من التاريخ: القياصرة وتحولات الدولة الروسية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تابعنا، خلال الأسبوع الماضي، كيف تحولت دوقية موسكو إلى دولة على الساحة الأوروبية، ثم سرعان ما قام «إيفان الرهيب» بوضع الأسس الإدارية والعسكرية للدولة، وسعى لفتح طرق التجارة وتطوير بلاده، وعند وفاة الرجل في عام 1591، فإن روسيا صارت بالفعل دولة قوية لها ثقلها النسبي، ولكنها ظلت معزولة عن المسرح الأوروبي وامتدادها الطبيعي فيه، ولكن هذه الدولة سرعان ما عانت من غياب ولي العهد، فدخلت في حالة من الفوضى وحرب أهلية، كما كان لدول أخرى، مثل بولندا، أطماعها فيها، فبات كما لو أن الدولة الروسية على وشك الانهيار، بعد عمر نسبي قليل، خاصة مع التطاحن الشديد بين الإقطاعيين وبروز أطماعهم، ولكن القدر كان له حكمه المختلف، فسرعان ما استطاعت القوى الروسية المتفرقة هزيمة النفوذ البولندي، وذلك في الوقت الذي اجتمع فيه حكماء الأمة في مجلس قرروا خلاله حسم خلافاتهم من خلال الاتفاق على تثبيت «ألكسي ميخائيل» من عائلة الرومانوف ملكا على البلاد، وهي الأسرة التي حكمت روسيا حتى الثورة الروسية في 1917.

على الرغم من حداثة سنه، فإن «ألكسي ميخائيل» استطاع أن يضبط إيقاع الدولة على وجه السرعة، خاصة المسائل الإدارية، وخلق نوعا من التوازن بين القوى الرئيسة الثلاث التي كان لها أكبر الأثر في السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، وعلى رأسها طبقة الإقطاعيين، أو «البويار»، ومجلس الدوما، ومؤسسة الكنيسة، والحاشية السياسية التي كانت حوله، وقد استطاع ذلك، من خلال منح الإقطاعيين مزيدا من النفوذ، خاصة فيما يتعلق بأراضيهم، كذلك بدأ الرجل في تنظيم الجيش الروسي مرة أخرى، والسعي لفتح قنوات اتصالات خارجية وتنظيم أمور الدولة، وهو ما سمح بانتقال سلمي للسلطة لابنه ألكسي بعد وفاته.

سعى القيصر الجديد لتحسين الأوضاع في بلاده، ولكن في سعيه لاستمالة طبقة «البويار»، أصدر القوانين التي سمحت لهم بالتوسع في ممتلكاتهم، من خلال تمليكهم العاملين في إقطاعيتهم، أو «الأقنان»، مما حول الملايين إلى ما يشبه العبيد يُباعون ويُشترون في الأسواق، وهو ما خلق حالة من التذمر الشديد داخل البلاد انتهت بثورة عارمة لم يستطع الرجل السيطرة عليها بسهولة، خاصة بعدما أرسل جيشا لضربها، فما كان منه إلا أن انضم للثوار، ولكن كعادة مثل هذه الثورات، التي قد يكون الحق معها، ولكن ليس الغلبة، فيكون مصيرها الفشل، وهو ما حدث عام 1671، بعدما هزمتها قوات القيصر، وجرى القبض على قائد الثورة وإعدامه، مما أنهى المعارك الجارية، ولكنه لم يخمد الثورة الطبقية الداخلية، التي بدأت تشتعل ولكن بشكل خفي داخل البلاد، إلى أن بدأت تتفجر في مطلع القرن الـ20، كما سنرى، ولعل ما زاد من التوترات أن إصلاحات هذا القيصر استفزت الكنيسة المحافظة في روسيا، حيث كان الرجل في سعيه للتطوير والحداثة يلجأ لترجمة العهد القديم والجديد، وهو ما لم توافق عليه الكنيسة، التي بدأت تستشعر القلق من الوجود الغربي في البلاد، الذي بدأ يزيد نسبيا بسبب الخبراء الذين كان الرجل يجلبهم من الخارج، خاصة الألمان، الذين نقلوا معهم الحياة الغربية بكل ما حملته من متغيرات، فضلا عن المذهب البروتستانتي، لم تكن روسيا المحافظة وكنيستها على استعداد لاستيعابها.

وعلى الرغم من الظروف السياسية الصعبة التي عاني منها هذا القيصر، فإنه استطاع أن يُسجل بعض النجاحات على الساحة الخارجية، فلقد مد حدود بلاده في الغرب حتى استولى على أوكرانيا، كما حجّم بولندا تماما، ومد الحدود الجنوبية حتى قرب البحر الأسود، وأعاد إحياء طرق التجارة التقليدية، وفتح طرقا جديدا حتى يمكن لبلاده أن تتفاعل مع الغرب.

