من التاريخ

ميلاد الدستور الأميركي

TT

كما تابعنا في الأسبوع الماضي، فقد أسفر اجتماع النواب الأميركيين في فيلادلفيا للخروج بدستور موحد يحكم البلاد ويقوى السلطة المركزية، عن بداية مولد الدستور الأميركي وذلك على ضوء قبول ما عُرف بـ«توافق كونيتيكت» الذي وفق بين الآراء المختلفة فيما يتعلق بتمثيل الولايات في الكونغرس الجديد مع مراعاة مصالح الولايات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، وذلك من خلال إنشاء مجلس للنواب يُنتخب وفق تعداد السكان، ومجلس للشيوخ بالمساواة بين الولايات.. ولكن هذا كان حلا لمشكلة التوازن التمثيلي للولايات، ولكن المشكلات الأخرى كانت لا تقل وعورة وباتت تنتظر الحلول.

حقيقة الأمر أن مؤتمر فيلادلفيا كانت أمامه مشكلات فلسفية عميقة لصياغة الدستور، فلقد تجاذب الحاضرون المخاوف المبنية على التجربة السياسية الدولية.. فلا ننسى أن هذه الجمعية كانت منعقدة في عام 1787، ولم تكن أوروبا في هذا الزمن قد بدأت بعد المسار الليبرالي؛ بل كانت في نهاية المرحلة المعروفة بـ«عهد الحكم للحكم» Age of Absolutism» ولم يستثن التاريخ إلا إنجلترا من هذا العهد، التي خاضت غمار تجربة «الثورة المجيدة» في نهاية القرن السابع عشر، ولذلك تحضرني هنا مقولة شهيرة بأن «الدستور الأميركي كتبه مجموعة من المفكرين والساسة والتجار.. وشبح، وهذا الشبح هو شبح كرومويل!»، والمقصود بهذا التشبيه هو أن كل المشاركين كانوا يخشون فكرة استبداد الملك أو الحاكم تماما كما حدث مع كرومويل عقب الثورة الإنجليزية، فكانوا جميعا يريدون إعلاء سلطة البرلمان، ولكن الكثيرين حذروا أيضا من أن ذلك معناه نقل السلطة المطلقة من فرد لمجموعة أفراد وهو ما عرفه آخرون بخطورة «استبداد الأغلبية».

وكأن هذا لم يكف لخلق المشكلات للجمعية، فإن حالة الفوضى السياسية والاقتصادية والانفلات الذي تميزت به الأمور عقب الاستقلال، دفعت أكثر الناس ليبرالية مثل واشنطن الذي رأس مؤتمر الدستور إلى الإشارة في مناسبات عديدة إلى أن «معظم مشكلات الدولة الأميركية تأتي من فرط الحريات»، بينما أكد آخر ممن شاركوا أنه لا بد من حماية المجتمع من استبداد الأغلبية، وقال آخر إن الشعب هو أكبر متوحش. ولا يجب الاستغراب من هذا الفكر في مجتمع مر بعملية جراحية سياسية على غرار ما حدث في الولايات المتحدة من الاستقلال وحتى صياغة الدستور، فالشعوب والأفراد تكون في أوج قوتها عقب الثورات، وهو ما يجعل فكرة قبولها التنازل عن سلطات وحقوق خاصة بها إلى حكومة مركزية أمرا صعبا للغاية حتى ولو كان هذا في صالحها.

لقد كان الحل أمام المجتمعين يكمن في صياغة ما عرف بـ«المراقبة والتوازن»Checks and Balances» أي منع أية سلطة من السلطات الثلاث (التشريعية ممثلة في الكونغرس، والتنفيذية في رئاسة الجمهورية، والقضائية ممثلة في المحكمة العليا) من الانفراد بالأمر والسيطرة على المشهد السياسي، وذلك من خلال توزيع السلطات على شكل منمق ومتوازن، فتم إقرار السلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الجمهورية لتكون له صلاحيات محددة مثل القيادة العليا للقوات المسلحة وإبرام الاتفاقيات الدولية وتقديم التشريعات، ولكن الدستور منح الكونغرس أيضا سلطات موازنة على رأسها إقرار الاتفاقيات بثلثي الأعضاء، فضلا عن الحق في إعلان الحروب، كما كان للكونغرس صلاحيات عزل الرئيس على خلفية الخيانة العظمي أو الاختلاس؛ شريطة موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ بعد ثبوت إدانته، وصحيح أن بعض الآراء رأت إمكانية عزله من خلال الاستفتاء العام في كل الولايات، إلا أنه رُؤي صعوبة تنفيذ ذلك.

