من التاريخ: الولايات المتحدة: تأملات في صناعة الدولة (1)

TT

تناولت في مقال سابق لي بعنوان «لماذا ولدت أميركا ديمقراطية؟» قضية ظهور دولة الولايات المتحدة على الساحة الدولية كلاعب ديمقراطي جديد، وكيف أن ظروف ميلاد هذه الدولة فرضت عليها نوعا من الديمقراطية لم يكن متاحا لغيرها من الدول التي ولدت في نفس الظروف أو في نفس الزمان وإن كانت في غير المكان، وقد خلص هذا المقال إلى أن ظروف ثورة المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة التابعة لبريطانيا فرضت عليها نوعا من الاتحاد الذي كان أساسه فكرة المساواة والحرية والتوازن حتى في صناعة القرار السياسي، ليتمكنوا من مواجهة الإمبراطورية البريطانية التي تمثل أقوى دولة في العالم، وبعد معارك ممتدة دامت قرابة ثماني سنوات حصلت الولايات الثلاث عشرة على استقلالها بفضل التحالف مع فرنسا التي استطاعت أن توازن بدرجة كبيرة الأسطول والجيش البريطانيين، وبالفعل تم جلاء آخر جندي بريطاني من القارة في 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، بينما غادر آخر جندي من جزيرة «ستاتن آيلند» في 4 ديسمبر (كانون الأول) 1783 بموجب «اتفاقية باريس» التي كانت قد وقعت في نفس العام.

واقع الأمر أن التخلص من المحتل شيء وإدارة الدولة الوليدة شيء مختلف تماما، فها هي ثلاث عشرة مستعمرة حصلت على استقلالها من الدولة الأم، وأصبح لزاما عليها أن تتعامل مع الواقع الجديد، فكيف تتم الإدارة إذن؟ كيف ستتقاسم الولايات السلطة؟ كيف سيتم تنفيذ المبادئ العامة والمثل العليا التي تم الاتفاق عليها في إعلان الاستقلال مثل الحرية والعدالة والمساواة والحقوق الأساسية؟ وما هي الجهة التي سيناط بها هذه المهمة؟ كيف سيكتب دستور هذه الدولة؟

كانت هذه هي الأسئلة التي كانت على لسان كل مواطن أميركي، فقد كانوا عاقدين العزم على التخلص من المستبد، ولكن لم تكن لديهم رؤية متفق عليها لتسوية خلافاتهم السياسية وصناعة الدولة ومؤسساتها، وهذه دائما ما تكون سمة الثورات الشعبية، والأميركيون لم يشذوا عن سنة السياسة وناموس التنظيم السياسي في أي دولة، فحقيقة الأمر أن وجود العدو الكبير، ممثلا في بريطانيا، ساهم في توحيد الصف الأميركي، ولكن مع اختفاء هذا العدو اختفت معه الوحدة المطلقة التي ساهمت بشكل كبير في لم الشمل، وقبل الخوض في عملية صناعة الدولة الأميركية فإنه يجدر بنا أن نسوق النقاط الجوهرية التالية:

أولا: إن الشعب الأميركي تجسدت هويته السياسية مع ظهور الثورة، فهو لم يعد كيانا تابعا للدولة البريطانية، بل إن هذا الشعب بدأ يفصم سياسيا عن الدولة الأم ويسعى للاستقلال مع أول معركة دخل فيها الثوار ضد الجيش البريطاني المعروف لديهم بـ«ذوي المعاطف الحمراء» Red Coats، وهو أول انفصال سياسي واضح في الهوية بين الفريقين المتنازعين، ولكن مع انتهاء الحرب تجلت الهوية الأميركية المستقلة ممثلة في ثلاث عشرة ولاية وليس مستعمرة، وقد نتج عن ذلك عملية تسييس واسعة النطاق لكل الشعب الأميركي، فهي ثورة شعبية بكل المعايير، وأصبح الكل مساهما فيها بغض النظر عن انتماءاته الفكرية أو الدينية أو طبقته الاجتماعية.

ثانيا: واتصالا بالنقطة الأولى فإن الجيش الأميركي المعروف بالجيش القاري Continental Army والذي رأسه الجنرال جورج واشنطن كان دوره حاسما في خلق الروح الوطنية والهوية المستقلة، بل الأساس الوطني للدولة الأميركية الوليدة، وبالتالي فإن مقولة إن الجيش هو المدرسة الوطنية الأولى مقولة صحيحة تماما وتنطبق على الولايات المتحدة في المهد، ففي هذا الكيان انصهرت كل المتاريس الاجتماعية بين الطبقات، وتوحدت الرايات السياسية للجنود والضباط على حد سواء، كما أن الجيش القاري أصبح الرمز العملي لمفهوم الوطنية الذي أعلنه الكونغرس الأميركي الذي أصدر إعلان الاستقلال في 4 يوليو (تموز) 1776. وقد لعب جورج واشنطن دورا محوريا في الحفاظ على هذا الجيش وروحه الوطنية وإبعاده عن السياسية حتى في الظروف التي عانى فيها الكونغرس من حالات تخبط، ولكنه كان مما لا شك فيه قوة مؤثرة على المسرح السياسي وكان لواشنطن ولجنرالات آخرين دورهم السياسي في تسيير دفة أمور كثيرة.

