من التاريخ: الولايات المتحدة: صناعة الدولة (2)

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي المشكلات الأساسية التي واجهت الولايات الأميركية الثلاث عشرة بعد جلاء آخر جندي بريطاني من القارة الأميركية في 1783، وكيف أن هذا الكيان السياسي بدأ يواجه المشكلات الأساسية العامة بعد أن أصبح قابضا على شؤون نفسه، ولكن المصالح كانت مختلفة بين الولايات الثلاث عشرة في مسائل كثيرة وكان عليهم أن يجدوا الحلول المختلفة تجاهها، وبالتالي أصبحت السنوات السبع التالية للجلاء سنوات محورية في صناعة الدولة والهوية الأميركية على حد سواء.

حقيقة الأمر أن الكونغرس الأميركي كان يعمل من خلال المقترحات التي تم اعتمادها في إطار وثيقة «مواد الكونفدرالية والاتحاد الممتد»، والتي تم اعتمادها خلال حرب الاستقلال في عام 1777، والتي صدقت عليها كل الولايات باستثناء ولاية ميريلاند لأسباب تتعلق بالجوار الجغرافي مع فيرجينيا وليس لأي سبب سياسي، فكان الكونغرس بمقتضى هذه الوثيقة هو المؤسسة المسيطرة على الشؤون السياسية في ما يتعلق بالسياسة الخارجية والمالية والبريد وغيرها من المناحي المختلفة للدولة، ولكن سيطرته لم تكن كاملة، خاصة تجاه الحقوق الخاصة بالولايات، وكان الكونغرس يتخذ معظم قراراته بأغلبية تسع من ثلاث عشرة ولاية، إلا في ما يتعلق بالمسائل الخاصة بالضرائب، والتي كانت تتم بتوافق الآراء، وفي عام 1781 بدأ الكونغرس ينشئ الوزارات المختلفة، منها الخارجية والمالية لإدارة البلاد، وهو ما سبب خلطا ملحوظا في السلطات، إذ أصبح الكونغرس يجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

لقد كان وجود العدو البريطاني المشترك كفيلا بأن يجمع الولايات على كلمة سواء، وأن يحفظها من الفرقة، ولكن بعد هزيمة الجيش البريطاني بدأت قوة الولايات تظهر من جديد مقابل الهوية الجماعية الأميركية، والتي لم تكن قد رسخت بعد، كما أن قوة الولاية لم يكن من الممكن إغفالها، بل إن بعض الولايات كانت تسعى للتخفيف من سلطة الكونغرس خوفا من استبدال ملك مستبد بكونغرس سلطوي، وبالتالي أصبح الكونغرس جهة تنفيذية تفتقد القدرة الحقيقية أمام تصاعد قوة الولايات وذلك في ظل غياب تام لأي سلطة قضائية أو تشوه السلطة التنفيذية، وهو ما وضع الكونغرس في وضع شاذ للغاية، لا سيما مع تراكم المشكلات الأساسية التي واجهته.

ومما زاد من خطورة الوضع أن بعض الدول بدأت بالفعل في صياغة دساتيرها المنفصلة على أسس ومبادئ إعلان الاستقلال والإعلانات المرتبطة بالحقوق الأخرى، وقد كانت ولاية ماساتشوستس أول واحدة تخطو نحو انتخاب مؤتمر لكتابة وصياغة دستورها الجديد، وسرعان ما تبعتها الولايات الأخرى، والتي وضعت بعد ذلك مسودة الدستور للتصديق عليه بأغلبية الثلثين، كما قامت الولايات أيضا بانتخاب سلطة تنفيذية ممثلة في المحافظين أو الحكام، كما تم انتخاب مجالس برلمانية أيضا على مستوى الولايات، بل إن أغلبية من الدساتير سعت لتقوية السلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية لأسباب تتعلق بالتخوف من طغيان السلطة التنفيذية، وعلى الرغم من أن هذه الدساتير مثلت رصيدا قانونيا عظيما لكتابة الدستور الأميركي الموحد، فإنها كانت أيضا عاملا معرقلا للجهود الجماعية التي كان يتوقع أن تتبلور لصياغة الدولة الجديدة الموحدة.

