بولند أرينج في مواجهة «السلطان»

أحد الثلاثة الكبار في «العدالة والتنمية» يتحدى أردوغان في عقر حزبه

TT

لا يصدق كثيرون تصريحات نائب رئيس الوزراء التركي بولند أرينج بأنه «يريد أن يرتاح»، ولا يقتنعون بأن الرجل الذي يعمل في السياسة التركية منذ عام 1970، وتنقل في المناصب العليا في البلاد، سوف يترك العمل السياسي بكل بساطة.

فالرجل الذي يُعد واحدا من «الثلاثة الكبار» في الحزب الحاكم، إلى جانب رئيس الدولة (المستقيل من الحزب) عبد الله غل، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، كان من القلائل الذين تجرأوا على الوقوف بوجه رئيس الوزراء التركي المعروف بصلابته وحدته، وخاض معه حربا إعلامية مؤخرا لوح في إحدى محطاتها بالاستقالة من الحكومة التركية، قبل أن يرضخ لوساطات «سعاة الخير»، ويجمد قراره بالاستقالة، مرفقا إياه بقنبلة الانسحاب من العمل الحكومي والنيابي.

أرينج البالغ من العمر نحو 66 سنة، لا يزال لديه الكثير ليقدمه، ولا يزال محافظا على ذاكرة حديدية تسعفه في تذكر أدق التفاصيل، ووجوه التقاها مرة واحدة بعد سنوات حتى إن مساعديه يشبهونه بـ«الخلد» لقوة ذاكرته. ويقول أحد الصحافيين غير الأتراك إنه أجرى حوارا دام أقل من ساعة مع أرينج، ولما كان يشارك في أحد الاجتماعات التي كان يرعاها أرينج، فوجئ بالأخير يناديه من بين الجموع باسمه ليشكره على المقابلة، ويسأله عن أحواله.

الذين يعرفون أرينج يقولون إن الرجل المعروف بصلابته، سوف يقوم بعمل ما. وإنه لا يمكن أن ينسحب من السياسة بقرار لحظوي، لكنهم يعرفون أيضا أنه سوف يكون له موقف يواجه به أردوغان في وقت لاحق، فقد فضّل تغليب «المصلحة العليا» للتيار الإسلامي المحافظ الحاكم على عتبة الانتخابات المحلية، لكنه لن يسكت على ما تعرض له من إحراج يراه البعض مقصودا من قبل أردوغان في قضية «بيوت الطلبة»، التي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين الرجلين. فأرينج خرج بعد أحد الاجتماعات الحكومية يقول إن الموضوع لم يُبحَث، ليخرج بعدها أردوغان مكذبا إياه، ومنتقدا تصريحاته.

وتتلبد السحب في آفاق مستقبل أردوغان السياسي قبل أربعة أشهر من دخوله في نفق انتخابي سيشغل البلاد حتى 2015، وبعد أن فاز بفارق كبير في الانتخابات التشريعية الثلاثة الأخيرة، بات أردوغان، الذي يهيمن على الساحة السياسية التركية بلا منازع منذ أكثر من عشر سنوات، موضع ثناء للقفزة الاقتصادية الهائلة التي حققتها بلاده في عهده، ولكن منتقديه الذين يلقبونه بـ«السلطان» باتوا يطعنون في انحرافه التسلطي عشية اقتراع محلي حاسم.

ويرى فاروق أونصال، وهو محلل سياسي وعضو سابق في البرلمان عن العدالة والتنمية، أن ما حصل بين أرينج وأردوغان، ويسميه البعض شجارا «ما هو إلا عبارة عن تحضير للانتخابات المحلية المقبلة، حيث يحاول رجب طيب أردوغان كسب أصوات المحافظين من الشعب التركي، ولهذا حاول استغلال مواضيع، مثل بيوت الطلبة، التي يدعي أنها مختلطة، وهذا موضوع حساس بالنسبة للمحافظين الأتراك والأكراد».

ويرى أونصال أن أرينج «حاول إنكار الموضوع (لأنه حساس)»، مشيرا إلى أن أردوغان لم يجد داخل الحزب من يؤيده في موقفه حيال بولند أرينج وبقي وحيدا»، موضحا أن «أربعة من الوزراء أعلنوا دعمهم لموقف أرينج، الذي يحظى بتأيد كامل من الحزب»، معلنا كعضو في الحزب تأييده «موقف بولند أرينج المحق».

وينفي أونصال ما يقوله البعض من أن الصراع هو «صراع طرق صوفية»، ويرى أن «هذه افتراءات غير صحيحة، لا يوجد لها مكان في الحزب». ويقول: «من الطبيعي أن يكون في مثل هذه الأحزاب التي تضم جميع فئات يمين الوسط أن يخرج بين الفينة والأخرى خلاف في وجهات النظر، لكني لا أعتقد أن هذه الخلافات يمكن أن تؤثر على النسبة التي سيفوز بها الحزب في الانتخابات، بل سيخرج أقوى من قبل».

