الضاحية.. «السجن» مقابل الأمن

معقل حزب الله بات أشبه بمربع أمني كبير.. حواجز وطوابير سيارات.. والسكان منقسمون

TT

لم تخفّف عبارة «لسلامة الأهل والوطن» الصفراء، التي تتصدر حواجز حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، من انزعاج قسم من سكان الضاحية.. كما لم تخفِ اعتذارات رجال أمن الحزب المتكررة، استياء بعض السكان وزائريها، نتيجة الحواجز المتكررة والمكثفة على مداخل المنطقة. التدابير الأمنية المكثفة في المنطقة، تؤكد أن الحزب أجبر على ارتداء قميص الأمن، وهو قميص، بحسب المقولة اللبنانية الشهيرة، «قميص متسخ»، يضع من يرتديه في الشارع على تماس مباشر مع الناس وما يستتبع ذلك من مشكلات و«تجاوزات». فالتجربة برهنت على أن من يمسك بملف الأمن في الشارع معرض للأخطاء، التي بدأت تظهر تباشيرها مع تجاوزات بحق صحافيين، واشتباكات مع عائلات وعشائر، بالإضافة إلى اشتباكات مع الحلفاء على غرار ما جرى مع مخيم برج البراجنة الفلسطيني.

في الضاحية اليوم، حيث معقل حزب الله، تمتد طوابير السيارات وقت الذروة، بعد الظهر، أكثر من 150 مترا قبل الحواجز التي يجري فيها تفتيش دقيق للسيارات، وتدقيق ببطاقات السائقين الشخصية. ويعيد مشهد الشوارع المغلقة في الضاحية، وانتشار رجال الأمن على حواجز ثابتة ومتنقلة، إلى الأذهان صورة المربع الأمني الذي دمرّته إسرائيل في حرب يوليو (تموز) 2006.

اليوم، باتت المنطقة بأكملها مقفلة، ولم تعد محصورة في نطاق جغرافي محدّد كان محصورا بمراكز حزب الله السياسية ومنازل قياديه. لقد رسم الحزب بإجراءاته التي اتخذها بعد تفجير الرويس في أغسطس (آب) الماضي حدود منطقته جغرافيا، بنشره حواجز أمنية تدقق في حمولة السيارات وهويات العابرين إلى المنطقة الخاضعة لنفوذه، وذلك لأول مرة منذ تأسيسه في عام 1982.

وعلى حدّ وصف رجل ستيني يقيم في المنطقة، فإن الضاحية باتت بأكملها «أشبه بمربع أمنيّ»، بعد انفجار بئر العبد الذي أسفر عن وقوع 54 جريحا في 9 يوليو (تموز) الماضي، وانفجار الرويس في 15 أغسطس (آب) الذي أسفر عن وقوع نحو 30 قتيلا وأكثر من 300 جريح. وإذا كان تدقيق حزب الله قبل حرب تموز محصورا بمربعه الأمني في حارة حريك، نتيجة تهديدات قيادييه، فإن «الضاحية بأكملها اليوم باتت تحت التهديد، وتستدعي هذه الجهود والتدابير»، يقول الرجل نفسه.

ويلقى حزب الله معارضة كبيرة على تطبيقه الأمن الذاتي في منطقته، وهو ما رفضه معظم المسؤولين في لبنان، وأبرزهم وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال مروان شربل، فضلا عن معارضي الحزب، بصفته خرقا لسياسة لبنان، في وقت تعتبر فيه مهام الأمن من اختصاص الدولة. لكن للحزب، ما يبرّر إجراءاته المشددة. ويقول عضو كتلة «الوفاء للمقاومة»، التي تضم حزب الله وحلفاءه في البرلمان اللبناني النائب وليد سكرية لـ«الشرق الأوسط» إن عمل حزب الله الأمني «لم ولن يكون بديلا عن عمل القوى الأمنية إذا قامت الأخيرة بدورها على أكمل وجه»، موضحا أن «هذا الأمن لن يكون موجودا في أي حال من الحالات إذا كانت الدولة قادرة على تأمين الأمن بشكل كامل والقيام بكل المهمات بما فيها تأمين حماية عناصر المقاومة وحزب الله، لكن أمام عجز الدولة وأنظمتها عن القيام بدورها، فمن الطبيعي أن يتولى الحزب هذه المهمة». ويشير إلى أنه «طالما أن إسرائيل وجهات أخرى تستهدفه، لا بد لحزب الله أن يستنفر أحاسيسه وعيونه وتنفيذ كل الخطط الأمنية الوقائية التي تضمن أمنه وأمن من معه». وانطلاقا من هذا الواقع، يضيف سكرية، «لا يمكن القول إن حزب الله هو دولة خارج الدولة اللبنانية، لا في الضاحية ولا في الجنوب ولا في البقاع ولا في أي منطقة أخرى، ولا سيما حيث تقوم القوى الأمنية بمهماتها والجهات المختصة بأعمالها».