وعلى الرغم من خطورة المشكلات السياسية والدستورية التي تعرضت لها البلاد، فإن المشكلة الملحة التي واجهت الكيان الوليد كانت اقتصادية في الأساس، فلقد خرجت الولايات بدين مالي كبير للغاية بسبب تكلفة حرب الاستقلال، وكان على الكونغرس أن يسدد هذه المديونية، والتي بلغت في مجملها قرابة 28 مليون دولار، وقد تعمد الكونغرس التعامل مع هذه المشكلة من خلال أمرين، الأول بيع الأراضي في المناطق الغربية، والتي كانت بلا صاحب، والثاني من خلال إصدار سندات نقدية أو بالدين الداخلي، وقد زاد من تفاقم الأزمة حقيقة أن العملة الموحدة التي كان الكونغرس يسكها قد فقدت المصداقية، وبالتالي اهتزت قيمتها النقدية وبدأت الولايات تبحث عن بديل نقدي لهذه العملة، وهو ما دفع الكثير من الولايات إلى سك عملتها المستقلة، وهو ما بدأ يرفع قيمة التعاملات بين الولايات ويخلق حالة من الفوضى المالية في الأسواق أثرت على كل مناحي الحياة، كذلك فإن الأزمة التجارية باتت تهدد الكيان الوليد، فلقد عانت تجارة الولايات الخارجية بسبب حظر استيراد المنتجات الأميركية في بريطانيا ومستعمراتها الخارجية أيضا، والتي كانت تستوعب نسبة كبيرة من هذه الصادرات، وهي الأمور التي باتت تدفع نحو ضرورة تقوية السلطة المركزية في البلاد من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية الجماعية.

ونظرا لوجود مشكلات اقتصادية عميقة، فإن المشكلات السياسية والاجتماعية بدأت تتفاقم تباعا، فلقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى حالات إفلاس كثيرة، كما أثرت بدورها على عمليات دفع أقساط ملكية الأراضي لدى المزارعين الذين باتوا على وشك فقدان رأسمالهم وملكيتهم الزراعية في البلاد، وقد كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على الأوضاع السياسية، فسرعان ما انتشر بين الولايات حالات رفض سياسي بدأت تتطور لثورات محدودة في الكثير من الولايات بسبب حالة الفقر التي بدأت تنتشر، ولعل أهم هذه الحركات الثورية ما هو معروف باسم «تمرد شييس» نسبة إلى «دانيل شييس» الذي بدأ يحيط نفسه بمجموعة من المزارعين المتأثرين بالحالة الاقتصادية والركود التجاري وكون ميليشياته الخاصة الرافضة للظروف الاقتصادية وسلطة الكونغرس والكونفدرالية ودخلت في صراع مباشر مع السلطة المركزية فما كان من الكونغرس إلا أن أرسل قوة بقيادة أحد الجنرالات، والذي تعامل مع التمرد بمنتهى الحزم والقوة حفاظا على الوحدة الوليدة.

وهكذا بدأت أحلام دولة الحرية الوليدة في الولايات المتحدة تتبدد على صخرة المشكلات المختلفة، وبدأ حكماء الدولة الوليدة مثل جورج واشنطن يدركون خطورة إطلاق العنان للحريات الفردية المطلقة على حساب الدولة المركزية، ومن ثم جاءت جملته الشهيرة «لقد كنا أغلب الظن على قناعة إيجابية للغاية بالنسبة لطبيعة الإنسان عند إقامة الكونفدرالية»، وقد تبع واشنطن آخرون بدأوا يدركون خطورة الفردية على حقوق الجماعة، ومن ثم أهمية تقوية الهياكل المركزية ووضع التوازن اللازم للخروج من كل هذه المشكلات الممتدة، وأصبحت هناك ضرورة لوضع نظام سياسي جديد قادر على صيانة الدولة الوليدة والتعامل مع الأوضاع الاقتصادية المختلة، وهي المهمة التي بدأ الكونغرس يتعامل معها بعدما أدرك أنه لا مناص من ذلك كما سنرى في الأسبوع المقبل.