شعب الكنانة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

أكتب مقالي هذا بعد ساعات معدودة من تغيير النظام السياسي في مصر، وأذكر خلالها فرية كان البعض يرددها وهي أن الشعب المصري لم يكن فاعلا في صياغة مستقبله السياسي على مر التاريخ، وقد كنت دائما أتصدى لمثل هذه المقولة بالأمثلة التاريخية مطالبا الجميع بقراءة سليمة ومتأنية لتاريخ مصر، فالقارئ لهذا التاريخ، خاصة التاريخ الحديث الذي يبدأ من 1798 أي عام هبوط الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، وحتى اليوم سيصطدم بحقيقة أساسية هي أن الشعب المصري من أكثر الشعوب ثورة! هذا ما يقوله التاريخ وتؤكده الأحداث، ولكي نكون أكثر دقة فمنذ هذا التاريخ وحتى 30 يونيو (حزيران) الماضي أي خلال مائتين وخمسة عشر عاما فإن هذا الشعب ثار سبع مرات على قيادته الحاكمة لأسباب تتعلق بخروجها عن المطلوب شعبيا أو عن المفهوم التقليدي للشرعية، وهذه الثورات السبع تمثل محطات تاريخية من العمل الوطني والسياسي، ويمكن في عجالة أن نرسم الخط البياني لتحرك الشعب المصري على النحو التالي:

أولا: ثورة القاهرة الأولى والثانية: وهما الثورتان اللتان تمثلان نمطا تقليديا لمقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر من خلال اصطفاف الشعب المصري مع الأزهر الشريف والأئمة والعلماء والأعيان والتجار ضد مستعمر يفوقهم في العدة والعتاد والحنكة العسكرية، ورغم محاولات التقرب الفرنسي لهذا الشعب تحت حجة أن قائد الحملة نابليون بونابرت يحب الإسلام، إلا أن الفراسة المصرية والقيادة الوطنية كشفت كل هذه النداءات، بل إن الأغلبية العظمى رفضت المساهمة في الترتيبات التي وضعها الفرنسيون من أجل تشييد نظام للحكم المحلي بالوكالة، وقد أخمد الفرنسيون الثورتين بكل قسوة مستخدمين القوة العسكرية الغاشمة ضد الشعب الأعزل، كما استباحوا حرمة الأزهر الشريف.

ثانيا: تعد ثورة 1805 بكل المعايير حدثا فريدا في تاريخ الأمة المصرية والشرق الأوسط، وهي ثورة كثيرا ما يتناساها الجميع، ويغفلها المؤرخون لأنها كانت في سياق حالة الفوضى التي عمت مصر بعد جلاء الفرنسيين عنها عام 1801 وتحولها إلى مرتع لعربدة القوى الأجنبية ورجالاتها من العملاء ممثلين في المماليك وبعض عناصر القوى الأجنبية التي كانت تعيش في مصر، فضلا عما كانت تعانيه الدولة من حالة تفكك وتشرذم داخلي بسبب فراغ السلطة، في هذه المناسبة انتفض الشعب المصري بقوة في مايو (أيار) 1805 بإيعاز من قيادته لكي يعزل الوالي العثماني المُعين ويفرض خياره ممثلا في محمد علي ذلك الضابط الألباني الذي كُتب له أن يكون حاكم مصر لمدة ثلاثة وأربعين عاما نقل خلالها البلاد من حالة فوضى إلى دولة إقليمية عظمى، ولكي يتمكن محمد علي من مفاتيح الحكم، فقد واجه الشعب المصري وقيادته محاولة السلطان العثماني وحاشيته خلع محمد علي ونقله واليا عثمانيا على جدة، وفي كل الأحوال فإن هذه الثورة كان لها دورها الكبير في تغيير خريطة الفكر السياسي وأسس الشرعية ليس فقط في مصر ولكن المنطقة برمتها، وهي أيضا من صنع الثورة الشعبية المصرية.