ويشير أونصال إلى ما قام به أردوغان من دعوة مسعود بارزاني لافتتاح كثير من المشاريع في نهاية الأسبوع في ديار بكر، ودعوته مغنيا كرديا هاجر من تركيا قبل 30 عاما لإحياء حفل في ديار بكر، ليضعها في إطار مساعي «كسب أصوات الشارع الكردي المؤيد لحزب السلام والديمقراطية».

ويقول رأفت باللي، وهو محلل سياسي وصحافي تركي إن «الصراع ليس صراعا بين أرينج وأردوغان، ولكنه صراع بين الرئيس التركي عبد الله غل وجماعة فتح الله جولان من جهة، وأردوغان من جهة أخرى، وهذا ليس جديدا على الساحة، بل قديم جدا».

ويضيف: «الجميع يعلم أنه في خلال الشهور الـ18 المقبلة سوف تشهد تركيا ثلاثة انتخابات، هي الانتخابات المحلية، ومن ثم انتخابات الرئاسة، ويليها انتخابات البرلمان، لذلك يحاول الجميع أن يثبت نفسه وثقله على الساحة السياسية، ومن ثم على الحزب، من سيكون رئيس الجمهورية ومن سيكون رئيس الوزراء».

ويشير إلى أن غل ليست لديه أي نية لترك كرسي رئاسة الدولة. وفي المقابل، يريد أردوغان اعتلاء منصب رئاسة الدولة. ويضيف: «غل ومؤيدوه، وفي مقدمتهم أرينج، يحاولون إضعاف جبهة أردوغان لكي لا يصعد إلى الرئاسة، وفي المقابل، رجب أردوغان يعي اللعبة التي تحاك ضده، ويعلم جيدا أنه لا يرغب في أن يبقى على رئاسة الحزب والحكومة، ويعرف جيدا أن الطرف الأخير يريد تصفيته سياسيا، ولهذا يلعب الجميع بأوراق مكشوفة»، معربا عن اعتقاده بوجود «تحالف ضمني بين غل وأرينج لتصفية أردوغان من جميع صلاحياته».

يقول باللي إن أرينج يُعد من أهم المؤسسين في الحزب، و«هو من أعقلهم وأحنكهم سياسيا، والآن يطالب بأن يكون رئيسا للوزراء على الأقل للفترة التي سيصعد فيها أردوغان إلى سدة رئاسة الدولة، ويقول إن عبد الله غل اعتلى منصب رئيس الوزراء، ومن ثم وزيرا للخارجية، ومن ثم رئيسا للدولة، وأردوغان هو من يعتلي منصب رئاسة الوزراء منذ 10 سنوات، ولكن أرينج لم يعتل أي من المناصب الكبرى في البلاد، ولهذا يرى أن من حقه اعتلاء منصب رئاسة الوزراء بعد أردوغان، ولكن أردوغان لا يريد أن يخلفه أرينج في رئاسة الوزراء».

ورأى باللي أن أرينج كان من أهم وأكثر إداريي الحزب حكمة، وكان له تأثير كبير على الحزب، ولكن أردوغان منذ عدة سنوات قلل من تأثير أرينج تدريجا على الحزب، ويعمل في كل فرصة تلوح له على أن يصفيه من الحزب تماما، ولهذا السبب نرى بين الفينة والأخرى تصريحات مدروسة أو غير مدروسة من كلا الطرفين»، معطيا على ذلك مثلا، هو أن ردة فعل أردوغان على تصريحات أرينج حيال بيوت الطلبة لم تأت مباشرة أو عفوية أو بعد ساعات بل أتت بعد دراسة وحسابات من فريق أردوغان استمرت ثلاثة أيام، وكانت تهدف إلى تكذيب أرينج، مشيرا في المقابل إلى أن ردة فعل جبهة أرينج على أردوغان أيضا أتت بعد تأنٍّ ودراسة أيضا.

ويوضح باللي أن الحزب (العدالة والتنمية) يعيش صراعات كبيرة، فنرى أن أردوغان لم يتراجع أي خطوة عما قاله، بل أكد عليه، وقال إنها خلافات نحلها فيما بيننا داخليا، على عكس ما كان ينتظر الطرف الثالث في الحزب، على أساس أن يقف أردوغان عند خاطر أرينج وينهي الأمر، وفي المقابل أيضا أرينج لم يتراجع ولم يتصل بأردوغان».

ولد بولند أرينج في 25 مايو (أيار) 1948 في مدينة بورصة التركية، لكنه عاش طفولته في مدينة مانيسا، ودرس فيها حتى المرحلة الثانوية، قبل أن ينتقل إلى أنقرة للدراسة الجامعية حيث نال من جامعتها إجازة في الحقوق عام 1970. وعاد إلى مانيسا بعد تخرجه ليعمل فيها محاميا لحسابه الخاص.