وتولى حزب الله مهمة أمن المنطقة، بشكل علني، بعد انفجاري بئر العبد والرويس في الضاحية. باتت إجراءاته علنية، واتسعت لتشمل كافة مناطق الضاحية، وتتميز بقدر كبير من التنظيم، إذ منح كل حاجز رقما خاصا مدونا على العارضة الحديدية الصفراء المكتوب عليها «لسلامة الأهل والوطن». غير أن تبريراته، لا تقنع معارضي الحزب. ويرى القيادي في تيار المستقبل مصطفى علوش لـ«الشرق الأوسط» أن حزب الله «لم يقلع» القميص الأمني «الوسخ أصلا». ويقول إن «الجزء الأساسي من عمله، هو أمني، بحيث تتخطى نسبة مهامه الأمنية الـ80 في المائة من عمله السياسي والدبلوماسي والاجتماعي، وهي غطاء لأعماله الأمنية، وصولا إلى عمله المقاوم»، معتبرا أن الحزب، بإجراءاته الأمنية، «يقوم بدوره الطبيعي».

ولا يخفي علوش أن حزب الله يواجه تحديات على صعيد الاحتفاظ بجمهوره، ويخوض اختبار الحفاظ عليه، نظرا لحساسية التجربة. ويرى أن الحزب، بخياراته العسكرية والأمنية، «يخوض معركة حياة أو موت، وسط أسئلة عن قدرته على حماية جمهوره، في وقت يواصل فيه عناده وتدخله بالمعركة في سوريا». كما يلفت علوش إلى أسئلة عن قدرته على «تغطية الخسائر البشرية والمادية في صفوف جمهوره»، لافتا إلى أن «كل تلك الأسئلة مطروحة، بانتظار أن تتضح الإجابات عليها».

ولجأ حزب الله إلى الأمن الذاتي، «مجبرا»، علما أنه استفاد إلى حد كبير من تجربة منظمة التحرير الفلسطينية الأمنية في لبنان، وانعكاساتها على جمهوره. ونفذ تلك الدروس طوال مسيرته منعا لإثارة معارضة السكان ضده. وقبل انفجاري الضاحية، كانت الإجراءات مقتصرة على بعض مباني الحزب والشوارع المعروفة أمنيا، قبل أن تتسع لتشمل جميع طرقات الضاحية. أمام الشوارع المؤدية إلى المقار الدينية، فإنها تقفل بشكل كامل في أوقات المناسبات، ويتولى عناصر بلباس مدني إقفالها بالسواتر الحديدية.

وينقسم سكان الضاحية بين مؤيد للتدابير المشددة التي يتخذها حزب الله إلى جانب الجيش اللبناني، منعا لوقوع تفجيرات مماثلة، وآخرين يعارضون المبالغة بالإجراءات. وينتقد أحمد (33 عاما) الإجراءات المكثفة «وغير المدروسة»، التي تؤدي إلى زحمة سير خانقة أثناء وقت الذروة. يقول: «لا أفهم الغرض من تفتيش دراجتي النارية مرتين، الأولى على حاجز الجيش اللبناني، والثانية على حاجز لحزب الله على بعد 100 متر من حاجز الجيش.. هل حملت المتفجرات خلال هذه المسافة؟» ويبدو الرجل، مثل آخرين، غاضبا من عمليات تفتيش للآليات، والتدقيق ببطاقته، والسؤال عن أوراق السيارة. يضيف: «صحيح أنهم يتعاطون مع المارة بلطف واحترام، ويكثرون من عبارات الاعتذار، لكن مسافة الطريق من العمل إلى المنزل، باتت تستغرق 45 دقيقة، عوضا عن 15 دقيقة كنت أحتاجها للوصول إلى المنزل قبل الإجراءات الأمنية».

وتنتشر حواجز تفتيش للجيش اللبناني على أربعة مداخل رئيسة للضاحية، على الأقل، في منطقة الغبيري، مدخل أوتوستراد هادي نصر الله الشمالي، وعلى مدخل جادة عماد مغنية، وهي مدخل الضاحية الغربي، وعلى رأس الطريق السريع الذي يربط منطقة بعبدا بطريق المطار على مدخل الضاحية الشرقي، فضلا عن حاجز في منطقة الكفاءات - الحدث. وعلى مسافة قريبة من حواجز الجيش، ينتشر رجال أمن حزب الله، حيث يقيمون الحواجز على المسارب الرئيسة للضاحية، فيما يغلقون مداخل الشوارع التي تتضمن مراكز دينية وأمنية، ويظهرون بلباس مدني ويحملون أجهزة كشف عن المتفجرات، كما يقوم آخرون بدوريات في سيارات مغلقة بزجاج داكن، بين الشوارع.