ثالثا: لعل ثورة الجيش المصري المدعومة من الشعب والمعروفة بثورة عرابي عام 1882 كان لها أكبر الأثر في إشعال الروح الوطنية المصرية مرة أخرى، وهي ثورة قادها هذا الزعيم وحوله مجموعة من الضباط وأحاطها الشعب لمواجهة التدخلات الأجنبية في البلاد وخضوع الخديو توفيق إلى التأثير الأجنبي ووضع المالية المصرية تحت مراجعة والنفوذ الغربي بسبب الاستدانة، وفقدان مصر لهويتها السياسية وبوصلتها الوطنية، وقد وصل هذا الصدام أوجه عندما قدم عرابي للخديو مطالب الشعب والجيش وعلى رأسها وضع حكومة من المصريين تحكم البلاد على أسس وطنية وعدم وضع قيود على تعداد الجيش المصري وفتح باب الترقيات للضباط المصريين، وقد أسفرت الأحداث المتلاحقة بالبلاد عن تدخل عسكري إنجليزي فوقعت معركة التل الكبير التي هزم فيها الجيش المصري بعدما صمد صمودا باسلا أمام قدرات القوة العظمى في العالم وهو ما أسفر عن احتلال البلاد على أيدي الإنجليز حتى عام 1956.

رابعا: تمثل ثورة 1919 إحدى أهم الثورات السياسية في التاريخ المصري الحديث التي اندلعت في كل أنحاء مصر معلنة حالة انتفاض شاملة لإجلاء الإنجليز عن البلاد، وتميزت هذه الثورة بوجود العنصر النسائي فيها بقيادة صفية زغلول، وكان من ضمن مطالب هذه الثورة إيفاد وفد مصري لمؤتمر السلام الدولي المنعقد في «فيرساي» بفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وعندما رفض الإنجليز هذا المطلب قاموا بنفي الزعيم سعد زغلول فتفجرت المظاهرات في كل الاتجاهات، وقد كان من أهم النتائج التي ترتبت على هذا الحدث الجلل أن نالت مصر استقلالها بعدها بأربعة أعوام.

خامسا: تمثل ثورة 1952 إحدى المحطات الثورية والأساسية في التاريخ المصري والإقليمي على حد سواء انتفضت فيها القوات المسلحة لتغيير النظام الملكي في مصر، ورغم أنها بدأت على اعتبارها حركة عسكرية ضد النظام فإنها سرعان ما وجدت تأييدا شعبيا جارفا، وقد لعبت الظروف المواتية دورا هاما للغاية في إنجاح هذه الثورة خاصة أن بريطانيا كانت تواجه ظروفا سياسية واقتصادية صعبة مما جعلها أكثر ميلا لإنهاء احتلالها لمصر، فضلا عن وقوف القطبين الدوليين روسيا والولايات المتحدة إلى جانبها، الأولى من خلال التسليح العسكري والدعم الاقتصادي والثانية من خلال رفضها للعدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على البلاد في 1956.

سادسا: ثورتا 2011 و2013 وهما الثورتان اللتان قام بهما الشعب المصري لتغيير نظامين رفضهما الشعب، الأولى أطاحت بنظام محمد حسني مبارك والثانية بنظام محمد مرسي، وهما ثورتان شعبيتان من الطراز الأول سيكون لهما أثرهما الكبير على حركة المستقبل السياسي المصري.

يعكس كل ما سبق حقيقة أساسية وهي أن هذا الشعب ليس خانعا أو مصابا بحالة خمول سياسي كما يدعي البعض، بل إن التاريخ يشير إلى أن الحس السياسي لهذا الشعب مرهف إلى حد كبير، وإذا ما نظرنا لهذه الثورات السبع بمعادلة رياضية فسنجد أن الشعب المصري ثار في تاريخه الحديث بمعدل مرة كل واحد وثلاثين عاما، وهي نسبة تتخطى في اعتقادي أو تقارب أكثر الشعوب الأوروبية ثورة وهو الشعب الفرنسي، فالثورة ليست غريبة عليه، ففي عصر الخليفة العباسي المعتصم على سبيل المثال ثار الشعب المصري بكل أطيافه على طرق حكم الخلافة العباسية اثني عشرة مرة أمام الظلم والغبن وسوء الإدارة، فهذه سمة الشعب المصري، شعب الكنانة.

* كاتب مصري