أما السلطة القضائية فقد كفل لها الدستور استقلالا خاصا تحت قيادة المحكمة العليا التي يتم تعيين القضاة أو القانونيين فيها بترشيح الرئيس وموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وقد رفض الدستور منح أي من السلطتين؛ (التشريعية والتنفيذية) الدخول في عملية المراجعات القانونية للقوانين الفيدرالية القائمة؛ بل ترك هذه المهمة للسلطة القضائية وحدها على أن يتم ذلك من خلال احترام القوانين الجديدة الواردة في الدستور وفي الاتفاقيات الدولية على سبيل المثال التي تعد أعلى مقاما من أي قانون وضعي قائم في ذلك الوقت، كما تم الاتفاق على عدم وضع أي قوانين لتجريم أي سلوكيات بأثر رجعي فيما هو معروف بـ«Ex post facto» وذلك لضمان عدم العزل السياسي لأحد في المجتمع الجديد إلا من ثبت عليه أي حكم قضائي. وقد كان حق التعديل أحد أهم العناصر التي أقرها الدستور الجديد، الذي كفل له الاستمرارية حتى يومنا هذا، فبعد أن كان هذا الحق وفقا لمواد الكونفدرالية تتم ممارسته بالإجماع، فإن الدستور الجديد سهل هذه المهمة من خلال إقرار ثلثي الكونغرس فقط لهذه العملية.

لم ينس المجتمعون في إطار التوازن السياسي أن يمنحوا الـ13 ولاية العديد من مبادئ الحكم الذاتي، فلقد تقاسمت الولايات الحقوق مع الحكومة الفيدرالية، وتم منح الولايات الحكم المحلي من خلال اختيار الحكام والمجالس الخاصة بها، على أن يتم منح السلطة الفيدرالية الحقوق فيما يتعلق بالاتفاقيات والحروب والجمارك والمالية، وتخول للولايات حقوق الإدارة الأخرى بلا منازعة فيدرالية.

وعلى عكس ما كان متوقعا، فلقد انتهى الكونغرس من صياغة المسودة النهائية في مدة غير طويلة، فقدموا عملهم بعد أشهر قليلة قبيل نهاية عام 1787، وبدأت الولايات تدخل معركة التصديق على الدستور الجديد ليحل محل مواد الكونفدرالية التي كانت أساسا للشرعية السائدة للكونغرس القاري.. ولكن هذه المعركة لم تكن سهلة، فلقد كانت هناك مجموعة من المتشككين لا يستهان بها رأت أن الوثيقة الجديدة تتضمن مخاطر محدقة ستقضي على مصالح الولايات الصغيرة من ناحية، فضلا عن أنها كانت في غير صالح الحقوق الأساسية؛ من ناحية أخرى، لأن الدستور لم يتضمن أي حقوق أساسية للمواطنين، كما أنهم شككوا في شرعية مؤتمر أو جمعية الدستور ذاتها والمقترحات الخاصة بالتصديق على الدستور أيضا، فلقد نصت مسودة الدستور على أنه لا يدخل حيز النفاذ إلا بعد موافقة تسع ولايات من الـ13، وهو مما أثار حفيظة البعض.

على الجانب الآخر، ظهر فريق عرف في التاريخ الأميركي باسم «الفيدراليون» Federalists والذين رأوا أهمية التصديق على الدستور؛ وعلى رأسهم جون جاي وماديسون وألكسندر هاميلتون.. وغيرهم، ممن حاربوا من أجل ميلاد هذا الدستور، مؤكدين على أنه المستقبل، واستند فكرهم على أن أميركا دولة كبيرة ومتنوعة ومن المستحيل أن يسيطر على الحكم فيها فصيل واحد بمعزل عن الآخرين، ودخلوا في عملية ضغط سياسي داخلي من أجل التصديق على الدستور، وقاموا بعملية ضغوط موسعة في كل الولايات لضمان التصديق عليه.

واقع الأمر أن العديد من الولايات قبلت الدستور بأغلبية لا بأس بها منذ أن طرح في نهاية 1787؛ فوافقت نيوجيرسي وجورجيا بالإجماع، بينما وضعت ولاية ماساتشوستس العراقيل الواحدة تلو الأخرى لعدم التصديق، وبعد مناقشات ممتدة في البرلمان المحلي وافقت هذه الولاية عليه بأغلبية 87 صوتا مقابل 68، وقد حدث الشيء نفسه في ولاية فيرجينيا التي أقرته بفارق عشرة أصوات فقط، بينما أقرته ولاية روود آيلاند بفارق صوتين في مايو (أيار) 1790، وبتصديق الولاية التاسعة دخل الدستور حيز النفاذ، واختتم الكونغرس القاري مداولاته في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1788؛ حيث تقرر أن ينتقل العمل في الكونغرس الجديد لولاية نيويورك، وتم انتخاب جورج واشنطن أول رئيس للجمهورية بالإجماع، بينما تم انتخاب جون آدم نائبا للرئيس. وقد بدأ إنشاء الدواوين أو الوزارات من قبل الكونغرس، فدفع واشنطن بتوماس جيفرسون لحقيبة الخارجية، وألكسندر هاميلتون مساعده العسكري خلال حرب الاستقلال لحقيبة المالية، وبهذا أصبحت للولايات المتحدة حكومتها الجديدة ودستورها المقبول شعبيا وسياسيا في عام 1789، وهو العام الذي بدأت فيه فرنسا مغامرتها السياسية الجديدة من خلال ثورتها الشهيرة، وهي التجربة التي أخذتها قرابة تسعة عقود للوصول إلى ما وصل إليه الأميركيون في 13 عاما مع اختلاف التجربة والمكان.