البداية والنهاية في «مجيدو»

د. محمد عبد الستار البدري

TT

كانت مصر من المراكز الهامة في قلب منطقة الشرق الأوسط منذ أن وحد الملك مينا القطرين الشمال والجنوب تحت حكمه الموحد، وقد صعدت قوة مصر وخفقت بناء على قوة الحكم المركزي، ولكنها بدأت تعاني الضعف على أيدي بعض الأسر الحاكمة حتى تعرضت البلاد لحالة احتلال لمنطقة الدلتا خلال الفترة من 1575 وحتى 1786 على أيدي قبائل الهكسوس التي يختلف بعض المؤرخين حول أصولها، فبينما يرى البعض أنهم أتوا من فلسطين يرى آخرون أنهم قبائل من الجزيرة العربية، ولكن سرعان ما قامت مصر بحركة تحرير واسعة خرجت من الصعيد إلى الدلتا بقيادة الملك أحمس الذي ينسب له طرد الهكسوس من البلاد، وقد خرجت مصر من حالة الاحتلال إلى حالة استقرار ممتد، خاصة في عهد الملك أحمس والملكة حتشبسوت التي انتهى حكمها بتولي تحتمس الثالث الحكم في البلاد، وقد كان الفرعون الجديد رافضا للأسلوب الذي اتبعته حتشبسوت في إهمال السياسة الخارجية لصالح مناحٍ داخلية أخرى، من ثم لجأ الرجل لسياسة إعادة تقوية مصر والاهتمام بالجيش المصري وتقوية شأنه تمهيدا للسعي لإخضاع القبائل الفلسطينية التي بدأت تتحالف مع القادشيين ضد مصر.

لم يتأخر تحتمس الثالث في التجهيز لحملة عسكرية واسعة النطاق، فسرعان ما جهز جيشا يقدر تعداده بقرابة خمسة وعشرين ألفا على أعلى تسليح، يقودهم هو بنفسه متوجها إلى فلسطين بأقصى سرعة حتى لا يمهل القادشيين وحلفاءهم من القبائل الأخرى أي وقت للتجهيز، فاتبع أقصر الطرق إلى هناك حتى وصل إلى قلب غزة في قرابة تسعة أيام فقط، وفي غزة كان أمام تحتمس الثالث ثلاثة طرق يتبعها، فاختار الرجل أسرع طريق ولم يكن آمنا تحت أي ظرف من الظروف، ولم يتوقع القادشيون أن يتحرك تحتمس بهذه السرعة سالكا هذا الطريق الوعر والخطر، وهو ما دفعهم لتأمين الطريقين الآخرين دون هذا الطريق، والاكتفاء بوضع بعض الفصائل على المضايق الخاصة به، وبالتالي استطاع تحتمس الثالث أن يبدأ تجهيزاته لمعركة مجيدو الشهر، بأسرع مما كان أعداؤه يتوقعون، خاصة بعدما انتشر القلق وسط الجيوش المدافعة، التي بدأت تنسحب صوب المدينة لحمايتها من أي هجوم، فنصبت معسكراتها خارج المدينة حفاظا عليها.

