي للقوات المسلحة قبل أسبوعين، أنه «ليس من المروءة ترويع الشعب المصري ونحن موجودون.. إذا حدث هذا فلنمت أفضل».

وولد السيسي في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954، بالقاهرة في حي «خان الخليلي» الذي يحمل عبق التاريخ المصري. وتخرج في الكلية الحربية وبدأ عمله في سلاح المشاة عام 1977، وواصل دراساته العسكرية بعد ذلك، ليحوز ماجستير العلوم العسكرية بمصر في 1987، وماجستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان البريطانية في 1992، ويحمل زمالة كلية الحرب العليا في أكاديمية ناصر العسكرية، ذات الأهمية بمصر، في 2003، إضافة إلى زمالة كلية الحرب العليا الأميركية في 2006. وهو متزوج ولديه ثلاثة أولاد وبنت واحدة.

ويقول أحد أعضاء المجلس السابقين، إن السيسي لم يظهر خلال تلك الفترة إلا نادرا في وسائل الإعلام، «ولم يكن يرغب في ذلك.. كان يستمع أكثر مما يتحدث، وينظر إليه كثيرون في المجلس باعتباره طرازا نادرا لقائد مخابرات عصري»، مشيرا إلى أنه رغم وجوده في المجلس الذي أدار المرحلة الانتقالية بعد خروج مبارك من الحكم، فإن السيسي لم يكن معروفا على نطاق واسع، مثل شخصيات كالمشير حسين طنطاوي الذي كان رئيسا للمجلس العسكري، ونائبه الفريق سامي عنان، واللواء محمد العصار، واللواء ممدوح شاهين وغيرهم من كبار القادة العسكريين.

ولم يعد اسم السيسي للظهور إلا في الأيام التي جرت فيها المرحلة النهائية للانتخابات الرئاسية، وفوز مرسي فيها، وخروج تسريبات باعتزام الرئيس الإطاحة بكل من طنطاوي وعنان، وترقية السيسي ليكون وزيرا للدفاع، وهو ما حدث بالفعل، لكن تصرفات الجنرال الجديد بدأت تلفت أنظار المصريين بمرور الأيام، من خلال زياراته وتحركاته أو حتى تعازيه وتهانيه في مناسبات وطنية مصرية راسخة، وهي أمور لا يقوم بها إلا «رجل دولة»، بينما كان قادة من التيار الإسلامي بمن فيهم الرئاسة، لا يظهرون بالشكل المطلوب حين يكون وجودهم ضروريا، لأسباب مختلفة كـ«تحريم مشاركة الأقباط بأعيادهم»، أو تحريم الموسيقى أو تحريم الوقوف للسلام الجمهوري وغيرها.

وشاهد ملايين المصريين الكلمة التي ألقاها السيسي في احتفال وطني، منذ أكثر من شهرين، غاب عنه الإسلاميون بمن فيهم رجال الدولة، وشارك فيه عدد من قادة الجيش والفنانين والمثقفين والأدباء والإعلاميين. وأبدى حشد من حضور الحفل قلقا على مستقبل البلاد، لكن الفريق أول السيسي وقف وتحدث قائلا: «لا تخافوا على مصر.. مصر هي أم الدنيا، وستظل أم الدنيا».