وكانت الإجراءات، قبل مطلع الأسبوع الماضي، مقبولة إلى حد كبير، قبل أن تصل إلى إغلاق جوانب الطرق حيث تركن سيارات السكان، بالأعمدة الحديدية والجنازير المعدنية. وعوضا عن أن يكون عرض الطريق 10 أمتار، بات أقل من ستة أمتار، بالكاد يتسع لمرور سيارتين. وأكثر ما أزعج السكان، إقفال أماكن ركون سياراتهم. يسأل قاسم (55 عاما): «أين أركن سيارتي؟ إذا كانوا يريدون اتخاذ تلك الإجراءات، بالتعاون مع بلديات الضاحية، عليهم تأمين البديل». ويضيف: «ليس منطقيا السيطرة على مواقف سياراتنا بحجة الضرورات الأمنية من غير توفير أماكن ركن أخرى».

ويذهب رجل آخر إلى أبعد من ذلك، بالسؤال عن كيفية استقبال الزائرين إذا أوجدوا حلا لسيارات السكان. يقول: «بفضل هذه الإجراءات، بات من الصعوبة أن نستقبل ضيوفا، ذلك أن الضيف المقبل لزيارتنا بات عاجزا عن إيجاد موقف لسياراته»، معربا عن خوفه «من أن نصبح معزولين عن الناس».

واستفاق السكان الأسبوع الماضي على ورشة عمل في الشارع، حيث يحفر العمال في الطرق، ويزرعون أعمدة حديدية قصيرة على جانبي الطريق في مناطق بئر العبد، حارة حريك، الشارع العريض، الرويس، ما لبثوا أن أضافوا إليها الجنازير المعدنية التي تمنع ركن السيارات. وتعد هذه الشوارع تجارية، وتشهد اكتظاظا على مدار العام، ومن شأنها أن تقوّض الحركة التجارية فيها.

وإذا كانت هذه الإجراءات تقوّض الحركة المرورية والاقتصادية في أكثر المناطق اللبنانية حركة تجارية نشطة، فإن الحزب يولي أهمية للأمن. ويقول النائب سكرية: «ما يقوم به حزب الله في الضاحية، لا يخرج عن إطار تأمين الأمن لهذه المنطقة المستهدفة، حيث من الطبيعي أن يكون له أعين أمنية ساهرة على حماية قياداته وعناصره من أي اختراق أو أي عمل تخريبي كمثل التفجيرين اللذين استهدفا المنطقة الشهر الماضي وأوقعا مئات الجرحى والقتلى. لذا، فإن عمل الحزب هو لمؤازرة القوى الأمنية وليس بديلا عنها». ويؤكد أن «الأولى هي التي تقوم بمهمة التفتيش حيث تكون موجودة في الطرق الرئيسة، بينما عناصر الحزب يحمون بأعينهم وبلباسهم المدني وليس بسلاحهم». وبالتالي، يضيف سكرية، «لا تختلف مهمة حزب الله الأمنية لحماية (بيته)، عن الحماية التي يقوم بها أي شخص لحماية منزله من أي استهداف أو اختراق. ونحن بكل تأكيد نثق بالقوى الأمنية، لكن علينا أن نكون واقعيين في هذا المجال، ونعلم أن سرية من القوى الأمنية، وإن وصل عددها إلى 300 عنصر، لن تكون قادرة على حماية أمن الضاحية بشكل كامل. حواجز القوى الأمنية تقوم بواجبها على الطرقات الرئيسة من دون تدخل أي جهة، لكن من يضبط أمن الطرقات الفرعية». وتتفاوت التقديرات بشأن المهام التي يقوم بها الحزب، إذ يرفض المقربون منه أن يقوم الحزب بمهام الأمن الذاتي. ويقول الخبير الاستراتيجي المقرب من الحزب أمين حطيط لـ«الشرق الأوسط» إن «اتهام الحزب بالأمن الذاتي، هو من أكبر الأكاذيب»، موضحا أنه «وجد في منطقة مستهدفة من قبل مجموعات إرهابية، فقام في ظل عدم قيام الدولة بواجباتها، بتعيين أهالي من المنطقة بمهام تفتيش السيارات، تحت إشرافه، وذلك لا يعد أمنا ذاتيا»، ويشير حطيط، وهو عميد متقاعد من الجيش اللبناني، إلى أن ما يقوم به الشبان «يعتبر يقظة اجتماعية وشعبية للحفاظ على المنطقة، وعلى السلامة العامة»، مؤكدا أن «الأمن هو حلقة شاملة، وما يتم تنفيذه لا يتعدى «1 من 40» إجراء يتمم المهام الأمنية، كون الشبان يراقبون السيارات حيث استهدفت المنطقة».

