عدنان منصور: دبلوماسي «النأي بالنفس»

تصفه أطراف بـ«سفير سوريا لدى لبنان» بعد مخالفته الموقف الرسمي

TT

يصح القول في وزير الخارجية اللبناني، عدنان منصور، إنه الوحيد الذي يكاد يلتزم قرار «النأي بالنفس» عن الإجماع العربي والقرار الرسمي اللبناني، ضاربا عرض الحائط بسياسة لبنان الرسمية التي تنص على أن تنأى الدولة بنفسها عن الصراعات والمحاور الإقليمية. تصريحات منصور وتجاوزاته المتتالية، ولا سيما منها المتعلقة بالأزمة السورية تدل بشكل لا يقبل الشك، على حمله لواء الدفاع المستميت عن النظام السوري، متخطيا في مرات عدة تعليمات رئيسي الحكومة والجمهورية - جعلت فريق «14 آذار» يطلق عليه تسمية «وزير خارجية سوريا لدى لبنان».

الأدلة كثيرة والمواقف أكثر دقة ووضوحا، وآخرها إعلان الدبلوماسي اللبناني جهارا، مستبقا حتى أي موقف رسمي في هذا الإطار، أن لبنان لن يقف مكتوف الأيدي إذا تعرضت سوريا لأي ضربة عسكرية، واصفا إياها بـ«البلطجة»، بينما تحفظ في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الأحد الماضي، على قرار مجلس وزراء الجامعة العربية تحميل النظام السوري مسؤولية استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية بريف دمشق الشهر الماضي.

لكن منصور نفسه، المحسوب على فريق «8 آذار»، وتحديدا «الثنائية الشيعية» حزب الله وحركة أمل، الذي يكرر في كل مرة يدافع فيها عن النظام السوري شعار «النأي بالنفس» المفترض - وجد تفسيرا شخصيا لهذا الشعار، معتبرا أن «النأي بالنفس عن موضوع معين لا يعني النأي بالنفس عن قضايا الأمة»، واعتبر أن «القرارات في الجامعة العربية تعد في الكواليس عبر جهات عربية اتخذت موقفا منذ البداية ضد سوريا»، وأن «قرار تعليق عضوية سوريا لا يتوافق مع ميثاق الجامعة العربية، وما يحصل فعلا مع سوريا هو تنفيذ لسياسات خارجية، لأن سوريا تقف بوجه إسرائيل وتدعم المقاومة».

وفي دعمه للنظام السوري، طمأن منصور نظيره السوري وليد المعلم إلى أن «لبنان سيتحرك في حال استغلت إسرائيل العدوان على سوريا وفتحت جبهة ضد حزب الله في الجنوب»، مشيرا إلى أنه لن يكون عدوان إسرائيل إذا حصل أكبر مما كان عليه عام 2006. و«للبنان الحق الطبيعي في الدفاع عن أرضه». وشدد منصور، مستبقا أي موقف رسمي لحزب الله، على أن «المقاومة جاهزة في أي وقت لأي عدوان رغم مشاركتها في القتال بسوريا»، ورأى أنه «لا يمكن أن تترك المنطقة بين أيدي دولة واحدة، لأن هناك توازنات دولية ومصالح استراتيجية لدول العالم».

وفي حين تحظى مواقف منصور المتعلقة بأزمة سوريا بإشادة من النظام السوري وكان آخرها عبر صحيفة «الثورة»، ومن حزب الله على لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد، قدم منصور تبريرا لمشاركة حزب الله في القتال في سوريا، مدينا في الوقت عينه ما يقوم به التكفيريون والمتطرفون. وقال في كلمة له في يونيو (حزيران) الماضي، أمام مجلس الجامعة العربية، إن «لبنان نأى بنفسه عما يجري في سوريا، لكن تداعيات الأحداث لم تنأ بنفسها عن الساحة اللبنانية، وذلك من خلال المجموعات التكفيرية المتطرفة الآتية من خارج الحدود التي تعمل على تأجيج الفتنة والتطرف، والتعصب وتروج له حتى وصل اليوم إلى أعلى مراحله وبات يهدد نسيج شعوب ودول المنطقة»، برر مشاركة حزب الله في القتال بالقول: «وجود ثلة من مجموعاته في ريف القصير إنما هو عمل وقائي واستباقي لحماية أهلهم وأقربائهم وأبنائهم من اللبنانيين في مواجهة المجموعات المسلحة التي أرادت أن تجعل منهم فريسة للخطف والابتزاز والقتل».