وكان أرينج يتعاطى العمل السياسي خلال سنواته الجامعية. وعلى الرغم من أن والده كان عسكريا، فإنه تأثر كثيرا في حينها بالزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، واستمر في العمل العام قريبا من الإسلاميين إلى أن جرى انتخابه نائبا عن مانيسا في الانتخابات العامة عام 1995، ودخل الجمعية الوطنية التركية الكبرى تحت جناح حزب الرفاه، حيث انتخب عضوا في مجلس الحزب، وخدم في لجنة العدل في البرلمان. وبعد حظر حزب الرفاه من قبل المحكمة الدستورية في تركيا في 15 فبراير (شباط) 1998، انتقل إلى حزب الفضيلة الذي أسس كبديل عن الرفاه. وقد تكرر انتخاب أرينج في عام 1999 نائبا في مانيسا، لكن هذه المرة عن حزب الفضيلة، وأصبح عضوا في لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان.

واشتهر في الحزب بأنه مشاغب. فقد كان أرينج يتسم بالإصرار وعدم الرضوخ ويسعى دائما لتحقيق أهدافه. وقد دعا إلى تطبيق المزيد من الديمقراطية داخل أروقة الحزب. وانتقد قرار أربكان بتشكيل حكومة ائتلافية في عام 1995 مع «أحزاب اشتهرت بالفساد».

ولما حظرت المحكمة الدستورية حزب الفضيلة في 22 يونيو (حزيران) 2001، خرج بولند أرينج من تحت جناح معلمه، وأسس مع زميليه في الحزب، عبد الله غل ورجب طيب أردوغان، حزب «العدالة والتنمية»، الذي بدأ يحصد نتائج إيجابية، ووصل إلى السلطة، فتقلب أرينج في المناصب؛ رئيس مجموعة حزبه في البرلمان، ثم انتخب نائبا للمرة الثالثة عن مانيسا في الانتخابات العامة التي أجريت في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002. وبعد أسبوعين فقط، انتخب رئيسا لمجلس النواب. وفي الأول من مايو (أيار) 2009، جرى تعيينه في منصب وزير الدولة المسؤولة عن المؤسسات ونائب رئيس الوزراء في الحكومة الثانية لأردوغان، كما فاز في الانتخابات مجددا ليصبح نائبا لرئيس الحكومة الثالثة لأردوغان مسؤولا عن الإعلام وناطقا رسميا باسمها.

كان أرينج من أبرز منظّري الحزب الحاكم، وعرف بجرأته الشديدة التي وصلت معه إلى حد رفض «هالة القداسة» التي يضفيها العلمانيون على مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال الملقب بأتاتورك، حيث قال في إحدى خطاباته: «أقلق كثيرا عندما يستخدم الناس أسماء المذاهب في حديثهم. فالإسلام دين جيد، بينما الإسلاموية ليست كذلك. وأتاتورك شخص جيد أيضا، ولكن أولئك الذين يستغلون ذكراه، ويطلقون على أنفسهم لقب الكماليين ليسوا كذلك. فقد كان أتاتورك بشرا فانيا، وليس نصف إله.. والعلمانية تعنى الحرية. وعلى الرغم من انتشار العلمانية في الغرب، فإن الغرب ليس علمانيا».

وفي المقابل، يصفه خصومه بأنه «زعيم مجموعة من المتشددين داخل الحزب الحاكم»، مستدلين إلى ذلك بأن اسمه كان في رأس قائمة المدعي العام في أنقرة عندما طالب في عام 2008 بحظر حزب العدالة والتنمية، لأنه «مركز تنسيق لأنشطة مناهضة للعلمانية».

ولعب أرينج دورا بارزا في إقناع أردوغان بالتخلي عن ترشيح شخصية «معتدلة» لرئاسة البلاد في عام 2004، حيث كان الأخير يميل إلى شخصية من خارج الحزب لاتقاء غضب العسكر والمحكمة الدستورية، لكن أرينج رفض، وقال في تصريح علني: «إن شعبنا يريد رئيسا مدنيا يتسم بالورع ويحكم بالديمقراطية.. رئيسا ترتدي زوجته الحجاب». وأعرب أرينج عن استعداده للتضحية بمنصبه كرئيس للبرلمان لتأمين ترشيح شخص من الحزب رئيسا للبلاد، وبعد اجتماع دام ساعتين مع أردوغان، خرج الأخير ليعلن أن وزير الخارجية عبد الله غل هو مرشح الحزب».

ويقال إن ارتباط أرينج مع التيار المحافظ في السياسة التركية هو سبب النفوذ الكبير الذي يحظى به أرينج داخل حزب العدالة والتنمية، مشيرين إلى أن أردوغان عينه نائبا لرئيس الوزراء في إطار صفقة مع أحد الأحزاب الإسلامية التقليدية الذي ضاعف من دعمه لأردوغان في الانتخابات المحلية.