ثالثا: لقد كان للبعد الاجتماعي محاذيره أيضا، خاصة فيما يتعلق بمسائل العبيد والمرأة، فإعلان الاستقلال وكافة المواثيق الصادرة كان من شأنها وضع أسس ومبادئ اجتماعية وسياسية واضحة للدولة الناشئة على أساس المساواة بين أفراد الشعب، وهو ما تضمن أيضا رفض أي تفرقة على أسس عرقية أو نوعية أو دينية، ولكن الأوضاع الاجتماعية في الولايات الثلاث عشرة لم تكن جاهزة بعد لتطبيق مثل هذه المثل العليا التي اعتنقها الجميع فكريا واختلف عليها الكثير تطبيقيا، فمسألة العبودية ظلت أكثر بقليل من حبر على ورق، فهي لم ترق إلى تسوية سياسية واجتماعية واضحة حتى بعد الحرب الأهلية، بل إن الأمر لم يحسم بشكل قاطع إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، وعلى كل حال فإن أغلبية الولايات منعت تجارة الرقيق ولكن النظرة الاجتماعية الدنيا ظلت ملازمة لهم، فلم يكن لهم حق التصويت، وامتلاك الأراضي كان محكوما بسلسلة من المعايير، ومع هذا فإن بعض الولايات خاصة في الجنوب امتنعت عن تنفيذ ذلك تماما لأسباب تتعلق بكون العبيد القاطرة الاقتصادية لمجتمعاتهم الزراعية، أما المرأة فلم تحظ بالكثير من الحقوق أيضا، فلم يكن لها حق التصويت، كما أن المرأة المتزوجة لم يكن لها حق الوكالة أو امتلاك الأراضي، وقد استمر هذا لعقود طويلة حتى بدأت المرأة تنال حريتها تدريجيا من خلال التعديلات الدستورية المتتالية.

أما فيما يتعلق بمسألة العدالة الاجتماعية بعد نجاح الثورة الأميركية، فإن المبادئ والأهداف دخلت في صراع مباشر مع الهرم الاجتماعي والمصالح الاقتصادية للطبقات الأقل حظا، فلقد اعتنق كثير من أبناء الطبقة الوسطى والسفلى الثورة اقتناعا منهم بأن الثورة ستغير الهرم الاجتماعي وتقضي أو تحد من مزايا الطبقات الأرستقراطية وملاك الأراضي والتجار، أو على أقل تقدير ستسمح بالعملية التي نسميها اليوم في علم الاجتماع السياسي فرص التدرج الطبقي لأعلى Upward Social Mobility، ولكن الطبقات العليا كانت لها أهدافها، خاصة رفض الوصاية الاقتصادية والإجحاف الضريبي ومفاهيم الجباية التي تعامل بها التاج مع المستعمرات الثلاث عشرة، فضلا عن تخوف طبقة التجار والطبقة الصناعية الجديدة من ضغوط طبقات الارستقراطية، وهو ما كان أحد العوامل الأساسية في تفجير الثورة الأميركية، بالتالي فإن هذه الطبقات القوية والمؤثرة على عملية صنع القرار السياسي كانت متحفظة إزاء تغيير الخريطة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، لا سيما بعد تخلصها من الطبقة الأرستقراطية والملكيين.

ورغم أن الدولة الجديدة بدأت تتخذ عددا من الخطوات التي كانت تسعى لتحقيق بعض المبادئ التي كانت تنادي بها الثورة الأميركية، مثل منح حق التصويت للطبقات الدنيا شريطة أن يكونوا من دافعي الضرائب وفتح باب ضيق للغاية أمام الترقي الاجتماعي، وتوزيع الأراضي التي تمت مصادرتها من الإنجليز وحلفائهم على الطبقات الوسطى والمحاربين القدامى، وبرغم كل هذه الجهود فإن الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي ظل مستمرا خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.

وفي التقدير أن المشكلة الأساسية التي أصبحت تواجه الدولة الوليدة كانت التنظيم السياسي لهذا الكيان الجديد، فحقيقة الأمر أن الأميركيين قاموا بحرب استقلال، ولكنهم لم يقوموا بثورة سياسية داخلية، وبالتالي أصبح عليهم الإجابة عمليا على سؤال صعب للغاية، وهو: كيف يصنعون جمهورية في عصر الملكيات؟ وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الأسابيع المقبلة.