وتفرد منصور، الذي سبق له أن تولى من عام 1999 حتى 2007 منصب سفير فوق العادة مطلق الصلاحية لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في مواقفه أمام الجامعة العربية، التي لم تلق بدورها أي ردود فعل أو خطوات عملية لمنع تكرارها من قبل الحكومة اللبنانية، باستثناء الاستنكار. ولقد انعكست من ثم «تمردا» على الرئيس اللبناني ميشال سليمان الذي عمد بنفسه إلى تسليم الأمم المتحدة عبر منسقها الخاص في لبنان ديريك بلامبلي، مذكرة حول الخروق السورية الأخيرة، وذلك بعد امتناع منصور عن تقديمها، بحجة أن العلاقة بين لبنان وسوريا تحميها اتفاقيات، وهما دولتان صديقتان تعالج المشكلات بينهما مباشرة لا بالواسطة، كذلك اعتباره أن الخروقات السورية جاءت ردا على اعتداءات مماثلة انطلقت من الأراضي اللبنانية.

وانطلاقا من الواقع السياسي اللبناني المجمد بين حكومة تصريف الأعمال ورئيس حكومة مكلف، تقف الدولة اللبنانية عاجزة عن اتخاذ أي قرار من شأنه أن يصوب أو يضع حدا لتجاوزات وزير الخارجية وغيره من الوزراء، بعدما أصبح كل منهم، رئيس جمهورية وزارته، وفق توصيف سفير لبنان الأسبق في واشنطن، عبد الله بو حبيب.

أبو حبيب قال لـ«الشرق الأوسط»: «في غياب الحكومة، على الوزير أن ينسق مع رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية، لكن في ظل عدم وجود أي قانون أو نظام داخلي لمحاسبة أي مخالفات لا تحتاج إلى مرسوم من مجلس الوزراء، لا ضريبة للكلام والمواقف». وأوضح بو حبيب أن إقالة أي وزير تحتاج إلى موافقة ثلثي مجلس الوزراء، وهو أمر غير قابل للتنفيذ أو حتى التحقيق في ظل الوضع اللبناني السياسي الحالي.

من جهة ثانية تجلى موقف منصور الضارب عرض الحائط بالقرارات الرسمية اللبنانية، في مارس (آذار) الماضي، من خلال تفرده بالمطالبة بتعليق تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية الذي سبق له أن اتخذه في ديسمبر (كانون الأول) 2011، داعيا إلى سحق الثورة السورية، معتبرا أن «الخروج من المأزق في سوريا يتطلب حلا سياسيا، وأن عودتها إلى الجامعة سبيل إلى الحوار، وضرورة من أجل الحل السياسي». ووصف قرارات الجامعة تجاه سوريا بأنها «ساهمت في إغراق سوريا في بحر من الدماء»، وهو الأمر الذي أدى بمجلس التعاون الخليجي إلى تحذير لبنان من عدم التزامه سياسة النأي بالنفس، وذلك بعدما حصل سجال بينه وبين وزير خارجية قطر حمد بن جاسم آل ثاني، الذي رد عليه بالقول: «ليست قرارات الجامعة التي أغرقت سوريا في بحر من الدماء، ولكن بشار الأسد (رئيس النظام السوري) هو من قتل شعبه وأغرقه في بحر من الدماء».

ولاحقا، نفى منصور ما تناقلته وسائل الإعلام، رغم أن الجلسة كانت منقولة مباشرة على الهواء، عن حصول سجال بينه وبين رئيس وزراء وزير خارجية قطر.

وكان لموقف منصور، ردود فعل محلية وعربية، إذ حذر مجلس التعاون لدول الخليج العربية لبنان من عدم التزامه سياسته الرسمية المتمثلة في «النأي بالنفس» حيال أزمة سوريا، داعيا اللبنانيين إلى «تفادي كل ما من شأنه تعريض أمن بلدهم واستقراره للخطر»، ليعود بعدها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ويؤكد أن «الحكومة اللبنانية لا تزال ملتزمة سياسة (النأي بالنفس) عن الوضع في سوريا». وقوله إن هذا القرار لا يزال ساري المفعول انطلاقا من «إعلان بعبدا» الذي تم التوافق عليه خلال «مؤتمر الحوار الوطني» برئاسة الرئيس اللبناني ميشال سليمان.

وفي حين استنكر فريق «14 آذار» موقف منصور، واصفا إياه بـ«القائم بأعمال النظام السوري لدى لبنان»، فإنه قال في بيان له إن «صفة وزير الخارجية اللبناني، التي لم تكن يوما الصفة الواقعية لطبيعة عمل منصور، بدأت تشكل خطرا فعليا على الدولة اللبنانية وعلى اللبنانيين ومصالحهم». في المقابل كان لحزب الله موقف داعم لوزير الخارجية، مشددا على وطنية وقومية تصريحاته، واصفا تصريحاته بأنها تعبر بكل دقة ومسؤولية ووطنية وقومية عن الموقف الرسمي اللبناني الذي أقرته الحكومة لجهة النأي بالنفس عن التورط في الأزمة السورية.

