من التاريخ: عبء الثورات

TT

تابعنا في الأسابيع الماضية الظروف السياسية التي مرت بها المكسيك منذ الاستقلال وحتى ظهور التيار الليبرالي بقيادة «بنيتو خوارس»، وما تعرضت له البلاد من تدخلات خارجية في شؤونها كلفتها كثيرا من أراضيها وكبريائها على أيدي ساسة ضعفاء وعملاء تميزوا بضيق الأفق السياسي والنهم المادي، وعلى الرغم من تسيد التيار الليبرالي فترة زمنية محددة بعد منتصف القرن التاسع عشر، فإن التيار المحافظ الذي تمثل في الكنيسة وطبقة النبلاء من ذوي الأراضي كان يستشعر الخطر من استمرار تسيد هذا التيار لا سيما مع وجود نزعات تطالب بعمليات إعادة توزيع للثروة في البلاد. وهكذا، فإن فشل الثورة المكسيكية في تحقيق فكرة العدالة والحرية كان منبعه اختلاف عقائدي حقيقي بين المؤمنين بالتغيير الليبرالي بوسائل راديكالية من ناحية، والمتخوفين منه من طبقة الكنيسة ومالكي الأراضي من ناحية أخرى، وهو ما أدخل المكسيك في خلافات عميقة استحوذت على الساحة السياسية واستهلكت الطاقات الممتدة للبلاد، وهو ما أخر التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء. ورغم ما أضفاه خوارس من روح جديدة في الجسد المكسيكي المنهك، فإن الساحة السياسية كانت مليئة بالصراعات، وبمجرد موت خوارس آلت الأمور إلى الديكتاتور بورفيريو دياز الذي أمسك مقاليد الأمور بيد من حديد لقرابة 30 عاما استطاع خلالها أن يتغلب على الدستور، خاصة الفقرة المانعة إعادة الترشح، وما كان منه إلا أن أوجد لنفسه بديلا خاضعا رشحه فترة رئاسية ثم ضرب عرض الحائط بهذا الشرط بعد ذلك واستمر في إعادة ترشيح نفسه. وقد كانت للرجل ميليشياته الخاصة التي كانت كفيلة بأن تضمن له النجاح المستمر في الانتخابات المزورة وتضفي له شرعية مفقودة. ولقد اتسم حكم بورفيريو بالانحياز الكامل للطبقة الغنية المحافظة والكنيسة، ففتح البلاد لموجات من الاستثمارات بالتعاون مع الأجانب خاصة الأميركيين، ولكن يُكتب له أنه أرسى القاعدة الصناعية الأساسية في البلاد، ولكن الظروف الخاصة بالعمال والمزارعين ازدادت سوءا في عهده، فعُزلت هذه الطبقات عن الطبقة الحاكمة في البلاد.

لقد كان من الطبيعي أن تظهر طبقات من المعارضة لهذا الحكم، وقد اتصف الصراع السياسي في البلاد بنبرة طبقية، فالمزارعون يسعون لعمليات إصلاحية واسعة النطاق، خاصة قانون الإصلاح الزراعي الذي يكسر احتكار الطبقات الغنية لملكية الأرض، بينما سعى العمال لإقرار حقوق تتعلق بالعمل والأجور، ومع مرور الوقت تباعدت الأطراف بعضها عن بعض، خاصة مع تنظيم المعارضة على أيدي ماديرو الذي نظمها بالتعاون مع زعيمين شعبيين محببين للقلب المكسيكي هما زاباتا وبانشو فيا. وعلى الرغم من هذا التيار المعارض، فإن دياز ألقى القبض على ماديرو قبيل الانتخابات وفاز بها معلنا نفسه مستمرا في رئاسة البلاد.

لم تقبل المعارضة هذه النتائج، وسرعان ما اندلعت الحرب الأهلية مرة أخرى بين الفريقين التقليديين، وبعد كر وفر استطاعت المعارضة أن تحسم الأمر عسكريا وتفرض على دياز التخلي عن الرئاسة والهروب إلى خارج البلاد، وتم تعيين ماديرو رئيسا للبلاد، فاعتقد البعض أن هذه كانت بداية تحقيق حلم التقدم والرفاهية، ولكن هذا لم يحدث؛ إذ سرعان ما دب الخلاف بين فيا وزاباتا من ناحية، وماديرو من ناحية أخرى، كما لو كان مكتوبا على المكسيك أن تعيش حالة تناحر بين المختلفين في الرأي وحتى المتفقين فيه على حد سواء، فلقد ظن القائدان الشعبيان أن ماديرو سينفذ خطط الإصلاح الزراعي والصناعي ويحسن حالة المزارع وعمال المصانع، ولكن ماديرو كان مهتما بأبناء طبقته الراقية، وهدفه كان فرض نظام ليبرالي، ولم يكن على استعداد للنزول لمطالب العامة، كما أنه أصبح في صف المستثمرين الأجانب، خاصة الأميركيين، مما جعله يفقد دعم طبقة الأغنياء بتضافرها مع الطبقات الأخرى ضده، مما أدى إلى نهايته السياسية.