وقد اختار تحتمس مسرحا للعمليات يتناسب مع انتشار قواته، فقد كان يقود القلب بنفسه، ونشر جناحيه على تبات مرتفعة تفاديا لأن تتعرض لعمليات التفاف خلال المعركة، فيفاجأ الجيش المصري بحصار حوله، كذلك فقد نشر الجناح الأيسر على الشمال الغربي لأبواب المدينة، وهو ما منح الجيش المصري تحصينا تكتيكيا سمح له بحصار جزء من المدينة دون تهديد، وبمجرد أن بدأت المعركة بدأ التفوق المصري يظهر في كل الاتجاهات، مما اضطر الجيوش المتحالفة إلى الاحتماء الفوري داخل أسوار المدينة، وهو ما خلق حالة من التشتت بعدما ركز الجيش المصري على تحصيل الغنيمة، وهو ما أضاع عليهم فرصة حسم المعركة مباشرة، مما اضطر تحتمس الثالث إلى فرض الحصار عليها مغلقا كافة المنافذ منها وإليها. تختلف التقديرات التاريخية حول مدة الحصار الذي فرضه الجيش المصري، ولكن القادشيين لم يصمدوا طويلا أمام الضغط المصري، فاستسلمت المدينة تماما، ولكن ملك قادش استطاع الهروب خلال الحصار أو بعد هزيمة جيشه في المعركة، وهو ما دفع تحتمس الثالث للتصميم على تأمين المنطقة الشرقية بأكملها، هذا وقد أصر تحتمس الثالث على ألا ينكل بأعدائه، بل إنه طبق سياسة تنم عن عبقرية ورحابة أفق سياسية، فلقد قرر قبول توبة الملوك الذين تحالفوا مع ملك قادش، كما أنه لم ينتقم منهم، ولكنه أخذ أولادهم رهائن في مصر، وعاملهم معاملة كريمة للغاية، وهو ما خلق نوعا من الرباط بين هؤلاء الأمراء ومصر، خاصة بعدما ورثوا الحكم عن آبائهم في مرحلة لاحقة، وهو ما مهد لخلق حالات تحالف قوية للغاية سمحت بتأمين الحدود المصرية في مراحل تاريخية تالية، هذا وتشير بعض المراجع التاريخية إلى أن المعركة خلفت للمصريين الكثير من الغنائم، منها ما يقرب من نصف طن من الذهب والفضة، وآلاف الخيل والعربات العسكرية التي تجرها الخيل.

بصفة عامة فإن معركة «مجيدو» كان لها أكبر الأثر في تغيير خريطة العلاقات الإقليمية في المنطقة، فلقد استطاعت مصر أن تفرض هيمنتها السياسة والعسكرية على منطقة فلسطين وسوريا، بل إن النفوذ المصري امتد فيما بعد إلى مناطق أخرى متاخمة حتى وصل إلى العراق، كما أن القبائل التي كانت تعادي مصر أو على استعداد للتحالف مع أعدائها، سواء القادشيون أو غيرهم، بدأت تتراجع، خاصة أن تحتمس الثالث لم يترك الجبهة الشرقية المصرية إلا بعدما استطاع أن يكون شبكة من العلاقات القوية والتحالفات مع الملوك والرؤساء، سواء من خلال جعلهم توابع لحكمه أو من خلال التحالف معهم، وهو التحالف المبني على القوة، خاصة أن الرجل لم يغفل بناء العديد من القلاع على المناطق الساحلية للشام وفلسطين لضمان حماية الحدود المصرية، لا سيما أن القادشيين لم ينتهوا كقوة إقليمية بسبب هروب ملكهم من معركة مجيدو، ولعل من أهم النتائج التي ترتبت على هذه المعركة أيضا كان التحول التجاري الذي أصاب مصر بعدها، فلقد مهد هذا الانتصار الطريق أمام ظهور مصر كقوة تجارية في المنطقة، فخرجت من نطاق «المجتمع الهيدروليكي» المنغلق، أو المجتمع المعتمد على النيل والزراعة، إلى دولة تجارية واسعة النطاق، خاصة في منطقة المتوسط والشرق الأوسط.

لعل من المفارقات اللافتة للانتباه أن كتب التاريخ تشير إلى أن «مجيدو» هي أول معركة تم توثيقها في التاريخ، بينما يشير العهد القديم إلى أن «مجيدو» هي آخر معركة سينتصر فيها الخير على الشر وتنتهي الدنيا وتبدأ رحلة الإنسان إلى الآخرة، فلقد أتى لنا التاريخ بعرض للمعركة الأولى، بينما تختلف الرؤى حول المعركة الثانية والأخيرة.

* كاتب مصري