ووضع حزب الله تحامل بعض المعارضين في لبنان على الوزير منصور، في إطار «ترجمة مفهومة للتعهد الذي تلتزمه المعارضة ضد الدولة نكاية في الحكومة، ومن أجل مآرب سلطوية خاصة».

ومن ناحيته، يتهم «تيار المستقبل» منصور بأنه يتصرف منذ الأحداث في سوريا كأنه وزير خارجيتها أو كأنه سفير في وزارة خارجيتها، بحيث وضع كل إمكاناته بتصرف نظام الرئيس بشار الأسد.

وفي بيان له بعد مطالبة منصور الجامعة العربية بالعودة عن قرار تجميد عضوية سوريا، اعتبر رئيس الحكومة السابق، النائب سعد الحريري، أن النظام السوري وجد من ينطق باسمه على منبر الجامعة العربية وهو وزير الخارجية اللبنانية عدنان منصور الذي دعا إلى فك تجميد عضوية النظام السوري داخل الجامعة.

وفي موقف متناقض لمواقفه المعتادة، وإن توافق في إطاره العام مع الموقف اللبناني الرسمي لجهة عدم المشاركة في مؤتمر «أصدقاء سوريا» بتونس، في فبراير (شباط) 2013 - سأل منصور: «ماذا يريدون من لبنان؟ هل المطلوب أن نكون مع طرف ضد الطرف الآخر؟ لن نكون طرفا وسننأى بأنفسنا وسنكون مع سوريا الدولة والشعب، ولذلك لن نحضر هذا المؤتمر لأسباب معروفة، وذلك مراعاة لمصلحة لبنان العليا، وهذا موقف الحكومة اللبنانية وليس موقفي الشخصي، ونحن منسجمون مع أنفسنا».

وفي شهر فبراير (شباط) 2012، نأى أيضا لبنان بنفسه، وبشخص وزير خارجيته عدنان منصور، عن اعتراف الجامعة العربية بشرعية الائتلاف الوطني السوري كممثل للمعارضة السورية. وقال البيان الختامي للاجتماع إن لبنان رفض المشاركة في قرار الجامعة بسبب وضعه وعلاقته الحساسة مع سوريا. بينما قال منصور في رده على الأسئلة حول أسباب نأي بلاده بنفسها عن الأزمة السورية: «إن هذه السياسة نتيجة العلاقات التاريخية والعائلية مع سوريا». وأضاف أنه تبين أن سوريا تدور في حلقة مفرغة، ونعول على سياسة «الحل يأتي من الداخل السوري».

وليس بعيدا عن سياسات منصور المتناقضة، إضافة إلى تخطيه مرات عدة توجيهات رئيسي الجمهورية والحكومة، كانت «مواجهة سياسية» بينه وبين وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال وائل أبو فاعور، وذلك، بعد «تبنيه» رسالة من السفير السوري لدى لبنان علي عبد الكريم علي، في شهر ديسمبر الماضي، منتقدا فيها تعاطي وزارة الشؤون الاجتماعية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين مع موضوع النازحين السوريين.

وقال أبو فاعور: «الدولة اللبنانية رغم ظروفها المادية الصعبة والانقسامات السياسية والاختلافات والاهتزازات الداخلية بين اللبنانيين، تحاول أن تمسح فائض الإجرام الذي يتعرض له الشعب السوري، فلا تحتاج إلى نصائح ولا مواعظ من أحد، ولا يمكن أن تقبل بتوجيه اتهامات لها»، مؤكدا أن «سياسة الدولة تقررها الدولة، وإذا كانت هناك أي ملاحظة، تناقش في مجلس الوزراء لا في السفارة السورية».

وفي حين انتقد أبو فاعور تبني منصور مضمون الرسالة، «خصوصا أن هذا المضمون أقل ما يقال عنه إنه غير صحيح»، قال أبو فاعور إن «السفير السوري ليس هو المرجع الصالح لإعطاء المواعظ والنصائح واتهام الدولة اللبنانية»، معتبرا أنه «من غير المقبول أن يتجرأ سفير، أيا كان، على اتهام أو انتقاد أو التجريح بحق أي من الوزارات أو الوزراء أو الإدارات اللبنانية، خصوصا إذا كان هذا السفير هو ونظامه مسؤولان عن كل هذه المأساة التي تحصل».