على الرغم من أن أسرة «الرومانوف» لم يكن لها من ينافسها على سدة الحكم، فإن الخطر الحقيقي الذي وقع عليها كان داخليا؛ فهذه الأسرة كانت مبتلاة بخلافات واسعة النطاق، فتاريخ تقلد القياصرة الحكم كان دائما محاطا بدسائس القصر والمؤامرات المختلفة، التي وصلت لحالات القتل والعزل وغيرها من الأمور المعروفة في صراعات السلطة السياسية، ولكن الرومانوف عانوا منها بشكل محدد، فالتحديات كانت داخلية في هذه الأسرة، ومع ذلك فكأن الله وهب روسيا قيادات كل 50 عاما أو ما يقرب تجدد لها شبابها ورونقها السياسي والعسكري والتجاري والثقافي، وفي هذه الحالة فقد كانت هاتان الشخصيتان هما بطرس الكبير (الذي سبق أن تناولناه في مقالة منفصلة في هذا الباب) و«كاترينا الكبري»، وهما في حقيقة الأمر تجسيد لروح الزمن السلطات المطلقة للملوك Age of Absolutism الممزوجة بروح التنوير Enlightenment، وهما الظاهرتان الأوروبيتان اللتان على الرغم من تناقضهما الظاهري، فإنهما سارا معا بشكل متوازٍ دون أي مواجهات سياسية أو اجتماعية مرتبطة بهما. لقد أخذ بطرس الكبير على عاتقه عملية تطوير البلاد وإدخالها للحداثة الأوروبية القائمة، من خلال جلب الخبراء في كل الميادين، وفتح طرق التجارة الروسية مع الغرب، بعد أن كانت في شبه عزلة، كما أنه يرجع له الفضل في إقامة أول جيش قومي في أوروبا من خلال الجيش الروسي المعتمد على تجنيد الفلاحين الروس، وهو ما يعكس أن روسيا قد سبقت أوروبا، في أنها كانت أول دولة مبنية على الأسس القومية في العصر الحديث، وهي ريادة سرعان ما تبعتها أوروبا بعد ظهور عهد الدولة القومية الذي بدأ في القرن الثامن عشر، ولكن هذه الإصلاحات ووجهت بكنيسة متصلبة رفضت قبول الخبراء الأجانب خاصة البروتستانت منهم والبدع التي كان هذا الرجل يريد إدخالها في المجتمعات الروسية المنغلقة، ولكن الرجل واجه كل هذه الضغوط بمنتهى القسوة والحزم والعنف، وهو العنف الذي لازمه حتى في تعامله حتى مع ابنه، الذي يقال إنه عذبه حتى الموت، ولكن يبدو أن الاتزان النفسي لم يكن أفضل سمات هذه الأسرة الحاكمة على الإطلاق.

لقد تولت كاترينا الحكم، بعدما شاركت في مؤامرة من القصر لقتل زوجها القيصر، الذي كان يعاني من الاضطرابات النفسية والتقلبات المزاجية الحادة، وعلى الرغم من كونها ألمانية الجنسية وبروتستانتية الملة، فإنها استطاعت أن تدخل النسيج الروسي، من خلال إتقان اللغة الروسية واعتناق المذهب الأرثوذكسي، كما أنها استطاعت أن تجذب بشخصيتها القوى الروسية المختلفة إلى أن أصبحت الموازنة والمهيمنة عليها وعلى مقاليد الحكم في البلاد، بلا أي منازع، خاصة أنها أحاطت نفسها بمجموعة من الرجال الأقوياء سياسيا، وكانت على علاقات مختلفة معهم، إلى الحد الذي جعلها تضع أحد عشاقها على عرش بولندا.

ويرجع الفضل إلى كاترينا الكبرى في خلق الروح الثقافية الروسية، حيث كان اهتمامها الشديد بالثقافة الأوروبية، وكانت على اتصال بالأدباء والمفكرين الغربيين، كما أنها استطاعت في المجال الخارجي أن تستثمر عمل بطرس الكبير، فأصبحت روسيا في عهدها القوة الإقليمية الأساسية في شرق أوروبا على حساب الدولة التقليدية، مثل بولندا وليتوانيا والسويد والدنمارك، وهكذا أصبحت روسيا جاهزة للأقدار التي رمتها في أتون حروب فرنسا الثورية على يدي نابليون بونابرت لتخرج روسيا من ثوب القوة الإقليمية إلى ثوب القوة الدولية، بعدما أصبحت حدودها تمتد من بولندا إلى سيبريا وألاسكا في الغرب وحتى القوقاز في الجنوب، وهكذا أصبح المارد الروسي مستعدا لهز أوروبا وحسم مستقبلها، على الرغم من المنافسة الشديدة.

* كاتب مصري