وضاعفت الإجراءات المكثفة، القلق في الضاحية من أن التهديد لا يزال قائما، كما قيّدت إلى حد بعيد حرية التنقل والعيش في منطقة تعرف باكتظاظ سكاني بالغ. وعشية بدء موسم المدارس، حيث يزداد الازدحام، يرتفع منسوب القلق من تأثير الإجراءات على حركة الناس. وفي المقابل، بدأ سكان الضاحية بخطوات جدية للرحيل منها، حيث تدفق المتمكنون منهم ماديا باتجاه مناطق الأشرفية وعين الرمانة وبعبدا والحازمية ذات الأغلبية المسيحية، بالإضافة إلى مناطق بيروت الإدارية. وازدادت لافتات البيوت المعروضة للإيجار في المنطقة، بعدما أخلاها عدد من السكان بسبب الإجراءات الأمنية والقلق والمخاوف من تفجيرات جديدة، وامتداد تداعيات الضربة الأميركية المحتملة على سوريا، على الضاحية.

وكانت هذه المنطقة شهدت إقبالا كثيرا على المنازل المعروضة للإيجار بعد حرب يوليو (تموز) 2006، وكان، حتى مطلع الصيف، من الصعب العثور على منازل شاغرة للإيجار، رغم ارتفاع قيمة الإيجارات بشكل جنوني. كما أثرت الإجراءات على الحركة التجارية، إذ تقلصت أكثر من 50 في المائة. ويقول صاحب مطعم لـ«الشرق الأوسط» إن إنتاجه «تدنى إلى حد كبير بفعل الإجراءات أمام المحال التجارية، حيث يتسبب إقفال مواقف السيارات بزحمة سير خانقة، تمنع الزبائن من الركون أمام المتجر».

والى جانب التداعيات الاجتماعية والاقتصادية على الضاحية، حصلت عدة إشكالات بين عناصر الحزب الموكلين مهام الأمن، وبعض السكان، إذ سجل إطلاق نار على حاجز في الكفاءات من قبل أفراد من عشيرة لبنانية، قبل أن يحصل إشكال آخر مع عناصر فلسطينية كانوا على متن سيارات في زفة فرح، أدى إلى سقوط قتيل فلسطيني. وبعدها، سُجل إطلاق نار على حاجز للحزب في منطقة مار مخايل من قبل عناصر من عشيرة آل شمص، ردا على توقيف الصحافي حسين شمص على الحاجز. وقبل عدة أيام، اشتكت الصحافية اللبنانية مها الرفاعي من إهانتها على حاجز في منطقة غاليري سمعان.

هذه المشكلات، يضعها العميد المتقاعد حطيط في إطار «المفتعلة»، معتبرا أن «بعض العناصر الموتورة من لبنانيين وفلسطينيين، التي تستغلها أجهزة المخابرات، تفتعل المشكلات لإبرازها إعلاميا». ويرى أن التحديات الاقتصادية «فرضتها المتفجرات والعمليات الإرهابية وليس الإجراءات الأمنية الآيلة إلى مراقبة الداخلين، بهدف منع المتفجرات».

ووسط تلك التحديات، كان الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله أعلن أن الأجهزة الأمنية أبلغت الحزب عجزها عن حماية الضاحية الجنوبية لبيروت، مؤكدا أنه «ليس لدينا أمن ذاتي ولا نؤمن بالأمن الذاتي»، وذلك على خلفية إثارة أطراف سياسية ووسائل إعلامية قضية الحواجز الأمنية التي يقيمها حزب الله على مداخل الضاحية لحمايتها إثر استهدافها مرتين بسيارات مفخخة في الأشهر القليلة الماضية.

ورد قاسم على الاتهامات بشأن حلول حزب الله مكان الدولة وأجهزتها في مناطق نفوذه بالقول: «لم نعمل يوما لنكون مكان الدولة لا في المسألة الأمنية ولا في المسألة السياسية ولا الاجتماعية ولا في أي مسألة أخرى»، موضحا أن «الأمن مسؤولية الأجهزة الأمنية اللبنانية، ونحن نؤمن بأن القضاء مسؤولية القضاء اللبناني، وإدارة الدولة مسؤولية أجهزة الدولة، وهذا ما مارسناه وقمنا به بشكل عملي».