وهكذا اندلع الخلاف السياسي والعسكري مرة أخرى وانتهى الأمر بتولي أويرتا الحكم، ولكن الرجل لم يبق طويلا، فسرعان ما انفلت زمام الأمور، فحدث انقلاب جديد على يد كارانزا الذي ساندته الطبقة العليا والكنيسة، وقد حُسم الأمر لصالح كارازنا في حربه ضد الزعيمين فيا» وزاباتا بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية التي سمحت باستخدام أراضيها من قبل جيوش الرئيس لضرب الحركة الثورية، وهُزم جيش فيا بالفعل وكاد يقضى على حركته، ولكنه استعاد توازنه وقرر الانتقام من الأميركيين، فدخل بقواته إلى ولاية نيومكسيكو، مما اضطر الرئيس ويلسون لإرسال حملة تأديبية بقيادة الجنرال بيرشينج عام 1915 لمدة عام كامل، ولكنها فشلت في مهمتها فشلا تاما بسبب لجوء فيا لتكتيكات حرب العصابات، ولكن هذه الحروب والهزائم أضعفت جيش المزارعين، وعندما دعا كارانزا الزعيم فيا للاتحاد من أجل محاربة الولايات المتحدة، وهم في المفاوضات غدر كارانزا بالرجل وقتله في 1919، ولكن القدر لم يمهل كارانزا كثيرا؛ إذ سرعان ما ذاق من الكأس نفسها التي شرب منها رؤساء مكسيكيون كثيرون فجرى التخلص منه، وجرى إقرار حكومة مؤقتة جاء بعدها أحد أبرع الساسة والجنرالات وهو أوبريجون، فتفرغ الرجل للقضاء على ما تبقى من الفوضى، وفي عهده قُتل الزعيم زاباتا عام 1923.

لقد استقرت المكسيك بعض الشيء على أيدي أوبريجون، حيث سعى لوضع قاعدة اقتصادية تسمح للبلاد بالنمو والتطور، ولكنه لم يبق كثيرا حيث وعى الدروس من قبله فسلم سدة الحكم بعد ولايته إلى أحد الرؤساء الأقوياء وهو كايس وإليه يرجع تأسيس الحزب الذي عُرف فيما بعد بحزب الثورة المؤسسي PRI، الذي ظل يحتكر السلطة في المكسيك لحقب تالية. وفي سعيه للقضاء على ما تبقى من حالة الفوضى التي اعترت البلاد، استطاع هذا الحزب أن يحارب المشكلات السياسية التي بدأت تنتشر في المكسيك بسبب الحركات الفاشية المنقولة من الأفكار الأوروبية التي كانت شائعة في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، فطالبت هذه الفئات بمنح الدولة قوة مطلقة على حساب الشعب، كما ظهرت أحزاب مسيحية في المكسيك مدعومة من الكنيسة سميت بالـ«كريستيرو»، وهكذا انزلقت البلاد مرة أخرى إلى حالة شد وجذب داخلي وصراع على السلطة بعدما قرر أوبريجون أن يرشح نفسه للرئاسة فقتل، واستمرت الفوضى لبضع سنين حتى جاء الرئيس لازارو كارديناس الذي قبض على سدة الحكم تماما.

ومنذ اليوم الأول أدرك الرجل أن الأمر لن يستتب في البلاد إلا إذا أدخل الإصلاح الزراعي، فقام بذلك إرضاء للمزارعين، كما قام بعملية تأميم للبنوك العاملة في البلاد، وأدخل موجة من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية بالغة الأهمية، فلقد كان الرجل بالفعل نموذجا للرئيس المستنير الذي استطاع أن ينتشل بلاده من ويلاتها وخيبة سياسييها وأدخل التنمية في كل المجالات من الفن إلى المسرح إلى الاقتصاد، واتخذ موقفا متشددا تجاه الفاشية والنازية، وقد استمرت هذا النهضة قرابة 20 عاما، ومع استمرار حزب الثورة المؤسسي في الحكم لحقب طويلة، استطاعت المكسيك أن تجد التنمية السياسية، ولكن الحزب لم يستطع أن يؤقلم نفسه على المتغيرات الدولية والتيارات الليبرالية وانتشار هذه التيارات، ولهذا فقد الحزب قدراته وانفتحت المكسيك بتياراتها السياسية المختلفة نحو الليبرالية.

حقيقة الأمر أن قصة كفاح المكسيك ضد المستعمر، ثم من أجل وضع إطار سياسي مقبول مبني على أسس شرعية يعترف بها المواطنون، تعد بكل المعايير قصة تعيسة عانت فيها البلاد من مجموعة مشكلات ظلت تلازمها قرابة قرنين من الزمان؛ متمثلة في ضيق أفق الساسة، ومشكلة اختلاف الرؤى والأهداف السياسية، ليس فقط من حيث الآيديولوجية، ولكن من حيث صراع طبقات، ودور سلبي للدين لا يخفى عن العين المجردة، فضلا عن التدخلات الخارجية خاصة للولايات المتحدة، ففي الوقت الذي حسم فيه الأميركيون ثورة الاستقلال وأرسوا بعدها مباشرة نظام الحكم ممثلا في الدستور، فإن المكسيكيين فشلوا في ذلك تماما، وما أنجزه الأميركيون في قرابة 10 سنوات فشل فيه المكسيكيون على مدار ما يقرب من قرنين، وذلك على الرغم من أن الظروف السياسية في الدولتين كانت غير بعيدة، وقد يكون في المقولة الشهيرة بأن «المكسيك مسكينة لأنها بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة» ما يبرر هذا الفشل المقارن، ولكن يبدو واضحا أن غياب المؤسسية منذ البداية هو الذي دفع المكسيك لهذا الخراب الممتد الذي لولاه لكانت هذه دولة عظمى بدلا من التآكل الداخلي الذي أصابها لأكثر من قرن ونصف القرن.

ولعل أهم درس مستقى من الحالة المكسيكية هو أن الثورات قد تكون عبئا على شعوبها عندما تغيب المؤسسية ومعها الاتفاق الشعبي (الشرعية) على أسس الحكم وتظهر الفردية وينحط مستوى الساسة.

* كاتب مصري